محمد بنعمارة

محمد بنعمارة* شاعراً مغتربًا

فريد أمعضشو

[email protected]

من الثيمات التي يطّرد حضورها في المتن الشعري الإسلامي المعاصر بصورة لافتة للنظر موضوعة الاغتراب مع ما تستتبعه من معاناة و شعور بعدم تواؤم الذات مع محيطها الخاص و العام و نحو ذلك. و هذا أمر يبدو طبيعيا إذا ربطنا نصوص هذا المتن بالفضاء الزماني و المكاني الذي تمخضت و ولدت فيه... و ستسعى هذه الصفحات المعدودات إلى تسليط الضياء على جوانب من تجربة الاغتراب و بواعثها لدى أحد الشعراء المغاربة الكبار الذين، كان لهم إسهام بارز في رسم صُوى مشهدنا الشعري مذ السبعينيات، من خلال استنطاق بعض نصوصه الشعرية؛ و يتعلق الأمر بالشاعر الراحل محمد بنعمارة الذي اكتوى بلظى الغربة داخل وطنه و أمته، فجسدها في شعره بلغة شعرية تنبض بالصدق و الأصالة... و قد صرح الشاعر قبيل وفاته بأيام قليلة ،في حوار أجراه معه الأستاذ يحيى عمارة، بغربته داخل بلده، سيما بعد تدهور حالته الصحية دون أن تلتفت الجهات الثقافية الرسمية إليه ! (1)   

لقد عاش بنعمارة الغربة والوحدة والوحشة من جراء ثنائية (الروح - الجسد) التي دفعت به إلى مضايق الاغتراب والتيه، فصار كريح تمرق في فلاة شاسعة الأطراف. يقول:(2) (الخبب)

جسدي خابيةٌ، والروحُ القَطْرةُ تنشر تسْبيحي

إنهما اثنانْ..

يمدّان إليَّ سواقِي الغُرْبةِ، ويحدِّثني عرشُها:

ها أنتَ كريحٍ تمْرق في الصحراءْ

وتدفَعُك لغاتُ الكشف إلى واديكَ الملتفِّ بوحشتِهْ

وتشقُّ جهاتٍ لم يعرفْها العَرّافونْ

وتهرُبُ من بين الطين وترْتدُّ إليَّ

فأُصْغي.

يطغى على المقطع أعلاه المعجم الصوفي (جسدي خابية-الروح القطرة تنشر تسبيحي- لغات الكشف-الملتف بوحشته-العرافون-الطين…)، الذي وظفه الشاعر لتصوير غربته الميتافيزيقية/الروحية في واقع المادة/الطين.وبين الجسد والروح، أو المادة واللامادة تنبت ذات الشاعر التي زاوجت بين الأمرين؛ فأخذت بنصيبٍ من المادة، وبنصيب من اللامادة. يقول:(3)

بينهما تنبُت ذاتي كالنخلةِ

تسْتمْطرُ غيْم الصَّبَواتِ

وترقى في ليلةِ وحْدتنا:

-أنتَ الجسدُ الموصُولُ

وأنتَ الماءْ

أنتَ الراءُ، وأنتَ الواوُ، وأنتَ الحاءُ

أنتَ النخْلةُ في جسد الصحراءْ.

لقد شبه الشاعر ذاته في السطر الأخير بالنخلة الثابتة في صدر الصحراء. وقد أسهم هذا التشبيه الحسي في تبيان مدى غربة الشاعر وشعوره بالوحدة في عالم المادة/الجسد، و كذا إصراره على التحدي و الصمود. وكان لاستعمال وزن الخَبَب هنا أثر جلي في إبراز حال الغربة والعزلة. وقد ذهب الأستاذ عبد الله الطيب السوداني المجذوب في مرشده إلى أن هذا  النسق النغمي قد استفاد منه الصوفية في بعض منظوماتهم التي تُنشَد لتخلق نوعا من الهستيريا.

وبناءً على ما ورد في النص المتقدم الذي يسيطر عليه النفَس الصوفي، يمكن أن نوضح موقع الشاعر المغترب الذي يتوسط عالمُه الخاص عالميْن؛ عالمَ السفليات/المادة، وعالمَ العلويات/اللامادة، بالبيان التالي:

عالم المادة/الجسد  ========= عالم الشاعر ========= عالم اللامادة/الروح 

عاش بنعمارة في وطنه المنفي/الغائب والغارق في ليل المحن والإحَن حياة ضعف وغربة، بحيث إنه لم يكن يمتلك فيه أي شيء سوى الأحلام والأماني الكثيرة الممتدة. وهذا الجو الأليم دفعه إلى ارتياد عوالم الاغتراب والانطواء على الذات كحَلـْـزونٍ منعزلة داخل قوْقعتها. يقول:(4) (الخبب)

أنتَ لا تمْلك موْطنَك المَنْفيَّ

وتسكنُ جسمَك كالقوقعة التَّـسْبَحُ[1] في صمت عوالمْ

                                       قعر البحْرْ

أنتَ لا تملك سُحبًا متجوّلةً

                          لا حَوْلَ لكَ

ولا تملك من أمطار شتاءِ العام رَذَاذاً

وخَراجُك لا تملكهُ

والحرْفُ اليانعُ يَذْوِي اللحظةَ بين يديْكَ

وهَزَلتْ فيه معاني عشقِكْ

يا أنتَ، الحُلمُ الممتدُّ مع النهْرِ

مِنَ النبْع إلى حيث تصبُّ أمانِي أطفالِ

                         الوطن الغارق في ليلِهْ.

وتحدث بنعمارة عن ضياعه وغربته المضْنية غير ما مرة، وحاول مرارا الفرار من قبضتها القوية. ولكن شبح الرحلة، وألم المدينة المعقدة، وفِعال قومه ظلت تطارده في حلّه وتَرْحاله. يقول بنعمارة موجها الكلام إلى مخاطَبة طالما تعلق بضوء محبتها، ملتمساً منها التخفيف من معاناته وغربته:(6) (الخبب)

يا أيتها الأنثى الآتيةُ مع السيْلِ

المنثورةُ في مملكة الأعوام، كأيامي

أبْحَرْتُ كثيراً

واخترتُ العاصفةَ الخضراءَ

لأكْشِفَ ضوء محبّتكِ مع الموج

هربْتُ مع الطيرِ

وكانتْ أجْنحةُ الرِّحلات تطاردُني

والمدنُ الفحْمية تطاردني

ويطاردني قومٌ كالدِّفْلَى

-يا ليْت ظِلالكِ في وقتي، ومكاني.

ولتجاوز آلام الغربة ومظاهر المعاناة والمقاساة، دعا بنعمارة إلى ركوب قطار العشق:(7) (الخبب)

أيْقِظْ سُلطانَ العِشقِ

ولا تنْزلْ في ساحات الوقت غريباً.

وفي غمرة الغربة، لا يظل الشاعر مكتوفَ اليدين، ساكنا. بل يتصرف ويقوم بردودِ أفعالٍ (Réactions) للخروج من واقع الاغتراب إلى واقع الانشراح، ومن وضع كليل إلى إعلان ميلاد وضع جديد. ولعل الثورة من أهم الوسائل القمينة بنقل الشاعر من حال الاغتراب والمأساة إلى حال السعادة والغبطة. يقول بنعمارة:(8) (المتقارب)

وفي غُرْبتي أتسلّق حُوريةً كالسَّحابِ

لها جسدٌ فيه وشْمٌ قديمٌ

ورغْبتُها من نشيد الثوّارِ

تسلّقْتُ فيها جراحَ البِلادْ

وأسْمعْتُ في صوتها أُغنياتي

ظلاً لكِ أيتها اللحظاتُ

تَجيء مع الموج مُثقَلةً بالنشيدِ

تحت غيْم التنقل بين المحطّاتِ..

تُعْلِن طلْعةُ كل المسافاتِ ميلادَنا

ويمكن أن نقرأ ذلك جدولياً كما يلي:

الواقع المرئي

المرحلة الانتقالية

الواقع المنشود

-الواقع الكائن

-واقع الضياع

-واقع الاغتراب

 

ركوب قطار الثورة

-الواقع الممكن.

-واقع الكرامة.

-واقع الانشراح.

تتبدى في كثير من أشعار محمد بنعمارة نغمة الحزن والمأساة سواء الذاتية أم الجماعية. لأن واقعه المعيش يبعث على ذلك. والشاعر واحد من أبناء مجتمعه وأمته؛ يعاني ما يعانونه، ويتألم كما يتألمون.

يقول بنعمارة في التعبير عن الأحزان والمأساة التي تكتسحه وأبناءَ مجتمعه؛ هذه المأساة التي تدفع إلى الاغتراب والتنقل إلى حيث يوجد الهدوء والاطمئنان للعيش حياة الكرامة والعزة والحرية التامة:(9) (المتقارب)

حينَ كان المدى كالفضاءِ بلا منْتهى

وكانت عيونُ النساء ترانا كعصفوريْنِ

فوق غصون الرّياح نَنامُ

ونشرب أحْزاننا

ثم نهجُرُ هذا المكانَ

إلى حيث توجد أسرابُ طيرٍ غَريبهْ

هناك نُقيمُ..

                       ونقرأ بالجَهْر قرآنَنَا.

إن المأساة والأحزان التي يتحدث عنها بنعمارة ليست ذاتية، وليست وليدة اليوم. بل إنها تتجاوز الذات الشاعرة لتمس أبناء وطنه قاطبة ذكورا وإناثا، ثم إنها قديمة سببتها ظروف معينة…وأمام هذا نجد الشاعر يبحث عن الخلاص الذي من شأنه أن يريحه من آلام الأحزان وأتعاب الاغتراب القاسي. يقول الشاعر في قصيدةٍ له بعنوان "أسفار داخل إيقاع الموج":(10) (الرمَل)

 تحْت الظِّلال سنلتقي

وطنٌ، وأنثى، ورَجُلْ

حزنٌ ثلاثيٌّ بدأناه قديماً

حين أوْغل في مداد البحر سيف

يَحْرس الأشباح والسفنَ المهاجِرةَ التي

قد هرَّبت من جلد هذا البَرّ آلامَ العَذارى

أنتَ زهْرٌ شائكُ الأشكال يتبعنِي

فأبحثُ عن رفيقٍ

يمْتطي وجهَ الفضاءْ

ويرتمي في حِضن عاشقة المَسافهْ.

ولا نرتاب في أن وراء شعور بنعمارة بالاغتراب والمعاناة تقبع جملة من الأسباب والعوامل.والنص الموالي يومئ إلى بعضها:(11) (الخبب)

.. مَن باع مآذن مدن الشام، ومصْرَ

ومن أدْخل أقدامَ الروسِ إلى مسْجد كابولَ

ومن هرَّب شاهَ الظلْمِ

وكيف تتم ألاَعيبُ "الكَامَبْ"

                   على مائدة الحزن العربي.

تختزن الأراضي العربية والإسلامية خيرات عظيمة وثروات متنوعة (النِّفط-المعادن…) إذا أحْسِن استغلالُها وتم توزيعها بإنصاف وعدل، فإن المسلمين قاطبة سيعيشون عيشة الغنى والكرامة والهناء. ولكن الواقع الملموس شيء آخر؛ حيث نرى أن كثيرا من أبناء الأمة الإسلامية يعانون من الأمراض الفتاكة والمجاعة والفقر المُدْقِع، مع وجود قلة من المسلمين تستحْوذ على ثروات عديدة وتكنز أرصدة هامة من الأموال في البنوك المحلية والخارجية! يقول بنعمارة في تصوير واقع أمتنا الذي يتداخل فيه الغنى الفاحش والفقر العارم: (12) (الخبب و المتقارب)

تتداخل الضّحْكاتُ، والأنَاتُ

والتصفيقُ، والمتفرّجُ العربيُّ

والبِترولُ..والموتى

وشعوبُ شَمْعٍ في المتاحفْ

والزعامةُ في اليَمين وفي اليـِسَار..

-رصيدُ هذا الحزب يكْبُرُ في البنوكْ.

-ونحن .. نحن نجوعُ..

يصبح توْأماً فينا "الأنيما"(13) و"الجُذامُ".(14)

وقد كان من المنطقي أن يدفع هذا الواقع الموبوء الذي ينطوي على مفارقة واضحة الشاعر المغربي المعاصر بنعمارة إلى الشعور بالاغتراب والحزن، لأنه واحد من أبناء هذه الأمة؛ يتألم بتألمها، ويسعد بسعادتها.

ويزداد اغتراب بنعمارة وتيهُه بتزايد معاناة الأمة الإسلامية وكثرة جراحاتها في زمن أفول شمسها. يقول في المقطع الثاني من قصيدته "أغنيات في حدائق شيراز":(15) (المتقارب)

شِيرازُ أمّاهْ ما هي قِبْلتي

الشمسُ آفِلةٌ

والطيرُ راحِلةٌ نحو الجَنوبِ

تُعانِق الغيْمَ المبَعْثرَ في الفضاءْ

ويقول في المقطع الثالث من القصيدة عيْنِها ملمِّحا إلى سيادة جو الحزن والغربة والمتاهات في كِيان العالم الإسلامي عامةً:(16)

طائرُ النَّوْرَسِ قد عاد من النيل حزينًا

يَرْكَب الغيْمَ ويتلو الأغْنياتْ

المَتاهاتُ ..المتاهاتُ ..المتاهاتْ.

غُربتُنا في جَحيمِ الأمْنياتْ.

لقد أمست هذه الغربة هاجسا حقيقيا يقضّ مضجع الشاعر و أمته. وهنا يدعو بنعمارة إلى الاستيقاظ والوقوف وقفة الرجال لمجاهدتها،حاثـًّـا على ترك الكلام اللامجدي والانتقال إلى المجاهرة بالحق ورفض أجواء الغربة والتغريب. يقول:(17) (الخبب)

فيا مَن نام هنا مخْتفياً في الكلماتِ

اسْتيْقِظْ،

إنّ الغربةَ هاجِسُنا

وبلادُ الشام تتوِّج والِـيها الأمَويْ

لقد نظم بنعمارة – كغيره من الشعراء الإسلاميين المعاصرين، من أمثال حسن الأمراني و محمد علي الرباوي- قصائد رائعة ومؤثرة في تصوير محنة القدس وآلام المسلمين وأحزانهم في الوقت الحاضر بخاصة. و نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر ميميته "الغضب المقدس" المنشورة ضمن "ديوان الانتفاضة" الذي أصدرته مجلة "المشكاة" عام 2001 (ع.34/35)، و قد أشار في ثناياها إلى معاناته وأحزانه من جراء ما تعانيه القدس ،اليوم، بسبب الاعتداءات الوحشية السافرة التي يقوم بها اليهود دون مراعاةٍ لحرمة ولا أخلاق.

تعد القدس القلب النابض للأمة الإسلامية، ورمز قوتها، ومنشأ عِزها، ومسْرى نبيها الكريم. لذا تحضر بكثافة في الشعر الإسلامي المعاصر، وتحتل مكانة مرموقة في نفسية الإنسان المسلم. يقول بنعمارة:(18) (الكامل تامُّ الأجزاء)

اَلقدْسُ نورٌ في القلوب مقدَّسٌ            ومحَـبّةٌ، وصَبابَةٌ وغَـرامُ

وبالنظر إلى تلك المكانة المتميزة المشار إليها في الفِقرة الآنفة، فإن أي حزن أو معاناة تلم بالقدس لابد أن تنشر ظلالها عبر كيان الأمة الإسلامية كله، من منطلق ذلك الرباط المقدس الذي يربط المسلمين بالقدس. وهكذا يتألم المسلمون ويغضبون كلما جُرحت قدسهم وألمّ بها الحزن. يقول بنعمارة:(19)  

القدسُ أرضُ اللهِ من زَيْتونـها           يتـوقّد التـاريخُ والأيّــامُ

تبْكي الكِنانة حزنَها وجِراحَهـا        والمغربُ الأقصى وذاك الشامُ

غضَبُ العُروبة عارمٌ ومجَلْجِلٌ         طُـوِيَ السِّجِلُّ وجَفّتِ الأقلامُ

وتُوحِّد القدسُ البلادَ جميعَــها        كـلُّ البـلادِ مُصـابُها الآلامُ  

وأمام هذه الحال، لا يرضى الشاعر إلا بخيار الحرب والجهاد. لأنه لا سلام مع الصهاينة الأعداء الذين ألِفوا اختلاق الدسائس والأساطير لضمان استقرارهم في فلسطين الطاهرة، وإضفاء الشرعية على تصرفاتهم الهمجية والتوسعية. يقول بنعمارة:(20)

هذا خِيارُ الحرب آتٍ فاسمعـوا       كذِب الذي قال: الحياةُ سـلامُ

سقطتْ أساطيرُ اليَهود وزُلْزلتْ       وانهارتِ الأوثانُ والأصنـامُ

المجْرمون تعوَّدوا أحقادَهــمْ        غرَّتْهم وبخداعِها الأحْــلامُ

ويقول في فضل الاستشهاد في سبيل الدين والقدس الشريف:(21)

هذا شهيدٌ في صحيفة مجْدِنا             أبْلى البلاءَ طريقـُه القسّـامُ

صاغ الجهادَ مُلبِّياً ومرابِطاً             رسَم الطريقَ كأنـّه رسّـامُ

ودعا إلى موتٍ نبيل رائـع             فتَسامقتْ بصمـودِه الأعْلامُ

هذا الذي كانت لـه أيـامُهُ             وبفضْلـه يَتخايَـل الإسْلامُ

شَهْمٌ، قويٌ، صـامِدٌ ومبَجّلٌ            سقطتْ أمام صُموده الأوْهامُ

من خلال قراءة الشواهد الشعرية الواردة في هذا المقال، يمكن أن نسجل الملاحظات الآتية:

*لقد خاض الشاعر المغربي الإسلامي المعاصر محمد بنعمارة تجربة الغربة والمعاناة ممارسةً وشعراً؛ بحيث إنه نظم قصائدَ كثيرة في هذا الشأن، وعاش الاغتراب في واقعه وأمته. و مما تتسم به هذه التجربة أنها صادقة، و ليست زائفة كما نُلفي لدى كثير من الشعراء المحسوبين على التيار الشعري الحَداثي.

*نلمس في أشعار الأستاذ بنعمارة الأحزان والمأساة النفسية والاجتماعية. يقول الدكتور محمد إقبال عروي في هذا الصدد: "وتتداخل المأساة عند الشاعر المغربي محمد بنعمارة بين النفسي والاجتماعي، ويرتدي شخصية الأمة المثخَنة بالجراح، فيتذوق مرارة الانهيار الذي سيتحول حتما إلى أمل في النصر المنشود".(22)   

*إن جل شعر بنعمارة يتسم بطابع الغموض؛ هذا الطابع الذي صار ميزة فنية تطغى على الشعر العربي المعاصر عامة. ويحتاج هذا الشعر إلى عملية تأمل وتأويل لفهمه واستِكْناه مقصوده. ويحضر في شعر الرجل، في أحايينَ كثيرة، النفَسُ الصوفي. ونشير هاهنا إلى أن بنعمارة من الباحثين المهتمين بالجانب الصوفي وأثره في الأدب، بحيث أعد أطروحة جامعية بعنوان "الأثر الصوفي في القصيدة العربية المعاصرة" لنيل دبلوم الدراسات العليا، وذلك بإشراف الدكتور محمد السرغيني…كما أكثر بنعمارة من نسج أشعاره على نَوْل وزن الخبب ، الذي يناسب إلى حد بعيد المشاعر الأسْيانة والموضوعات الغنائية…وبجملة واحدة نقول إن الشكل عند بنعمارة خادم للفكرة/ الموضوع.

              

الهوامش:

* - نبذة مركزة عن حياة بنعمارة: ولد محمد بنعمارة عام 1945م بمدينة وجدة. وقد بدأ نشر أعماله الشعرية في أواسط الستينيات (ق. 20). وشارك في مهرجان الأمة الشعري الأول ببغداد عام 1984. وهو عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وعضو اتحاد كتاب المغرب، وأيضا منتج إذاعي مشهور ببرنامجه الجميل "حدائق الشعر" الذي كانت تبثه إذاعة وجدة الجهوية، وقد استمر هذا البرنامج ما يناهز 30 سنة. ومن دواوينه الشعرية نذكر: ممالك الزمن الأخضر، السنبلة، نشيد الغرباء، في الرياح و في السحابة (2001)…و له جملة من الأبحاث الرصينة. و قد مر في حياته الإبداعية و الأكاديمية و الإعلامية بثلاثة أطوار لخصها في قوله في آخر حوار أجري معه قبيل وفاته: "أولا، المرحلة الأولى هي مرحلة جماعة ظهر المهراز بفاس حيث شاء الله أن يلتقي عدد كبير من الشعراء المغاربة الذين كونوا خميرة الشعر المغربي الحديث. أما المرحلة الثانية و هي مرحلة الدعوة إلى الأدب الإسلامي. و المرحلة الثالثة كانت مرحلة الدخول إلى عالم التصوف و استنطاق مكونات التصوف داخل القصيدة. و على المستوى الأكاديمي رصيدي من ذلك كتابان معروفان هما "الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر"، نلت عنه جائزة المغرب للكتاب، و كتاب "الصوفية في الشعر المغربي المعاصر: مفاهيم و تجليات"، نلت عنه جائزة عبد الله كنون للبحث العلمي... و على المستوى الإعلامي اشتغلت في الإذاعة منتجا منذ 1965، أنتجت برامج كثيرة منها "الجيل الصاعد"،  "بيوت الله"، "شارع الحياة"، ثم برنامج "حدائق الشعر" الذي دام ثلاثين سنة في عمره، ثم أنتجت برامج للإذاعة المركزية بالرباط، منها على سبيل المثال "إضمامة شعر" و "أذواق و أشواق". و اشتغلت بإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم مشرفا على برنامج "يسألونك" لمدة سنتين و الحمد لله رب العالمين" (العلم الثقافي ، س.36، الخميس10/05/2007، ص4). و قد  توفي رحمه الله تعالى يوم السبت 12 ماي 2007، إثر مرض لم ينفع معه علاج.

1- العلم الثقافي، س.36، الخميس10/05/2007، ص4.

2 - محمد بنعمارة: مملكة الروح، المطبعة المركزية (وجدة)، ط1 (1987)، ص 24.

3-  المصدر نفسه، ص 25.

4- بنعمارة: نشيد الغرباء، مطبعة النور (تطوان)، ط1 (1981)، ص ص31-32.

5 - أي "التي تسبح". "فألْ" هنا ليست للتعريف، وإنما هي موصولة دخلت على فعل مضارع. ومن ذلك قول الفرزدق:

ما أنت بالحَكم التُّرْضى حكومتُه       ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدلِ

أيْ "الذي ترضى".

6 - بنعمارة: مملكة الروح، ص 44.

7-  المصدر نفسه، ص21.

8 - بنعمارة: نشيد الغرباء، ص ص 53- 54.

9 - نفسه، ص ص15- 16.

10- بنعمارة: مملكة الروح، ص ص50-51.

11- بنعمارة: نشيد الغرباء، ص 57.

12 - نفسه، ص ص50-51.

13- كلمة معرّبة من اللفظة الفرنسية (L’anémie)؛ ومعناها: فقر الدم.

14- داء كالبرص يسبّب تساقُط اللحم والأعضاء.

15- بنعمارة: نشيد الغرباء، ص22.

16-  نفسه،ص23.

17- بنعمارة: مملكة الروح، ص49.

18- ديوان الانتفاضة ، من منشورات "المشكاة"،وجدة، ع. 34/35، 2001، ص: 14.

19- نفسه.

20- نفسه، ص13.

21- نفسه، ص ص13- 14.

22- د. محمد إقبال عروي: جمالية الأدب الإسلامي ، المكتبة السلفية (البيضاء)، ط1 (1986)،ص ص59-60.