طَرَفٌ مِنْ خَبَرِ
"لُبْنى شِعْرُ مُحَمَّدْ جَمالْ صَقْرْ"
د. محمد جمال صقر
خالد عمار
كتبيٌّ مِصْريّ
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد .
"ألا من يشتري سهرا بنوم"
هذا لسان الحال لمن يحمل رأسا لا يخلو من فكر تتصارع به الأفكار والآراء والمذاهب والحاسبات والحسابات يرنو إلى الراحة ولا يريدها ولا يصل إليها وإن مر بالدعة لم يركن إليها وإن ركن إلى أمر صباحا لفظه مساء ، يتبرم بتفاهات الأمور ، وتراوده كبارها عن نفسه فيسلم لها عنان القلب فتجول به السموات والأرض لا تذيقه قلبه معنى الراحة والهناءة حتى إذا ضاقت عليه الأفكار بما رحبت وظن أن لا ملجأ له نطق لسان حاله وطلب الراحة وتمنى أن لو لم يكن له لب ولا فهم وكما قال المتنبي :
الحر يشقى في النعيم
و إنما هي شقاوة ما بعدها شقاوة وشقة ما بعدها شقة ولربما تضيق الدنيا على هؤلاء الأشقياء فلا يجدون متسعا للتنفيس إلا على باحات الأوراق فيخطون كلاما ويسردون حديثا أو ينظمون قافية تلك سلوتهم ؛ فإن رأى ذلك الخليُ من تلك الهموم لمزهم بالقول أو أشفق عليهم ورثى لحالهم أو مصمص شفتيه قائلا ما أخلى بالهم ..
أما من أدركته حرفة الأدب بمعناه الشامل الأشمل شاركهم في خوضهم والتذ بمعاناتهم وطرب، أو تأنف أو غضب، أو كما يقول المحدثون تواصل معهم على تلك المائدة فاستحسن منها ما استحسن ورضي منها بما رضي .
وقد ساق إلي أحد الأشقياء أقصد الأدباء العقلاء طرفا من أدبه فما أن رأت عيناي منظر الكتب حتى هاج بي شوق قديم وسال لعاب وقرقر بطن وتلمظت وقلت هيه فقد مر زمن بل زمان ـ (وللمدود زيادة في مبناه تومي إلى أمر في معناه) لم أذق فيه شيئا من موائد الأدب وما أقبلت عليها وقد حفلت المائدة بشتى الأصناف من نظم ذي إيقاع ونثر وفكر وإبداع فغسلت رأسي عن همومها وسميت باسم الله وأقبلت على تلك المائدة واستعذت بالله من شيطان النقد ذو اللسان الحديديّ والطابع الاستفزازيّ والبيان التهكميّ ومن شيطان الهوى المسول عبارات الإحسان ومسوغها لنيل القرب والحظوة من صاحب تلك المائدة سيما وأنه قريب من القلب وأخشى أن يصير بيني وبينه شيء من مغبة العتب .
فأستعين الله عليهما لأقول صدقا وأشهد حقا والصدق منجاة والحق يهدي صاحبه وإن ضل بفلاة والله المستعان وهو من وراء القصد
وفي البدء كان الشعر
وقد رأيت أن يكون العنصر الزمني هو ضابط الترتيب في هذه المحاولة النقدية وأقدم الأعمال التي بين يدي هو ديوان الشاعر ( لبنى ) واختيار الاسم إن دل على شيء يدل على أننا مقبلون على مائدة تحمل أطيب الأصناف وأحبها للقلوب وأقربها للنفوس فهو صنف الحب بمعناه الأشمل أو بمعناه الخاص كلاهما قريب من قلب المتلقي فلنقبل على المادة لنرى هل لتلك القصائد من عنوانها نصيب
* استوقفني ذلك الترقيم لعدد القصائد وأقصد بين القوسين بعد كل عنوان وليس بالترقيم هو حاشية أو هامش كما يسميه البعض وهي كما يبدو خمسون حاشية لعشرين قصيدة بمعدل 2.5
حاشية لكل قصيدة .
فإن قائل قائل : يا أيها الشاعر حسبك الشعر وكفى به شهيدا بيننا وبين شاعريتك لا أن تشفع لكل قصيدة بحاشية على أشعارها لتكون توضيحا فما وظيفة الشعر إذا إن لم يفصح عن نفسه دون الحاجة لتلك المذكرات التوضيحية المرفقة ؟
قلنا: الحق أن هذا الكلام فيه نظر فالقصائد قلما تخلو من مقدمة أو كلمات لتكون مدخلا أو تهيئة للقارئ لجو القصيدة أو تقرب القارئ من عالم الشاعر من قبيل الألفة ومن قبيل ( وما تلك بيمينك يا موسى )
ولا نقف دون هذا المسلك أو نقف معه إنما نحن مع الشاعر فيما ارتضاه لشعره وإن حسن منه مسلكا فهو حسن وإن إن لم يلق منا رضا قلنا ما يجب أن يقال.
لكن ألم تكن تلك الموضحات جديرة بأن تكون في جوار النص كما تعودنا أن نراها ويصغر حجمها قليلا عن النص أو يساويه لا أن تكون في آخر الكتاب.
أم تراها شينا ألصق بأخرة فلا هو من الديوان ولا من الشاعر وهو منه براء فأخره
ولنبدأ بالديوان وقد وقع تحت يدي مخطوط نادر لأحد الشراح لهذا الديوان وقد آثرت أن يكون نقدي من خلال هذا الشرح أو من خلال ما اصطفيناه من هذا الشرح ليكون معينا لنا في استجلاء ما غمض علينا من القصيد
قال شارح الديوان :
قال أبو براء في مقدمته لديوانه بعد أن ذكر شعرا عن قيس لبنى
( فأيتها القصائد ) يقصد قصائد الديوان العشرين والنداء فيه تعظيم يدل على حب الشاعر لشعره وقوله ( فأيتها ) فيه حذف لحرف النداء وقوله ( لا بأس عليك ) دعاء ولعله قصد بالبأس ألسنة الناقدين أو لعله يقصد بالبأس تثريبا من قبل نفسه أو هي كلمة يراد بها التقليل من شأن هذه القصائد على نفسه ولا أظن ذلك لأنه لو أراد ذلك لقال لا بأس بك ولأنه يتنافى مع تقديم الشاعر لهذه القصائد ( قربانا ) لـ ( لبنى ).
ولبنى رمز تتعدد مستوياته من أنثى حقيقية التأنيث ذات .... و .... إلى حقيقة مطلقة صوفية هي الذات الإلهية ـ أعاذنا الله من ضلال الشعراء ـ أو هي الأدب والفن .
قلت ـ والكلام لصاحب المحاولة النقدية ـ : ويبقى أن نعرف ما دلالة هذا الرمز عند الشاعر ولن يكون قبل استكشاف عالمه الشعري من خلال القصائد ونعود للشارح :
قوله ( يخاف البيات ) أي عذاب البيات وهكذا هي عند ابن الجوزي في صيد الخاطر ( عذاب البيات ) أما ما أتى به أبو براء فهو في الكشكول عند البهاء العاملي نقلا عن كشاف الزمخشري قال صاحب المحاولة : فلا ندري هل هو هكذا في نسخة صيد الخاطر عنده أم أنه تصرف في نقله ولا نلقي عليه بلوم فالأمر هين إن كان من شاعر لا يحسب للنقل حسابات المحدثين والنقلة المحترفين .
ولكن من الربيع بن خيثم هذا ؟ لقد أغفله الشارح فما تكلم عنه وما أشار إليه الشاعر في الخمسين حاشية من قريب أو من بعيد .
قلت : لعله هذا العلم التابعي الجليل رضي الله عنه ولو قلت سيدنا الربيع ما وفيته حقه فهو من السادة وله حق السيادة دون غيره من الأسياد في ثنايا مؤلفاتكم، أما تكفيه شهادة ابن مسعود t له قائلا : "لو رآك رسول الله r لأحبك " .
لا أظن شهادة تعدل تلك الشهادة وتدخل به إلى عالم السيادة .
ولا أظن أني قصرت لمن سأل عن الربيع في الجواب ولكن عندي يا سيدي عتاب قال ابن حجر في التقريب : الربيع بن خُثَيْم ـ بضم المعجمة وفتح المثلثة ــ بن عائذ بن عبد الله الثوري أبو يزيد الكوفي ثقة عابد مخضرم من الثانية ...مات سنة إحدى وقيل ثلاث وستين فهو خُثيم إذا وليس خيثم ولكن الشاعر الشاعر فقط معذور وقل من يسلم من مثل هذه الأمور .
وقد ألقت ظلال الربيع على لبنى ظلا صوفيا فهل يصدق هذا الظل أما أنه سرعان ما ينقشع لنرى للبنى ظلالا أخرى في الديوان أو ربما ظلالا أخرى في القصيدة .
عود إلى الشارح
( تخذتك يا ليل مجلى كفاتا ) قال شارحه: قال أبو براء: مجلى أي مظهرا وكفاتا مخفيا هكذا قال
وقال ابن منظور الإفريقي رحمه الله في اللسان : كفَتَهُ يَكْفِتُهُ: صَرَفَهُ عن وجْهِهِ فانْكَفَتَ،وكفت الشيءَ إليه: ضَمَّهُ، وقَبَضَهُ، ككَفَّتَهُ، وكفت الطائِرُ وغيرُهُ كَفْتاً وكِفاتاً وكفيتاً وكَفَتَاناً: أسْرَعَ في الطَّيرَانِ والعَدْوِ، وتَقَبَّضَ فيه.ورَجُلٌ كَفْتٌ وكَفيتٌ: سريعٌ، خفيفٌ، دقيقٌ.
وكافَتَهُ: سابَقَهُ. والكِفاتُ، بالكسر: المَوْضِعُ يُكْفَتُ فيه الشيءُ، أي: يُضَمُّ ويُجْمَعُ. والأرضُ كِفاتٌ لنا ... وماتَ كِفاتاً ومُكافَتَةً: فَجْأَةً. أ هـ
فهل غبننا ابن منظور حين لم يذكر بين معاني الكفات الخفاء كما ذكر أبو براء في حاشيته ؟
وقد انصرف ذهني أولا إلى قوله تعالى : ) ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا ( فقلت قد اتخذ الشاعر الليل موطنا أو موضعا كافيا للتجلي له فلبس علي الفهم وذلك الوجه تلك الحاشية
عود إلى الشارح :
( تغول ) المخاطب الليل وهو يغول الرجاء أي يغتاله أي يهلكه في خفاء وخلسة بتفويت الحظوظ قلنا أي النويقيد : لكن ما شأن الليل مع الشعراء هم يضيقون به كما فعل الضليل الأكبر حين ضاق بإرخاء سدوله عليه أو يجدون فيه متنفسهم كما قال ابن عبد الصبور : الحمد لمن أعطانا هذا الليل .. أما الليل عند شاعرنا فهو غادر آثم متخذ مجلى في أول البيت فهل ضاق بالليل أم أحبه غامت الرؤية فعدنا للشارح نستبطن المعاني من شرحه يقول: عن صحبة عمر نشيط :
هي الأفكار والتأملات وقد أبدلت بعمر من الموات وهي حالة من الركود هكذا فهم الشارح
وقال عن ( لبنى ) وهي بين أقواس في القصيدة أيضا هي إشراقة الأمل في نفس هذا الشاعر أو العاشق أو الربيع نفسه المتخذ هنا رمزا لعله نفس الشاعر .
وتأتي التفاتة الربيع أو الشاعر لابنته لتخرجنا من جو الليل الشعري لنسقط في جوف ليل آخر وتظلم علينا القصيدة في حوار شعري بين الابنة وأبيها ثم يضمن الشاعر مقولة الربيع في شعره بين معكوفتين .
والقصيدة الثانية : ..................
عفوا يا سيدي فقد شدني الشوق إلى لقياكم وما أعددت لهذا اللقاء عدته وقد كنت أرجو له عدة غير تلك البضاعة النقدية المزجاة ، غير أن شوقي للمثول بين يديكم أعجلني ولعله يشفع لي عندكم في تقصيري في حقكم فما استطعت أن أكتب سطرا منذ أن نفيت عن الروضة ـ وأبدلت بها أحد المراكز التجارية بحدائق القبة ـ فلا بورك في القبة ولا من تحتها وكما تقول العوام كنت فاكر تحت القبة شيخ فوجدت تحت القبة قرد .
وما قضيت نهمتي من حديثكم في تلك الأوراق ولا مللت منه ولا عزفت عنه لكنها شواغل الحياة وما أبقت طلاسم خطوط المغاربة ومؤلفات المتأخرين والمتقدمين التي أغرق فيها من الصباح حتى المساء على بقية في الرأس .
وختاما ألقى الله عليكم محبتي كما هي محبتكم في قلبي وجمعنا في مرضاته دوما آمين .
تلميذكم المحب
خالد السعيد
أو كما تحب أن تسميه خالد عمار
الثانية صباحا أعلى الفرن في منزلي بإمبابة 1/8/2007