الغربة والغرباء في ديوان الشعر العربي

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

إذا ما تركنا المعنى اللغوي للكلمة، ونظرنا إلى ديوان الشعر العربي رأيناه حافلاً بشعر الغربة، على اختلاف ألوانها، وتعدد دوافعها: فهناك الغربة الاختيارية أو الإرادية التي تمتد لأيام أو أشهر أو سنوات في سبيل التجارة، أو طلب الكلأ والماء، وهنا نرى الشاعر العربي يحن إلى منازله ومضاربه الأولى ويعبر عن اشتياقه إليها، وإلى أحبابه الذين تركهم بها، وإلى ذكريات طفولته أو يفاعته بهذه الديار.

ومثال هذه الغربة الاختيارية نجده في السنوات الثماني التي عاشها المتنبي بعد أن ترك سيف الدولة سنة 346هـ، وكان أشدها على نفسه السنوات التي قضاها في مصر (346هـ ـ 350هـ) لقد جاءها ومدح كافورًا بالقصائد الطوال طمعًا في أن يقطعه "ولاية" يحكمها. ولكن كافورًا خيب أمله، فعاش المتنبي بلبلاً حبيسًا في قفص، يقتات آلامه، ويبكي ضياعه، إلى أن فارق مصر بليل سنة 350هـ، ضاربًا في الأرض فمضى إلى بغداد، فبلاد فارس، ثم إلى بغداد، فالكوفة، إلى أن سقط قتيلاً على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي سنة 354هـ([1]).

أما الغربة الإجبارية فهي التي يكون الدافع إليها "عامل خارجي" قهار: كالحكم على شخص بالنفي من بلده، أو وقوعه أسيرًا في غير وطنه، أو خروجه منه خوفًا من حاكم ظالم، وخوفا على نفسه من القتل والتلف، فهو يخرج مضطرًا؛ لأنه يرى أن سلامته لن تتحقق إلا في غير الوطن الذي يعيش فيه، وينتسب إليه.

وكانت هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكرمة المكرمة إلى المدينة المنورة "غربة إجبارية" بكل معنى الكلمة([2]). واحتفى الأنصار بالمهاجرين أيما احتفاء، حتى كان الواحد منهم ينزل للمهاجر، ـ بلا مقابل ـ عن شطر ماله، وشطر بيته، ومع ذلك ظلت قلوب المهاجرين معلقة بمكة، يحنون إليها، ويلهجون بذكرياتهم ومعاهدهم بها، ويروى أن بلال بن رباح كان إذا أصابته حمى المدينة اضطجع بفناء البيت، ثم رفع عقيرته فقال:

ألا ليت شعري هل أبيتين ليلة=بفخ وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يومًا مياه مجنة=وهل يبدُوَنْ لي شامة وطفيل([3])

ويذهب الجاحظ إلى أن "الغريب كالغرْس زايل أرضه، وفقد شربه، فهو ذاو لا يثمر، وذوبقل لا ينضر"([4]). وهذا يعني أن المغترب، وليكن هو الشاعر في حالتنا هذه ـ يصاب في مغتربه بحالة إحباط، فتتوقف قريحته، ولا يجود إلا بالنزر القليل من الشعر، كما نرى في حالة الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود، الذي فر إلى العراق من وجه الإنجليز. وظل به من سنة 1939م إلى سنة 1942م، ومع ذلك لم نقرأ له في الحنين إلى وطنه إلا قصيدة أو قصديتين([5]).

ولكن تاريخنا الأدبي يجعل من مثل هذه الحالة استثناء، ومن منا ينسى روميات أبي فراس، وسرنديبيات البارودي، وأندلسيات شوقي، وهي خير ما نظم هؤلاء الشعراء([6])؟

المتنبي والغربة:

ويكثر شعر الغربة في ديوان المتنبي في فترة السنوات الثماني التي ترك فيها سيف الدولة، وبعض هذا الشعر يأتي في تضاعيف قصائد في أغراض أخرى، ولكن هناك ملمحين يشدان النظر في شعره:

الاول: أنه في حديثه عن غربته في سياق قصائده التي تتدفق بالحزن والأسي، يفرط في الفخر بنفسه إلى درجة تقترب من النرجسية، كما نرى في قصيدته التي رثى فيها جدته، وهو مغترب بعيد عنها([7]). وفيها يقول:

ولـو لـم تـكـونـي بـنت أكرم iiوالد
لـئـن لـذ يـوم الـشـامـتين iiبيومها
تـغـرب لا مـسـتـعـظما غير iiنفسه
ولا ســالـكًـا إلا فـؤاد عـجـاجـة
يـقـولـون  لـي "ما أنت" في كل iiبلدة




لـكـان  أبـاك الـضـخمَ كونُكِ لي iiأما
لـقـد  ولـدت مـنـي لأنـفـهم iiرغما
ولا قـابـلا إلا لـخـالـقـه حـكـمـا
ولا  واجـدًا إلا لـمـكـرمـة iiطـعـما
و "ما تبتغي"؟ ما ابتغي جل أن يُسْمَى([8])

أما الملمح الثاني: وهو أطرف من الأول ـ فهو اتجاهه ـ وهو في غربته ـ إلى عالم الحيوان، يبثه الشكوى، ويعبر عن شعوره بفداحة ظلم الإنسان للإنسان. ففي أحد أسفاره، وهو يمر بمكان يعرف بالفراديس من أرض قنسرين يسمع زئير الأسد فيقول:

أجارك  يا أسد الفراديس iiمكرم
ورائـي  وقـدامي عداة iiكثيرة
فهل لك في حِلفي على ما أريده
إذا  لأتاك الرزق من كل iiوجهة



فـتـسكن نفسي أم مهان iiفمسْلَمُ
أحـاذر من لص ومنك.. iiومنهُمُ
فـإنـي بـأسباب المعيشة iiأعلم
وأثريت مما تغنمين iiوأغنم([9])

وفي ذلك لا نجد في شعر الغربة عند المتنبي إلا المعاني المطروقة من حنين، وتعبر عن معاناة الفراق، وتألب الآلام والمواجع الكامنة إذا ما حل العيد وهو بعيد عن الأهل والخلان، والأصحاب، ولعل أشهر قصيدة في ذلك هي داليته التي نظمها عند خروجه من مصر هاربًا من وجه كافور الذي خيب آماله ومطامحه وفي مطلعها يقول([10]):

عيد بأية حال عدت يا عيد          بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟

 أما  الأحبة  فالبيداء دونهمُ         فليت  دونك  بيدا  دونها  بيدُ

الغربة عند ابن زيدون

فإذا ما تركنا المشرق إلى الأندلس وجدنا "ابن زيدون" من المكثرين في شعر الغربة. وكثير منه في الحنين إلى "قرطبة" وإلى حبيبته ولادة بنت المستكفي بعد أن هرب من سجنه. وفر من وجه الأمير ابن جهور، ولجأ إلى "بني عباد" في أشبيلية سنة 1049م. ومن هذا الشعر قصيدته التي مطلعها:

 خليلي  لا  فطر يسر ولا أضحى         فما  حالُ  من  أمسى مشوقًا  كمن أضحى؟

 لئن شاقني شرق العُقاب فلم أزل          أخص بممحوض الهوى ذلك السفحا([11])

وفي مدينة بطليوس أيضًا نظم أرجوزته البانية المشهورة يعبر فيها عن آلام الغربة ويشتاق فيها إلى وطنه وفيها يقول:

يا دمعُ صب ما شئت أن تصوبا

ويا فؤادي آن أن .. تذوبا ..

إذ الرزايا أصبحت ضروبا

لم أر لي في أهلها ضريبا

قد ملأ الشوق الحشا ندوبا..

في الغرب، إذ رحت به غريبا

عليل دهر سامني تعذيبا

أدنى الضنى إذ أبعد الطبيبا

ليت القبول أحدثت.. هُبوبا

ريح يروحُ عهُدها قريبًا

بالأفق المهدي إلينا.. طيبا

تعطرت منه الصبا جيوبا

يبرد حر الكبد المشبوبا([12])

ومن السهل على القارئ أن يدرك أن النبرة المسيطرةعلى أغلب قصائد الغربة عند ابن زيدون هي الاشتياق لولادة والتعبير عن حرقة الحنين إليها، واسترجاع ذكرياته معها.

أبو فراس.. شاعر الغربة

ولكن تبقى روميات أبي فارس الحمداني التي نظمها خلال سبع سنوات عاشها أسيرًا في سجون الروم([13])، أشهر قصائد الاغتراب في الشعر العربي القديم، وأصدقها عاطفة وأعمرها بروح الفروسية العربية، وأجمعها لمعان وأفكار متعددة، فقصيدة الغربة يختلط فيها الحنين بالفخر، وهذه سمة لا تكاد تتوافر في القصائد التي تنضح بها الشكوى والألم، وتتدفق بالأحزان والأوجاع، يقول أبو فراس في قصيدة نظمها في "خرشنة" لما اقتيد إليها أسيرًا جريحًا قبل أن يحمل إلى القسطنطينية:

إن زرتُ خـرشـنة iiأسيرا
ولـقـد رأيـت iiالـنارتنـ
ولـقـد  رأيتُ السبْى iiيُجْـ
نـخـتـار  منه الغادة iiالـ
*            *           ii*
مـن  كـان مـثلي لم iiيبتُ
لـيـسـت  تـحل iiسراتنا






فـلـكـم  أحطت بها iiمغيرا
ـتـهب  المنازل iiوالقصورا
لـبُ  نـحونا حورا iiوحورا
حـسـنـاء والظبي iiالغريرا
*            *           ii*
إلا  أســيـرا أو iiأمـيـرا
إلا الصدور أو القبورا([14])

واعتزازه بنفسه وأنفته، وشممه.. كلها طوابع لا تتخلى عنه حتى وهو في أشد حالات الحزن والاشتياق كما نرى في أبياته المشهورة:

أراك عـصي الدمع شيمتك iiالصبر
بـلـى  أنـا مشتاق وعندي iiلوعة
إذا  الليل أضواني بسطت يد الهوى
تـكـاد  تضيء النار بين iiجوانحي
مـعـلـلتي بالوصل والموت iiدونه
*               *               ii*
فـلا تـنـكـريني يا ابنة العم iiإنه
ولا  تـنـكريني إنني غير.. iiمنكر
وإنـي  لـجـرار.. لـكـل iiكتيبة








أمـا  لـلهوى نهيٌ عليك ولا iiأمر؟
ولـكـن مـثـلـي لا يذاع له سر
وأذلـلـت دمـعا من خلائقه iiالكبر
إذا هـي أذكـتـها الصبابة iiوالفكر
إذا مت ظمآنًا فلا نزل القطر([15])
*               *               ii*
لَـيعرف من أنكرتِهِ البدو iiوالحضْر
إذا  زلـت الأقدام واستنزل iiالنصر
مـعودة  ألا يخل بها iiالنصر([16])

وقد تتحول هذه الأنفة إلى نقمة عاتية، وغضب ساعر على بعض قومه حينما بلغه وهو في أسره أنهم يقصرون في فدائه؛ لأنهم يكرهون خلاصه من الأسر وعودته إليهم، وهو الذي كان يفديهم بنفسه، ويتقدم صفوفهم للقتال ومجابهة الأخطار:

تـمـنـيـتـمٌ أن تـفـقدوني وإنما
أمـا أنـا أعـلـى من تعدون iiهمة؟
إلـى  الله أشكو عصبة من iiعشيرتي
وإن حـاربـوا كـنت المجن iiأمامهم
وإن  نـاب خـطـب أو ألمت iiملمة
يـودون  ألا يـبـصـروني iiسفاهة





تـمـنـيـتـمُ أن تفقدوا العز iiأصيدا
وإن  كـنـت أدنـى من تعدون مولدا
يـسـيئون لي في القول غيبا iiومشهدا
وإن  ضـاربـوا كـنت المهند iiواليدا
جـعـلـت لـهم نفسي وما ملكت iiفدا
ولو غبت عن أمر تركتهم سدى([17])

وله أكثر من قصيدة في معاتبة سيف الدولة؛ لأنه تراخى في دفع فديته لتخليصه من الأسر، وقد يصل هذا العتاب إلى حد التقريع الشديد فمن قصيدة طويلة له يقول:

تـنـكـر سـيـف الـديـن لـما iiعتبته
فـقـولا لـهـ: مـن أصـدق الود iiأنني
ولـو أنـنـي أكـنـنـتـه في iiجوانحي
فـلا تـغـتـر بـالناس، ما كل من ترى



وعـرض  بـي تـحـت الـكلام iiوقرعا
جـعـلـتك مما رابني ـ الدهر ـ iiمفزعا
لأورق  مـا بـيـن الـضـلـوع وفرَّعا
أخوك إذا أوضعت في الامر أوضعا([18])

أقـول  وقـد نـاحـت بـقربي iiحمامة
مـعـاذ الـهوى! ما ذقت طارقة iiالنوى
أتـحـمـلُ  مـحـزون الـفؤاد iiقوادم
أيـهـا  جـارتا ما أنصف الدهر iiبيننا!
تـعـالـى  تـرى روحًـا لدى ضعيفة
أيـضـحـك  مـأسـور وتبكي iiطليقة
لـقـد كـنـت أولـى منك بالدمع iiمقلة






أيـا  جـارتـا، هـل تشعرين iiبحالي؟
ولا خـطـرت مـنـك الـهمومُ iiببال!
عـلـى  غـصـن نائيّ المسافة iiعال؟
تـعـالَـىْ أقـاسـمـك الهموم iiتعالِي!
تـردد  فـي جـسـم يـعـذب.. iiبال!
ويـسـكـت  مـحزون، ويندب iiسال؟
ولكن دمعي في الحوادث .. غال!([19])

الغربة وشعر الرثاء

وقد رأينا كيف رثى المتنبي جدته،وهو في غربته، وقد دعاها في رثائه بأمه، وكان أبرز ما في هذا الرثاء هو إسراف المتنبي في الفخر بنفسه حتى إنه يرى أن من أهم أسباب عظمة جدته أنه ينتسب إليها، وهو معنى يتسق مع شخصية المتنبي الذي قال في إحدى مدائحه لسيف الدولة:

سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا         بأنني خير من تسعى به قدم([20])

وفي ديوان أبي فراس قصيدتان عزيزتان نظمهما في أسره:

الأولى بعث بها لأمه، أما الثانية ففي رثاء أمه وقد بلغه نعيها وهو في أسر الروم.

في الأولى يبدو الشاعر ذا حس ديني عميق، وعاطفة متوهجة ولكنها لم تفقده وقاره واتزانه ,فأخذ يصبر أمه على فراقه وعلى تحمل محنته , مستدعيًّا صورًا زاهية من تاريخنا الإسلامي لنساء صابرات فضليات , من أمثال أسماء بنت أبي بكر وصفية بنت عبد المطلب:

فـيـا أمتا لا تعدمي الصبر إنه
ويـا  أمتا لا تخطئي الأجر iiإنه
أمـا لك في ذات النطاقين iiأسوةُ
أرادَ  ابنها أخذ الأمان فلم iiتُجب
تـأسـي، كفاك الله ما iiتحذرينهُ
وكـوني  كما كانت بأحد iiصفية





إلى الخير والنجح القريب رسولُ
عـلى قَدَرِ الصبر الجميل iiجزيلُ
بـمـكة، والحرب العوان iiتجولُ
وتـعـلـمُ عـلـما أنه.. iiلقتيل
فـقد  غال هذا الناس قبلك iiغولُ
ولـم  يُـشفَ منها بالبكاء iiغليلُ

 ولو رد يوما حمزةَ الخير حزنُها

 إذا ما علتها رنة وعويل([21])

وتأتي قصيدة الرثاء تنضح بالألم والبكاء، فقد ضاعف حزنه على أمه أنها قضت وهو في أسره بعيد عنها لم يودعها بنفسه، ولم يوسدها التراب بيديه. إن كل بيت في القصيدة يقطر بالبكاء والألم الحاد، ويختم قصيدته بقوله:

أيـا أمُـاه كم بُشرى iiبقربي
إلى من أشتكي؟ ولمن iiأناجي
بـأي  دعـاء داعية iiأوفى؟
بـمن يستدفع القدر iiالموفى؟



أتتك  ودونها الأجل iiالقصير
إذا ضاقت بما فيها الصدور؟
بـأي ضـياء وجه iiأستنير؟
بـمن يستفتح الأمر العسير؟

إلى ما صرت في الأخرى نصير([22])

فأبو فراس ـ كما ذكرنا من قبل ـ يعد من أكثر الشعراء نظمًا لقصائد الغربة، ومن أكثرهم تنويعًا وتلوينًا في موضوعاته وأفكاره، كما كان من أوضحهم أسلوبًا. وأحرهم وأصدقهم عاطفة وأبرهم وجدانًا.

وقد شد "أدب الغربة" ـ وخصوصًا الشعر ـ أنظار بعض الكتاب القدامى. فجمعوا بين أشتات من هذا الأدب في رسائل وكتب مستقلة. مثل الرسالة القيمة التي كتبها الجاحظ وعنوانها: "رسالة في الحنين إلى الأوطان".

الأصفهاني و "أدب الغرباء"

ولأبي الفرج الأصفهاني كتاب جيد اسمه أدب الغرباء([23])، ويبين أبو الفرج عن موضوع الكتاب، ومضامينه في صدر كتابه فيقول: "وقد جمعت في هذا الكتاب ما وقع إلى وعرفته، وسمعت به، وشادته من أخبار من قال شعرًا في غربة. ونطق عما به من كربة، وأعلن الشكوى بوجده إلى كل مشرد عن أوطانه، ونازح الدار عن إخوانه، فكتب بما لقي على الجدران، وباح بسره في كل حانة وبستان، إذ كان ذلك قد صار عادة الغرباء، في كل بلد ومقصد، وعلامة بينهم في كل محضر ومشهد"([24]).

ويورد أبو الفرج في كتابه هذا ستًا وسبعين واقعة طريفة. تكاد تدور كلها في فلك واحد: غريب مأزوم غلبته الفاقة، أو استبد به الهوى والشوق لحبيبة شط به المزار بعيدًا عنها، فلجأ إلى التعبير عن معاناته بكتابة أبيات على حائط أو باب أو صخرة، أو ما شابه ذلك ونكتفي بمثال واحد يبين عن هذا الاتجاه وذاك الطابع([25]):

"حدثني أبو بكر محمد بن عبد الواحد الهاشمي قال: حدثني رجل من أهلي يعرف بصالح بن عبد الرزاق قال: حججت فرأيت في تطوافي على حائط المسجد الحرام أبياتا مكتوبًة مطلعها:

ياأهل مكة قد فُتنت بظبية          ترعى دياركم فهل من مسعد

فكتبت ما ألقى بباب المسجد فحفظت الأبيات، ولم أدر لمن هي، وأقمت بمكة أيامًا، فدخلت إلى مجلس جارية لبعض أهل مكة تغني بالقضيب([26])، في نهاية الطيب، والحذق، فأعجبتني، وأطربتني، فغنت في آخر مجلسها:

قالت  غداة غد رحيل iiالموسم
فـزفرت زفرة عاشق iiمتحير
هذا  وما حم الفراقُ فكيف iiلو


وفـراق من تهوى بأنف iiراغم
وبكيت  من جزع بدمع، iiساجم
قالوا الرحيل يكون حال الهايم؟

 هل ينفعني كتابي          على المساجد ما بي

فعلمت أن الأبيات المكتوبة على المسجد الحرام له، وأنه عاشق للجارية.

* * * *

ويمضي الكتاب كله على هذه الوتيرة: مجموعة من الأخبار تلتقي كلها في تصوير بعض أحوال الغرباء في مواقف مختلفة، وكلها يجمع بينها الطرافة، دون أن يوثقها أبو الفرج أو يعلق عليها بشرح أو رفض أو ترجيح، فهدفه الأول أن يقدم الطريف المشوق للقارئ، بصرف النظر عن حظه من الصحة.

 * * * *

المتنبي: الذي اغترب طواعية، سعيًا وراء هدف دنيوي مادي هو المال وتملك إقطاعية وحكم ولاية.

وابن زيدون: الذي اغترب هاجرا قرطبة إلى بطليوس هربًا من السجن والاضطهاد.

وأبو فراس الحمداني: الذي كان وقوعه في الأسر مثخنًا بالجراح هو سبب اغترابه على مدى سبع سنين.

وكان قبل هؤلاء الشعراء ـ ولا شك ـ شعر كثير في الغربة ابتداء من العصر الجاهلي، وخصوصًا عند النابغة الذبياني وامرئ القيس بعد مقتل أبيه، مما يطول شرحه، ولا تتسع له هذه العجالة. ولكن هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين اختلفت دوافع الاغتراب وأسبابه عندهم يكادون يمثلون ـ بطوابعهم الفكرية والفنية المشتركة والفارقة ـ كل السمات الفكرية والفنية في شعر الغربة في ديوان الشعر العربي.ولم يبق إلا أن نتعرف على المفهوم اللغوي للغربة :

الغربة .. في اللغة

جاء في معاجم اللغة: الغربة: هي الاغتراب، تقول تغرب واغترب بمعنى فهو غريب وغرب (بضمتين: والجمع الغرباء. والتغريب: النفي من البلد([27]).

وأغرب: صار غريبًا. وأغرب الرجل: دخل في الغربة، مثل أنجد إذا دخل نجدًا.

وأغرب في الكلام: أتى فيه بعيدًا عن الفهم([28]).

وغرُب عن وطنه غربة: ابتعد عنه. واغترب: نزح عن الوطن.

وأغرب وغرب في الأرض: أمعن فيها فسافر سفرًا بعيدًا([29]).

والغرب: الذهاب والتنحي عن الناس.

والغربة والغرب: النوى والبعد.

ودارهم غربة: نائية بعيدة.

ـ وشأو مغرب ومغرب: بعيد.

والغربة والغرب والاغتراب والتغرب: النزوح عن الوطن.

ورجل غُرب وغريب: بعيد عن وطنه.

وأغرب الرجل: صار غريبًا.

والمغرب: المبعد في البلاد([30]).

              

الهوامش

([1])[3]) تهذيب سيرة ابن هشام، 105.

([4]) رسالة في الحنين في الأوطان 8 (تحقيق الشيخ طاهر الجزائري، ط2، المطبعة السلفية، القاهرة 1351هـ).

([5]) انظر: جابر قميحة: الشاعر الفلسطيني الشهيد، عبد الريم محمود، 120، دار الفكر العربي، القاهرة، 1986م.

([6]) انظر:ماهر حسن فهمي، الحنين والغربة في الشعر العربي الحديث، 40 ـ 46 معهد الدراسات العربية، القاهرة، 1970م.

([7]) انظر القصيدة في العرف الطيب 175 ـ 179.

([8]) العرف الطيب، 178.

([9]) السابق، 180.

([10]) السابق، 548.

([11]) ديوان ابن زيدون 21، دار صادر، بيروت، د. ت، والعقاب: اسم موضع في قرطبة. وانظر قصيدته الطائية ص 84. وقد قالها بعد فراره من السجن، وإقامته بقرطبة متواريًا، وهو يخاطب بها ولادة بنت المستكفي التي علقها قلبه، وقصر عليها كل غزله، ولعل أشهر قصائده الغزلية فيها قصيدته النونية (اضحى التاني بديلاً عن تدانينا). الديوان، ص 9.

([12]) ديوان ابن زيدون، 15.

([13]) انظر مقدمة ديوانه ص 6، "رواية أبي عبد الله الحسين بن خالويه، دار بيروت، بيروت 1986م.

([14]) ديوان أبي فراس، 156.

([15]) السابق، 157.

([16]) السابق، 159.

([17]) السابق، 90.

([18]) السابق، 184.

([19]) السابق، 238.

([20]) العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب 342.

([21]) ديوان أبي فراس 233.

([22]) السابق، 163.

([23]) نشرة عن مخطوطة فريدة في العالم للدكتور صلاح المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت.

[24] الأصفهاني: أدب الغرباء، 21.

([25]) الحكاية رقم 61، ص 78.

([26]) أي أنها تغني وتضرب القضيب على مخدة من الجلد، لضبط النغمة.

([27]) مختار الصحاح.

([28]) المصباح المنير.

([29]) المعجم الوجيز.

([30]) لسان العرب.