كلمات عن ديوان ألحان وأشجان

كلمات عن ديوان

 ألحان وأشجان

 لصالح العَمْري

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

عرفت صالح العمري طالبًامن طلابي المتميزين في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وكان يشدني إليه حرصه على حضور دروسه، وحضور بديهته، وكان هادئ الطبع، طويل الصمت، لا يتكلم إلا إذا كلِّم.

وكان يحضر إلى مكتبي يعرض على بعض أشعاره على استحياء، وقد عرف بين إخوانه برقة الطباع، ودماثة الخلق، والالتزام بالسلوك الديني، وازدادت معرفتي ومعرفة الآخرين به شاعرًا مسموعًا، وهو ينشد شعره في حفلات الجامعة، وأمسيات الأندية الأدبية، وكان حسن الإلقاء يعيش كل كلمة من كلماته بتدفق وحيوية ونبض صادق.

وكذلك ازدادت معرفتي بالشاعر صالح العمري، وأنا أقرأ بعض ما ينشره من شعر في الصحف، والمجلات العربية مثل: المجتمع، والمجلة العربية، فلمست تطورًا موضوعيًا، وفنيًا واضحًا فيما قرأته له أخيرًا، وإن لم يفارق الخط الموضوعي الأساسي الذي ألزم نفسه بالسير عليه من بداية سيرورته الشعرية الفنية.

وآراه يتقدم خطوة قوية جريئة بنشره ديوانه الأول الذي يضم أغلب ما نظم خلال بضع سنين.

جعل الشاعر عنوان ديوانه (ألحان وأشجان)، والواقع أن جانب الأشجان فيه أظهر من جانب (الألحان) لو كان الشاعر يريد الجمع بين النقيضين على سبيل المفارقة، وإن شئت فقل إنها أشجان "ملحنة" عزفها الشاعر على أوتار قلب مزقته الأحزان العاتية، لما نزل بالأمة الإسلامية من نكبات ومذابح وهزات وخلافات.

جاء الديوان في ثلاث وعشرين قصيدة طويلة، فاز الكامل منها، بما يزيد على نصفها، والبسيط بخمس قصائد،والوافر بقصيدتين، ولم ينظم الشاعر إلا قصيدة واحدة على كل من الطويل والرمل، ومجزوء الكامل، ولم يخرج الشاعر على النظام الخليلي في الوزن، وإن تعدد حرف الروي في مطولته "طلائع المجد"، وهي على "الوافر" وتنويع الروي جاء في شكل رباعيات.

وتحرك الشاعر ـ بصفة أساسية ـ في هذا الكم الهائل من شعره الذي تجاوز ألفًا وخمسمائة بيت، بين بحرين رئيسيين يقطع بشدة حاجة الشاعر إلى تغذية ثقافته العروضية، حتى لا يظل أسير هذين البحرين وخصوصًا الكامل.

والشاعر في كل شعره، أو أغلبه ـ يلتزم خطًا رئيسيًا واحدًا هو "الخط الإسلامي"، وينطلق من قضية رئيسية تتلخص في حقيقتين:

الحقيقة الأولى: هي أننا في حاضرنا نعيش عصر الضياع، والانكسار، والانسحاق.

والحقيقة الثانية: أن السبب في هذه الحال المنكودة الموكوسة هو بعد الأمة عن دينها، وهجرها القرآن دستور الحياة، وبلسم الشفاء، وبر السلامة والنجاة.

ويلح الشاعر على هذا المعنى بأساليب متعددة، وعاطفة متوهجة، ولا تكاد قصيدة واحدة تخلو من هذا المعنى القيم. وأجتزئ بالأمثلة القليلة الآتية:

من قصيدة "تحية إجلال يا شباب الوطن.

يـا  قوم في عمر المسدد iiفسحة
الله أكـرمـنـا بـأقدس شرعة
هـذي يـنابيع الهداية iiأشرقت


ورأيت  عمر الضائعين قصيرأ
وبموطن  يحوي الهدى iiوالنورا
وعرى المعالي سخرت تسخيرًا

ومن قصيدةو دموع ملتهبة:

ومن قصيدة دموع ملتهبة:

هُـجـر الكتاب فذلت الأعناق
الأرض حيرى والحقوق مباحة
والعرض قد قدت خمائل طهره


ودمـاؤنا  راجت بها iiالأسواق
والموت يبرق، والجموع iiتساق
فـبكت  على وعثائها الأخلاق

ومن قصيدة ذكرى مذبحة الخليل (ص 16):

مـا  زالـت الأيام تلقى iiدرسها
يـا أمـة قـد أسـلمت iiفتتابعت
لـم يـرقـب الأعداء فيها iiذمة
الـنصر أقرب إن أطاعت iiربها
والله لـو حـفظت شريعتها iiلما
والله لـو عـادت لـسـنتها iiلما





حـتـى تـلاقى دمعها iiودماؤها
بـمدى  الخيانة والأذى iiبأساؤها
وأواصر  الشرع العظيم iiدواؤها
وامـتـد في أفق السماء iiلواؤها
رخصتْ على مرّ السنين دماؤها
هـتـكت محارمها، وهدّ iiبناؤها

ومن قصيدة المشرد:

ما أضعف الإنسان في الدنيا إذا          لم  يستمد  العزم من إيمانه

فكل قصيدة في هذا الديوان جاءت صرخة إيمانية صاخة تبكي حال الأمة الإسلامية، وما نزل بها من ضعف ومذلة، وهوان حتى أصبحت طعامًا "للبغاث" من الأمم، وأصبح المسلم يعيش فيها عصر التمزق والضياع والتبدد.

والعامري يشعرك ـ بصدق وأمانة، ودون افتعال - أنه واحد من الذين يحملون آلام هذه الأمة، بل يعيشون هذه الآلام، حتى "شعره الخاص" الذي نظمه في أبيه.. وأمه وولده. نرى أن "العام" يشده من هذا الخاص، ونرى "أحزان أمته" تشده من أحضان أمه.

ففي قصيدته "زيارة أبوية" التي نظمها بمناسبة زيارة والده للجامعة، نرى الشاعر يعبر عن فرحته الغامرة بهذه الزيارة، ويخاطب نفسه قائلاً:

يانفس طيبي وافرحي iiواستبشري
أهـلاً  وسهلاً من فؤادي يا iiأبي
إن كـنت ضيفي ليلتين.. iiفإنني


أو  لـيـس لقيان الأحبة مغنمًا؟
تـفديك روحي والحشاشة iiوالدما
قد عشت عمري في قراك مكرما

ثم يقول في أواخر هذه المطولة منطلقًا من هذا الخاص إلى "العام":

مـا  بالهم يجرون خلف iiمبادئ
يـا  والـدي هذا زمان iiمجدب
آن الأوان لـمـنكر أن iiيزدري
إنـا  نـريد اليوم جيلاً iiصالحًا
إن  لـم يكن للجيل منهج iiأحمد




أو  لـيـس دين الله نهجًا أقوما
عصفوره  أضحى غرابًا iiأسحما
وأظـافـر  لـلمجرمين ..تقلما
الجذر راسٍ، والفروع إلى السما
فـأقـم عـليهم من بكائك مأتما

وانطلاقًا من الخط الإسلامي الوضيء، وعلى لسان فتاة مسلمة ـ في قصيدة بعنوان "صرخة فتاة" يهاجم الشاعر في قوة وصرامة "أسرة الضياع" التي ترى أن المدنية في هجر الدين، وأن التحضر في شغل النفس بالفن الهابط، وأن مصلحة الأسرة في جري الأب لاهثًا وراء تضخيم ملايينه، مع إغفال تربية أبنائه، وتركهم طعامًا سائغًا للذئاب، وما أكثرهم.

يقول العمري على لسان الفتاة:

ولـي أب لـم أذق فـي ظل iiمهجته
أحـلامـه في رؤى الصفقات iiلاهثة
عـلـى  لـسان سؤال عنه iiمحترق
ضاع الرقيب فهان العرض في زمني
تـسـطـو  الذئاب على شاة iiمغفلة




مـعـنـى الأبوة في عطف iiوإيثار
فـي  بؤس سمسرة أو طيش iiأسفار
قـد  بـاع حـبي، وتحناني iiبدينار
حـتـى استوى فيه إقبالي iiوإدباري
فـاسـتـسلمت  بين أنياب iiوأظفار

وللشاعر قصيدة طريفة جدًّا تحسب له فنيًا في عداد قصائد التجديد الموضوعي، وهي قصيدة "لحظات حاسمة في حياة مدخن" وواضح من عنوانها أنها دعوة صريحة أو ضمنية لهجر التدخين.

واستطاع الشاعر أن يعالج الموضوع بفنية ناضجة، فاستخدام طريقة المونولوج أي الحوار الداخلي، فيستهل قصيدته بالحديث الموجه إلى نفسه:

يـانفس قد آن الأوان iiففكري
إن الـحياة مدارس iiوتجارب
جبلت  على كدر الفؤاد iiوإنما


وتـألـقي في عزة .. iiوتوقر
مد وجزر فاصبري وتصبري
تـصفو  الحياة لمؤمن iiمتدبر

وترتفع نبرته إلى حد التقريع مستخدمًا أسلوب المفارقة الفنية.

يا  نفس مالك في الدخان رهينة
هب الرجال إلى الفضائل والتقي
وتنفسوا  عطر الأزاهر iiوالندى
إن الـسـجارة جرعة iiمسمومة



فكي  قيودك وانهضي وتحرري
فالعار  كل العار أن .. iiتتأخري
وأنـا أكـابد حسرتي iiوتذمري
ولـربّ  ثـعبان برئ iiالمظهر

ويتحدث الشاعر عن آثار التدخين على الصدر والقلب والمال في خيال تشخيصي بديع:

قـلبي  كئيب الوجه في iiأضلاعه
مـا زلت أحلم بالنظافة كي iiأرى
أنـفـاسي الحرى رسائل iiحسرة
أسفي  على مالي النفيس iiوصحتي
هـذا هـو الحق المبين iiفشمري




يـشـكـو  بوادر حظه iiالمتعثر
بـشـرى  تبسم ثغرك iiالمتنضر
لأسـى الـكئيب وآهه iiالمتضرر
أسف الشيوخ على الشباب المدبر
لا  تـلـبـثي حينًا ولا تتقهقري

ولو أنهى الشاعر قصيدته بالبيت السابق الذي يذكرنا بلحظة التنوير في القصة، أو القرار الحاسم في المسرحية لكانت القصيدة نموذجًا بديعًا متكاملاً للشعر النفسي، ولكن الشاعر ذيلها بعد ذلك بأبيات خمسة جاءت بأسلوب وعظي تقريري مباشر.

فهو يدعو إخوانه أن يقولوا لا للسيجارة، وأن يتسلحوا بالحزم لإبطال التدخين، فجاءت هذه الأبيات الخمسة الأخيرة، بقعة غير مستساغة في نسيج قصيدته الرائعة الفريدة.