اليوم الأول بعد الموت

قراءة وتحليل

(مقاربة سيكولوجية)

سعيد بودبوز

[email protected]

بعد أن قمت بقراءة وتحليل قصة "صحراء في الطابق الأخير" للقاص المغربي أنيس الرافعي (1) جاءت هذه الدراسة كجزء ثان من نفس المشروع وبنفس الآلية النقدية التي اعتمدتها في تحليل النص السابق. كما تندرج هذه الدراسة تحت نفس العنوان وهو تسليط الضوء على التأرجح القائم بين السرد النمطي والباطني لدى الكاتب من خلال هذين النصين. قبل الدخول في صلب الموضوع أود القول بأن الطريقة السردية التي اعتمد عليها أنيس الرافعي، في هذه القصة وغيرها مثل "صحراء في الطابق الأخير"، هي طريقة ماوراء سردية Meta- narrative style . على سبيل المثال، إذا كانت قصة ما تدور حول التربية وأخرى حول الزواج وأخرى حول الإرهاب الخ، فإن هذه القصة تدور حول الكتابة السردية نفسها دون سواها.

من خلال التلخيص النمطي التقليدي نجد أن قصة " اليوم الأول بعد الموت"(2) تدور حول رجل اكترى شقة في عمارة بعيدة عن (صخب) المدينة. حيث تسلط عليه عجوز يبدو أنه كان يسكن في الشقة التي تعلو شقته مباشرة. و كان هذا العجوز كل ليلة يفسد عليه النوم بنقرات تبدو كأنها ضربات حذاء أو عكاز على الأرض. وبعد أن مل السارد من هذا التصرف حاول أن يقتحم عليه الشقة. لكن أخبرته جارته-بينما كان يقرع الباب- أن هذا العجوز المطلوب قد مات منذ زمن. وبالتالي لم يعد يسكن هناك. بعد هذه المفاجأة تمكن السارد من مراجعة نفسه ليكتشف أخيرا- وبعد أن اقتحم خلوة وسر هذه الشقة مرة أخرى- بأن العجوز ما هو إلا السارد نفسه في حالة الشيخوخة، أي عندما يصبح في أرذل العمر مع أنه لم يصرح بذلك !

تحليل النص:

في قصة " صحراء في الطابق الأخير" نجد أن شخصية السارد قد انشطرت إلى شقين وبشكل أفقي كما تحدثت عن ذلك بتفصيل(3)، أي عبر المكان. حيث كان شقه داخل الغرفة، في الفندق، بينما كان الشق الأخر خارجه سائرا إلى هذا الفندق نفسه. وفي هذه القصة، التي بين يدي الآن، نجد العكس تماما، إذ أن هناك انشطارا في شخصية السارد فعلا، ولكنه انشطار عمودي تم عبر الزمان. أعني أن شخصية السارد قد انشطرت هنا عبر الزمان بحيث أصبح شقه شابا والشق الآخر عجوزا.

"... إذ كلّما حططت الرحال في شقة جديدة ، ﺃفترض بما يشبه اليقين الصلب بأن الشقة التي تعلوني لابدّ من أن تكون مسكونة منذ سنوات بلا عذّ من لدن رجل وحيد و طاعن في العمر. هو ذات الرجل الوحيد والطاعن في العمر دائما ، مهما تعددت أو اختلفت الشقق"

" لم يخبرني أيّ ﺃحد بهذا الأمر. أمر العجوز ، ﺃقصد . بل ، أجزت لنفسي ترف تصوره فحسب. إذ كلّما حططت الرحال في شقة جديدة ، ﺃفترض بما يشبه اليقين الصلب بأن الشقة التي تعلوني لابدّ من أن تكون مسكونة منذ سنوات بلا عذّ من لدن رجل وحيد و طاعن في العمر."

وكما أن شخصية العجوز تقع فوق الشخصية المحور (السارد) على مستوى الزمان، كذلك نجد أن شقة العجوز تقع فوق شقة السارد الشاب على مستوى المكان.

شقة العجوز=المستقبل  (فوق)

شقة الشاب = الحاضر  (تحت)

لقد تحدث مارك جونسن وجورج لايكوف(4) عن البعد الطوبوغرافي لكثير من المقولات التي نستخدمها. وأعتقد أن الاطلاع على ذلك يعطينا فكرة لا بأس بها حول فهم طبيعة الزمان من حيث الحاضر والمستقبل على سبيل المثال. أعني ذلك الزمان الذي تخيل السارد بأنه سيصبح فيه عجوزا. إنه يخرج الحدث من كونه حدثا إلى كونه مشكلة مزمنة، إذ كيف يتفق أن يعلو شقته في كل زمكان رجل عجوز بهذا الشكل كما سيأتي توضيح ذلك انطلاقا مما ورد في القصة؟ يتضح لنا أكثر أنه يتحدث عن نفسه حتى دون عناء التحليل العميق عندما نتأمل تعليله في حديثه عن العجوز الذي يسكن فوقه.

" وكذا بعض أواني الطبخ المشروخة التي تفضل المكتري السابق بتركها جميعها هنا ، أو على الأرجح تخلى عنها لأن علاقته الوجدانية بها انقطعت إلى الأبد بأمواس الهجر. .".

إذ كيف يمكنه أن يعرف شيئا عن المكتري السابق فضلا عن وجدانه؟. لقد سكن الشقة والعجوز فوقه، أي تم صهر النشاط الكتابي في عملية (تنظيف الأثاث) لاحظ العبارة التالية:

"..ولا أخفيكم بأنني بددت وقتا أكثر مما ينبغي في انجاز هذه الأعمال ، ربما لأنني كنت في غضون ذلك ﺃجنح عميقا فيما يشبه محاولة يائسة لاحتجاز الأبدية في لحظة واحدة في سهو التأمل علّني أسجل مرور بصمة الذكرى على الآثار والأشياء الشخصية الغاربة التي خلفتها الحيوات التي مرقت قبلي من هذا المكان ..."

إن هذا الكلام يتجاوز ما يتطلبه تنظيف قطع الأثاث. السارد يحاول محورة الجهود التي أخذها منه التنظيف، وبقدر ما تبدو هذه المحورة تافهة، على الصعيد النمطي للنص، يتعزز ويتقوى مستواه الباطني وكأن السارد لا يريدنا أن نضيع كثيرا من الوقت في الاقتصار على مشاهدته كما لو أنه مجرد منظف للأثاث. وما هذه التفاهة إلا دعوة لمطاردة النص نحو ما هو أعمق وأمتع. إن الأثاث موجود في الشقة. وهذه الأخيرة موجودة في العمارة، وهذه الأخيرة، كما سيأتي لاحقا، ترمز إلى الـ(قراءة=النص). فتكون النتيجة أن التعبير عن الجهود التي اقتضاها تنظيف قطع الأثاث، في هذه الشقة، يرمز إلى عملية الـ(كتابة). ولكن ليس من حيث هي موضوع، بل من حيث هي حركة ميكانيكية للسارد. لنلاحظ كيف تشعب حديثه، في التعبير عن هذه الجهود، إلى الحديث عن احتجاز الأبدية مما يؤكد أكثر بأن هذا التنظيف رامز إلى فعل الكتابة، وأن الحديث، من خلاله، عن الأبدية له صلة وثيقة باختراق السارد لحواجز الزمان بما في ذلك حديثه الأتي عن المقبرة وغيرها. بعد ذلك بدأ يتساءل عن أحوال الذين تركوا هذا الأثاث في الشقة بعد غبورهم قائلا:

"... كيف أفرغت دون رجعة من عمق أصحابها الحقيقيين ، وانتقلت بشكل طارئ نحو ملكية أخرى صورية . كيف كانت ولم تعد قادرة على أن تكون."

لاحظ كيف يقحم كلمة (صورية) بهذه المجانية، فهذا التعبير عبارة عن لافتة تدعونا للدخول في سراديب ما هو باطني وما وراء سردي. أما كونه باطنيا فلأن السارد يتحدث عن حركة باطنية بدل الحركة النمطية الفيزيائية المعتادة، وأما كونه ما وراء سرديي فلأن السارد يستهدف الحديث عن إشكالية الكتابة الإبداعية من خلال هذه الرموز. كأنه يتحدث عن تاريخ الكتابة السردية التي كانت بين الأولين (أصحابها الحقيقيين) كتابة تقليدية قبل أن تنتقل إليه لتصبح (صورية) أو شبه مجردة باطنية يصعب الوصول إلى مراميها من خلال القراءة اليومية البسيطة. عندما انتقل الأثاث إليه أصبح غير ملموس بل صوري وكفى، أي أن القصة عندما انتقلت إلى السارد أصبحت صورية.

 "..وكيف سقطت من الزمن. من عقال زمنها الماضي"

إن الحديث هنا يدور حول التجديد الذي خضعت له القصة على يديه من جهة، ويستهدف التعبير عن كونها قد سقطت من الزمن، أي صارت لا زمنية (أبدية) وهذا يتكامل مع العبارة السابقة التي عبر فيها عن تفاعله مع الأبدية علما بأن الأبدية ضد الزمان. لقد كان، أثناء تنظيفه (الأثاث)،  يسعى (لاحتجاز الأبدية) وها هي أمنيته تحققت، نوعا ما، إذ أصبح هذا الأثاث خارج الزمان(سقط من الزمن) أي كيف تحول السرد مما كان عليه في الماضي إلى ما أصبح عليه بين يدي السارد؟

 "وتتأهب للسقوط في الزمن . في ﺃسر زمني الحالي"

أي زمنه المغاير للزمان المعتاد (التقليدي).

ننتقل إلى الحديث عن عالم العجوز الذي يسكن في الشقة العليا أخذين عبارته التالية:

"...تناهت إلى سمعي من سقف الغرفة سلسلة من النقرات الخفيفة كما لو أن ﺃحدهم يواظب على طرق عقب أداة ما أو ما شابه بالأرضية"

يتحدث السارد عن تصوره لوضع العجوز وكأنه ينظر إليه بأم عينيه. من هنا، إضافة إلى ما تقدم وما تأخر، نؤسس للمقاربة النفسانية Psychoanalytic التي تقودنا أولا إلى الإدراك بأن هذا العجوز يحمل علامة استفهام عميقة. وهذه الأخيرة سوف يتضح مرماها لاحقا بشكل جلي.

 "فقلت مع نفسي بيقين من يبصر مناجاته بأم عينيه ، ﺇنه من دون ريب عجوز الشقة العلوية من على أريكته يشاهد التلفاز في هذه الأثناء نافثا دخان سيجارته ، ويتلهى بتوقيع نقرات خفيفة من عكازه الخشبي السميك على الأرضية.."

يبدو أن أصبحت النقرات قد أصبحت موضوعا مفضلا، متجها نحو المحورة التامة، حتى عندما انتقل السارد إلى عالم الأحلام لقوله .."

في الواقع ، نقرات العكاز كانت واهنة ومسموعة بالكاد ، لكن تواصلها بلا هوادة ودون فاصلة صمت واحدة ، حال بيني وبين النوم لمدة ليست باليسيرة. وفيما بعد ، عندما سقطت في غفلة من السهاد بين براثن النعاس ، لم تتلاشى النقرات حتى في الحلم . كل نقرة كانت تفتح في ﺃرض الحلم قبرا"  

إن القبر، الذي يتم حفره في أرض الحلم، يشير إلى جانب هام من الأسرار السيكولوجية التي تحويها القصة. ومن بينها إشارته إلى أن العجوز(شطره الغريب) ينقر (يدفع) السارد/الشاب (شطره المألوف) لحفر (كتابة) قبر (قصة) في أرض (مستوى) الحلم (الباطني) ! يبدو أن هذه حتمية لاشعورية يقود إليها ترصد الدقيق لهذه المفردات.

ينتقل إلى تفصيل الحديث عن القبور في هذا النص بتعبيره عن زحفها المتعدد على الروح وهذا كان استعدادا منه لانشطار الشخصية كما قال:

 "في تلك الليلة الأولى والكظيمة بالمعنى الدرامي للكلمة ، قبور كثيرة زحفت على الروح ، وذهبت إلى ﺃبعد ما يمكن في الكابوس"

بعد هذه الليلة الأولى أصبح هناك بعض التأقلم، المحفوف بالإزعاج، مع هذه النقرات رغم أنها كانت السبب في تشتت الذهن على مختلف الاتجاهات والانحراف ببوصلة نومه إلى ما لا تحمد عقباه مما عبر عنه بالكابوس.

 "أما في الليالي الموالية ، وفي نفس الآونة التي كنت ﺃستعد فيها لأخلد إلى النوم ، كانت النقرات تنطلق. وسرعان ما يشتد ساعدها في ﺃرض الحلم عندما يبلغ بي الأرق مداه ، حتى صارت مقبرة مترامية.."

سنرى إلى أين كانت نفسية السارد مبرمجة على الوصول من خلال حديثه عن هذه النقرات آخذين بعين الاعتبار التفخيخ السردي الذي يحكم النص من كل جوانبه. لنتأمل ماذا يقول في شأن النقرات.

"، قلت لنفسي. هذا كمين. وتلك النقرات ماهي سوى صوت مفبرك لدفعي للنزول إلى حفرة الجنون."

إن هذه النقرات ليست وسيلة لخوض التفاعل بين ما يحدث لدى العجوز، في الشقة العليا، وما يحدث لدى السارد (الشاب) في الشقة السفلى فحسب، ولكنها الفيصل الذي يشكل دافعا داخليا للنص لكي يتجه نحو إعادة الاتحاد السيكولوجي بين الشطرين وبعد أن أوشكت مهمة الانشطار، الموكولة إليه، على الانتهاء الذي أفصح عنه بشيء من الغموض، على لسان الجارة كما سيأتي. لذا فإن هذه العبارة تحمل لافتة منهجية موجهة إلى القارئ(سيأتي الحديث عن هذه اللافتات لاحقا) بطريقة تم صهرها في نسيج النص الموضوعي لتصبح بذلك مخاطبة للقارئ بقدر ما هي عامل سردي له دوره في بناء النص من الداخل. عندما قال بأن "تلك النقرات ما هي سوى صوت مفبرك لدفعي للنزول إلى حفرة الجنون" كان صادقا من حيث توجيه الخطاب إلى القارئ حتى وإن كان ماكرا من الناحية السردية ، أي أنه يريد القول بأن هذه النقرات قد تمت فبركتها من طرفه لكي يخلق علة سردية لتواصله مع العجوز الذي يسكن فوقه. وهذا هو الشق المنهجي الذي أسميه اللافتة. حتى تتضح الصورة أكثر لنقرأ النص بطريقة عكسية من أجل التحكم في مستواه الإطرادي الخفي الوجهة، والمثل يقول "الأشياء تعرف بضدها". لنفرض أن العجوز لم يقم بأية نقرات مؤدية إلى إزعاج جاره، ماذا ستكون النتيجة؟ أكيد أن سبب التفاعل بينه وبين العجوز سيكون معدوما سواء على مستوى الواقع النصي أو حتى الافتراضي. فعلى سبيل المثال حتى وإن فهمنا، عن طريق التحليل الشاق، بأن العجوز ما هو إلا الشطر الثاني من شخصية السارد فإن هذا السارد سيكون مطالبا بإعادة الاتحاد مع هذا الشطر في نهاية المطاف. مع العلم أن ميول الشاب تبدو بعيدة عن ميول العجوز خاصة عندما نعرف بأن الأول كان سكيرا أو ما شابه. وهذا ما يكون الحديث عنه باردا بالنظر إلى علاقته بمجتمعنا لكون هذه الميول نادرة بين الشيوخ. من هنا رأى السارد بأن العلاقة السلبية هي الأنجع في تأسيسه للاتصال بالعجوز، في نهاية الأمر، ولهذا نرى أيضا نوعا من الافتعال لهذه النقرات حتى على المستوى التقني. فالعجوز مثلا كان ينقر بطريقة شبه طقوسية دون أن نفهم لماذا كان ينقر بعكازه. والأعمق من ذلك أن دافع السارد اللاوعي لتخصيص هذا الإيحاء المنهجي هو افتطانه إلى هذا الافتعال نفسه. فكأن لسان حاله يقول: أعرف أنك أيها القاريء سوف تفطن إلى افتعال هذه النقرات، ولذلك دعني أخبرك بأنني قد فبركتها. وبدل أن يقول ذلك صراحة نسب فعل الفبركة للغير فقال "مفبركة".

بعد أن أشبعه العجوز إزعاجا بنقراته صعد السارد ليضع له حدا. وقرع الباب عليه عدة مرات " ولما أعدت الكرة بقوة ﺃكبر ، انفتح الباب المقابل ، لتخبرني الجارة وعلى محياها أمارات اﻹزعاج والدهشة بأن الشقة مهجورة منذ أن قضى العجوز نحبه قبل سنين عديدة ."

من الناحية النفسانية نجد هناك جدلا بين النقرات، التي كان العجوز يقوم بها، والقرع الذي قام به السارد على بابه بعد أن نفد صبره. هناك دائرة عجيبة عندما نستوعب طبيعتها نكون قد اقتربنا من فهم جانب لا بأس به في شأن الصيرورة العميقة التي تحكم هذا النص. أولها أن العجوز ينقر على السقف(يقرع الباب) على السارد، وهذا الأخير، في النهاية، نقر الباب(قرعه) على العجوز ولم يجده هناك. فأين كان العجوز ؟ إن مثل هذا التخفي عبر دهاليز السرد الباطني هي التي تستفزني شخصيا في نصوص الرافعي وتجعلني أحس وكأنني أخوض غمار فيلم بوليسي هوليودي. ولكن ليس في العالم الخارجي الاجتماعي، بل في عالم نفسي يقع في وسط مملكة الظلام التي لا تنفع معها العين المجردة، في كثير من الأحيان، وإنما لا بد من الاستعانة بجهاز الأشعة ما تحت الحمراء. الجواب على السؤال المطروح أنفا هو أن العجوز كان وراء الباب يقرع هذا الأخير على نفسه. !!! كيف؟ لنتابع. تقول الجارة بأن العجوز (الشطر المستقبلي من السارد) قد مات منذ زمن. لنركز مادمنا قد خلصنا إلى أن الناقر(العجوز) ما هو إلا القارع (السارد). لقد تم تذويب عملية الموت بشكل عجيب ظاهره الإهمال وباطنه الإعمال. ولولا الخشية من الإطالة والخروج عن الموضوع لشرحت للقارئ كيف يتم ذلك من الزاوية النفسانية. فعندما نتحدث عن التحليل النفسي إنما نتعامل مع درجة من العمق شبيهة بالحلم. إن عملية "النقر" هي استباق تصوري من السارد لعملية "القرع" التي قام بها في نهاية المطاف. لاحظ أن النقر قد أفسد عليه النوم. وإذا قسمنا النوم واليقظة تقسيما طوبوغرافيا سنجد أن النوم يقع في اتجاه الأسفل بينما تقع اليقظة في اتجاه الأعلى. وأعتقد أن هذا شيء تخضع له لغتنا خضوعا واضحا. فعلى سبيل المثال، لو أردنا أن نعبر عن ذكاء ونباهة فلان سنقول بأنه في قمة اليقظة ولن نقول في قاعها، بينما نقول للغبي البليد أنه في قعر السبات وليس على قمة السبات. كل هذه المبادئ مترسبة في قاع اللاشعور للإنسان. لنعد إلى التقسيم الطوبوغرافي للنوم واليقظة فنجد أنه نفس الشيء، أي كما أن النقرات كانت تتجه بالسارد نحو اليقظة (الأعلى) اتجه به القرع نحو الشقة (العليا). سأفترض بأن الأمر مازال معقدا ولا بأس من التوضيح أكثر ، فبعد أن قسمنا النوم واليقظة طوبوغرافيا سنورد هذه المعادلة بصيغة شرطية تفيد الكشف عن تعلق القسم الأول، من العبارة التالية، بالقسم الثاني:

لولا النقر ما صعد السارد إلى (الأعلى)=لولا القرع ما نزل العجوز إلى (الأسفل)

من المعلوم أن نقرات العجوز قد أنتج عنها صعود السارد إلى الشقة العليا من أجل أن يضع حدا لهذا الإزعاج، هذا هو المستوى الشعوري والنمطي للسرد. أما المستوى اللاشعوري الباطني فهو، وإن كان يقوم على نفس الصيرورة السببية، إلا انه يختلف من حيث العمق. لنقل بأن صعود السارد أمر واضح ومفهوم أما نزول العجوز فقد تم عن طريق مراجعة السارد لنفسه، والتي اكتشف من خلالها بأنه العجوز نفسه. وهذه العملية تقتضي الخضوع للمعادلة المذكورة أنفا.  إذا كانت اليقظة تعني نهاية النوم(الموت) فإن الشقة العليا أيضا تعني نهاية القصة(الحياة) علما بأن أحداث القصة تبدو كأنها تمت في عملية الموت(باطنيا).

لاشك أن كتابات أنيس الرافعي-أو على الأقل ما قرأت له حتى الآن- تقوم على العمق الإبداعي المتجه نحو السرد الباطني كما شرحت سالفا، ولكنه يخصص بعض اللافتات المنهجية داخل النص تعطي القارئ فكرة تقريبية نوعا ما عن طبيعة هذا العمق الباطني، إنما حتى هذه اللافتات قد نجح في تذويب لغتها التفسيرية وصهرها في لغته الحكائية، أي جعل الميتالغة من ضمن اللغة نفسها. مثلا عندما تحدث عن العجوز الذي يسكن في الشقة التي تقع فوق شقته قال:

" لم يخبرني أيّ ﺃحد بهذا الأمر. أمر العجوز ، ﺃقصد . بل ، أجزت لنفسي ترف تصوره فحسب"

هذه العبارة ليست منخرطة في مضمون القصة السردي إلا من حيث هي ذائبة فيه، أي أنها لافتة منهجية حقيقية تخبر القارئ بأن هذا العجوز أصلا لا وجود له لأن كل ما في الأمر هو أن السارد قد انشطر إلى نصفين؛ نصف شاب، يسكن في الشقة السفلى، ونصف عجوز يسكن في الشقة العليا. هذا ما  يقوله لسان حال السارد أما مكره فقد عودنا على النفاذ إلى العكس كما سنجد لاحقا بأن ما حدث في الشقة السفلى هو الوهمي حتى وإن كان الشاب حقيقة في الشقة العليا. وأما تذويب هذه العبارة فهو يتجلي في كون مخبره (الجارة التي سيأتي الحديث عنها) بأمر العجوز متضمنا داخل القصة، أي من خلال كونه محكيا عنه مثله مثل العجوز. وهذا التذويب يعزز أكثر اتجاهنا الإسقاطي النفساني للعناصر المحكي عنها، داخل القصة، على العناصر الخارجية ذات العلاقة بالنص من حيث الكتابة والقراءة. فالملحوظ أن هذا التذويب الذي أدى بهذه اللافتة (الموجهة إلى القارئ بمكر) إلى افتراض مخبر (الجارة) للسارد بأمر العجوز داخل المبنى الحكائي هو من جنس الدلالة الرمزية لـ(لجارة )، كما سيأتي، داخل النص، على القارئ خارج النص. ويعلل ذلك بقوله:

" إذ كلّما حططت الرحال في شقة جديدة ، ﺃفترض بما يشبه اليقين الصلب بأن الشقة التي تعلوني لابدّ من أن تكون مسكونة منذ سنوات بلا عذّ من لدن رجل وحيد و طاعن في العمر. "

يمكن تأويل هذه العبارة سيكولوجيا كالتالي:

إذ كلما بلغت مرحلة من مراحل العمر الجديدة أفترض، بما يشبه اليقين، بأن المرحلة الأخيرة من عمري لا بد أن تختتم بي وحيدا طاعنا في العمر.

يقودنا إلى مزيد من محاولات الاستغوار عندما يؤكد بمكره السردي بأنه نفس الرجل بقوله:

" هو ذات الرجل الوحيد والطاعن في العمر دائما ، مهما تعددت أو اختلفت الشقق"

أي أنه أنا بلحمي ودمي مهما اختلفت مراحل(شقق/نصوص من حيث العمق=باطنية أو نمطية) العمر. من هنا نتوصل إلى الأبعاد الوظيفية لهذه المراحل العمرية نفسها، أي نجد أنها ليست غاية النص بل هي غطاء سيكونمطي لمراحل الكتابة السردية. هذا يعني أن المنطوى السيكولوجي الأخير نفسه ليس نهائيا، بل هو مرحلة من مراحل الترميز المتجهة من قاع النفس إلى قمة المتحد الاجتماعي، أي إذا كانت الشقق، في المستوى الأول، ترمز إلى مراحل العمر فإنها لا ترمز للعمر وفق المتحد الجماعي بشكل مباشر، ولكنها ترمز إلى العمر الوظيفي الذي يخفي في طيته ما يستدعي المستوى الثاني من التأويل. قبل المواصلة سنعود إلى عبارته التالية بمزيد من التفصيل:

" لم يخبرني أيّ ﺃحد بهذا الأمر. أمر العجوز ، ﺃقصد . بل ، أجزت لنفسي ترف تصوره فحسب. إذ كلّما حططت الرحال في شقة جديدة ، ﺃفترض بما يشبه اليقين الصلب بأن الشقة التي تعلوني لابدّ من أن تكون مسكونة منذ سنوات بلا عذّ من لدن رجل وحيد و طاعن في العمر. "

بعد أن توصلنا، من خلال ما ذكرته سالفا، إلى أن هذا العجوز ليس حقيقة بل مجرد وهم، سننتقل إلى رمزيته التي خلقه السارد من أجل أداء فريضتها من خلال استنطاق العبارة الأخيرة كالتالي:

العجوز ليس حقيقة اجتماعية بل سيكولوجية= (هذه الكتابة ليست نمطية بل باطنية) إذ كلما بلغت مرحلة جديدة من العمر (إذ كلما كتبت نصا جديدا) أفترض بما يشبه اليقين بأن المرحلة (النص/الكتابة) الأخيرة من عمري(كتابتي) لا بد أن تختتم بي وحيدا طاعنا في العمر=(الباطني).

بهذا نجد أن النص يخضع لمستويين من العمق على الصعيد التوظيفي للدوال والمداليل وأنه إذا قلنا بأن العجوز ما هو إلا الشطر الثاني للسارد فإن هذا الشطر يرمز إلى الشطرالباطني للنص وقس على ذلك في شأن العناصر الثانوية المترتبة واللازمة لقيامه بدوره السردي.

بعد أن شرب ما تيسر من النبيذ(الويسكي) قرر السارد أن يصعد ليضع حدا لنقرات ذلك العجوز فوقه ولكن أخبرته الجارة، بعد أن أعاد كرة القرع، بأن العجوز قد انتهى خبره ومات منذ زمن طويل.

"ولما أعدت الكرة بقوة ﺃكبر ، انفتح الباب المقابل ، لتخبرني الجارة وعلى محياها أمارات اﻹزعاج والدهشة بأن الشقة مهجورة منذ أن قضى العجوز نحبه قبل سنين عديدة" .

. في قصته "صحراء في الطابق الأخير" كان موظف الفندق هو الممثل للقارئ بينما كان الفندق يمثل القراءة=النص، مع أن هناك تغيرا نسقيا  يتمثل في كون الفندق مذكرا والموظف أيضا مذكر الخ. حتى تتضح الصورة أكثر أقول بأن المشهد الذي نظر إليه السارد من خلال النافذة (في القصة الأولى) أيضا كان مذكرا وهو المطر. والآن نجد في هذه القصة بأن الجارة، على سبيل المثال، أنثى، العمارة مؤنث، المقبرة مؤنث الخ. هذا يعني أن هناك علاقة نسقية عكسية بين عناصر القصة السابقة وعناصر هذه القصة. إذا كنا قد عثرنا على الاختلاف بين القصتين، المتمثل في اعتماد الأولى على انشطار مكاني في تأثيث الحبكة بينما اعتمدت الثانية على انشطار زمني، فإن هذا قد ترتب عليه تحول نوعي في باق عناصر القصة حيث نرى هناك نزوحا من التذكير نحو التأنيث مثلا:

الفنـــدق = العمـارة

الموظف = الجــارة

المــــطر = المقبرة

من هنا يتضح لنا بأن الرامز إلى القارئ (العادي) في هذا النص هو الجارة. إن فهم القارئ لرمزية الجارة يعني أنه سيتمكن بنفسه من افتضاض النص والدخول في أعماقه بحيث يكون من السهل استنطاق رمزية جل العناصر السردية الواردة فيه إن لم نقل كلها. فعندما أركز على رمز واحد مثلا فلعلمي بأن تفكيك هذا العنصر باعتباره رمزيا يؤدي إلى الفهم المطلوب لطبيعته. لقد قلت في شأن الموظف الذي يمثل القارئ في قصة " صحراء في الطابق الأخير" بأن هذا الأخير، الواقع في الحيرة بين الجثة والرجل الذي سلمه المفتاح، يفترض به إعادة القراءة قصد التوصل إلى الخروج من الالتباس. وهو نفس الشيء مع هذه الجارة، فكونها قد أخبرت السارد بأن العجوز قد مات يعبر عن سوء قراءتها للذي يحدث، وهذا ما عبر عنه السارد عندما كشف عن أنه قد انشطر إلى نصفين عبر الزمان. وبما أنه من المستحيل أن يكون شطره العجوز قد عاش في هذه الشقة أصلا، فهذا يعني أن الجارة (القارئ) في ضلال مبين !

لاحظ أن الجارة قالت للسارد بأن العجوز قد مات. إذن فقد تفاعلت مع السارد في حين أنها لم تتفاعل مع العجوز. سأبسط الفكرة أكثر:

الجارة تخبر السارد (داخل النص)=القارئ يقرأ القصة (خارج النص)

قبل إتمام التحليل أود القول بأن المستوى الثاني من الترميز المخضوع لحتميته في هذا النص كنتيجة للصراع الأعمق القائم بين النمطية والباطنية يجعلنا ندرك بأن الشطر الشاب للسارد يمثل البعد النمطي للنص وأن الشطر العجوز يمثل البعد الباطني ! عندما ندقق في مقتضى الانشطار الذي يشكل الحبكة المحورية نجد أن الانقسام يعني تطلع السارد إلى خلق شخصية أخرى مبهمة. أعتقد أن الغموض الذي يكتنف العجوز لا يحتاج لكثير من الأخذ والرد في حين نجد أن الشطر الشاب للسارد يمثل الجانب الواضح النمطي سواء عن طريق كونه المحور الذي من شأنه البث في كل من إزعاج وغموض الشطر العجوز، أو من حيث كونه السارد المنوط به قص أحداث هذه القصة علينا كمتلقين. إذا كان الشاب يمثل البعد النمطي للنص والعجوز يمثل البعد الباطني كما قلت فلنعرض الآن هذه المعادلة بشكل أكثر وضوحا وعمقا معا:

الجارة تخبر الشاب(البعد النمطي)=القاريء يقرأ النص(بعده النمطي)

ولا ننسى دائما بأن الجارة ترمز إلى القارئ العادي الذي يشكل موضوع المراوغة والاستهزاء السردي من طرف السارد الأمكر. وهذا يعني أن إخبارها (قراءته ) للشاب(البعد النمطي) هي قراءة نمطية، أي أنها لا ترتقي إلى مستوى عمق النص. ولذلك قالت الجارة للشاب بأن العجوز قد مات=ولذلك توصل القارئ إلى أن البعد الباطني للقصة هراء(قد مات) !!!

نعيد الكرة بطريقة أكثر وضوحا:

مضمون النص: الجارة تخبـر الشاب بأن العجوز قد مات  ( موت فيزيائي)

تحليــــل النص: القارئ يعتقد بأن القصة عبارة عن هراء ( موت سـردي)

لنعكس الصورة الآن ونخضعها لمبدأ الشرط لنرى كيف ستبدو. راقب أداة (لو) في العبارة الأولى من التحليل الأتي، والتي تقتضي جواب شرط متضمنا في العبارة الثانية.

تحلــــيل النص:  لو اعتقد القارئ بأن القصة ناجحـــــة (حياة سرديــة)

مضمون النص: لأخبرت الجارة الشاب بأن العجوز حي (حياة فيزيائية) !

حتى نصل بالأمور إلى الأرض تماما لنتابع التحليل ونطرح هذا السؤال: هل الجارة كانت محقة فيما أخبرت به السارد؟ الجواب أنها لم تكن محقة ولكنها لم تكذب عليه أيضا، بل هي تعتقد بأنه مات فعلا فماذا يعني هذا؟ يعني أن الجارة بحاجة لفهم ماهية الموت (الرمزي) الخاص الذي تتحدث عنه انطلاقا من خلفيتها الثقافية القائمة على تعريف هذا الموت وفق المبدأ النمطي المعروف لدى الجميع. ولكن قبل المواصلة لا بد من النظر إلى الموت هنا من الزاوية الأنطولوجية، أي ننظر إليه في علاقته الضرورية بالحياة.

الجارة لا تعرف شيئا عن هذا النوع من الوجود (الموت والحياة) = (القارئ لا يعرف شيئا عن هذا النوع من النصوص).

الجارة إذن لم تدرك، داخل القصة، بأن العجوز ما هو إلا السارد الشاب الذي يسألها عن العجوز !! وهذا هو (الجهل) الذي تشارك به القارئ العادي خارج النص رمزيا. يعني أن جهل الجارة بطبيعة موت العجوز، الذي صرحت به للسارد، يساوي جهل القارئ العادي المفترض بطبيعة الجانب الباطني المبهم العميق من هذا النص. فمادام العجوز لم يكن موجودا أصلا، سواء داخل الشقة أو داخل الكون، فعن أي موت تتحدث الجارة ؟ إن الجواب على هذا السؤال هو المبدأ التوظيفي الذي يقودنا إلى تحليل النص تحليلا سيكولوجيا. فمن الجلي، بعد أن نقرأ النص جيدا، بأن هذه الجارة قد تم توظيفها لشيء محدد، وهو أن تلعب دور القارئ الفاشل داخل النص وبطريقة تم تذويبها لتصبح منصهرة مع العناصر السردية الموضوعية. بيد أن هذا السؤال لا يجب أن يتوقف عند الجارة فحسب وإنما ينسحب على الانشطار،المفصل فيه أنفا، نفسه. وهذا ما أضيفه إلى قائمة الأسباب التي تجعل من التحليل السيكولوجي أنسب المناهج النقدية لهذا النوع من النصوص. إن الانشطار الحادث بين العجوز والسارد الشاب تم في نطاق وعي السارد، أما العلاقة الرمزية بين الجارة والقاريء فهي مسألة خارج نطاق الوعي تأتي وفق القانون النفسي الخفي الذي يحتاج إلى نوع خاص من الاستكشاف والاستنطاق. وهذه الطريقة في التحليل لا نستخدمها إلا إذا واجهنا نوعا من البتر الدلالي على مستوى القراءة النمطية.. هذا البتر الذي ليس ضعفا من الكاتب إطلاقا وإنما جاء نتيجة احتكامه ورهانه على سردية البطل المرموز (بدل البطل الرامز) المقتضى منا اختراق المستوى النمطي لهذه السردية إلى مستواها الباطني الذي يضمن لنا قراءة النص على أنه وحدة دلالية متكاملة.

"..، لكنني كنت ﺃرجع أدراجي فرط جزعي من أن تباغتني اليقظة وسط هذه المغامرة الاستكشافية على الأقدام"

هل اليقظة التي يتحدث عنها السارد تعود إليه؟ إن عمومية التحليل تتنافى مع هذا الطرح بقدر ما تدعم الطرح التالي:

إذا رصدنا درجات استعداد السارد للتشظي السيكولوجي الذي نتج عنه الانقسام الهائل، المفضي إلى استقلال شقه المستقبلي العجوز عن شقه الراهن الشاب، سيكون من السهل أن ندرك بأن إسناده اليقظة إلى نفسه، في هذه الجزئية الأخيرة، ليس إسنادا إلى كل نفسه وإنما هو إسناد إلى غير الذات المتكلمة وإن كانت ذاته في نهاية المطاف كما أن العجوز شخصيته الثانية في نهاية المطاف.هذه الذات، الثانية المنسوب إليها فعل اليقظة، هي عبارة عن الغير النفسي الناتج تقمصه عن المبدأ المعاكس، أي أنه نتيجة التداخل (بين الذاتين) الناجم عن التخارج الموازي له (بين شخصيتين) ويكون التداخل حاصلا بين ذات افتراضية و ذات السارد. وهو الأمر الذي يوازي التخارج الحاصل بين شخصية السارد (شقه الحاضر) وشخصية العجوز (شقه المستقبلي) الذي سوف يصبحه ونصبحه جميعا عندما نبلغ أرذل العمر للأسف الشديد. إذا كان مبدأ التداخل والتخارج قد اتضح بالكشف عن انفصال شخصية العجوز عن شخصية السارد في هذا النص فمن الطبيعي، وبشكل جدلي، أن تمتد هذه الذبذبات إلى مبدأ التداخل المتجلي في نسبة السارد لليقظة إلى نفسه، من خلال عبارته الأخيرة، ثم إن هذا المبدأ قد مد خط اتصاله بما هو خارج النص كما رأينا في تحليل رمزية الجارة على سبيل المثال. لقد خلصنا إلى أن الجارة الواردة في النص ترمز للقارئ (العادي)، من الناحية النفسانية، وهذا يعني تداخلا وتخارجا بين النص والمرجع الخارجي أيضا في شكل تفاعل جدلي هو امتداد لكل ما ذكرنا، وسنذكر، من التفاعلات المخضوع لها سيكولوجيا في بناء هذا النص. وهذا يجعلنا لا نتفاجأ عندما نجد السارد يخاطب القارئ من خلال ما سميته أنفا باللافتات المنهجية. إن الجارة تمثل القارئ عن طريق التخارج والتداخل المذكورين تماما كما أن مخاطبة السارد للقارئ، من خلال تلك اللافتات المنهجية، يتم في شكل التداخل والتخارج بشكل حي بين النص والمحيط. وهذا ما لا نغفل عن استثماره في استنطاق أدق تفاصيل النص. أود توضيح هذه النقطة أكثر فهي هامة في رحلة استغوار خفايا هذا النوع من النصوص. مثلا عندما نقرأ هذا النص ونكتشف بأنه مبني على انشطار سيكولوجي جوهري، متمثل في انقسام شخصية السارد إلى شخصية الشاب وشخصية العجوز، فإن هذا الاكتشاف ما هو إلا مرحلة أولى من الاكتشافات التي تميط اللثام عن عدد من الانشطارات المشكلة للنص كنتائج جدلية للانشطار الرئيسي المتحدث عنه، علما بأن هذا الأخير تم بوعي السارد لكونه يشكل الحبكة التي نسج النص حولها من أجل أن ينسج، من خلالها، ما وراء النص المتمثل في مسألة الكتابة عن الكتابة كما قلت في البداية. إذا كان هذا الانشطار الرئيسي أوضح من سواه فلأنه ذو دور أكبر من سواه أيضا. وإن عمقه يناسب دقة الوظيفة الموكولة إليه. إذا كان انعدام شطر العجوز يساوي انعدام نصف النص، إن لم نقل النص بأكمله، فإن انعدام الذات الافتراضية المنسوب إليها أمر اليقظة، المخشي من الوقوع فيها، كما جاء في عبارته الأخيرة، يعني أنه يناقض مبدأ المغامرة التي تتميز بها الذات المتكلمة في ميلها إلى الإيغال في خفايا الأحلام، سواء عن طريق رفضها للنقرات شعوريا أو عن طريق رفضها لليقظة (الكتابة النمطية) لا شعوريا. وإذا كان السارد قد انقسم إلى شخصيتين شعوريا فإنه قد انقسم إلى ذاتين لا شعوريا ! فالذات المتكلمة تمثل السارد من خلال (الأنا)، بينما الذات المفترضة تمثل القاريء من خلال (الأنا الأعلى) الذي يسمى الضمير من الناحية الأخلاقية. إذا كانت الجارة تمثل القارئ العادي (غير المستهدف بهذه الكتابة) تماما كما مثله موظف الفندق في قصته"صحراء في الطابق الأخير" فإن الذات الافتراضية (الأنا الأعلى) تمثل القارئ المتمكن (المستهدف بهذه الكتابة). كيف يمكن فهم مثل هذه المعطيات ؟ يأتي الجواب كالتالي:

إن الجارة ترمز للقارئ العادي من خلال كونها امرأة عادية =(كاملة نمطية) وهذا يعني أن ما يرمز للعكس يجب أن يكون غير عادي =(ناقصا/مبهما منفلتا من الفهم) ولا ننسى أن الكمال في هذا النص يرمز بالقوة إلى التقليد والنمطي وما هو ساذج وإلا لكان النص مفهوما =(بسيطا ساذجا) وعندما نعود إلى مسألة (الأنا الأعلى) نجده ناقصا لأنه ما هو إلا عنصر نفسي مبهم منفلت من قبضة الفهم، لهذا فهو يرمز إلى القارئ المفترض عن طريق كونه كذلك. أعرف أن القارئ لن يفهم كل شيء بهذه الطريقة  لأن الرمزين مطروحين بصيغة ذاتية، إذن  فلنجعل  كلا من الرمزين (الجارة) و (الأنا الأعلى) موضوعين  بدل أن نبقيهما ذاتين، ماذا ستكون النتيجة؟ سنجد أن رمز(الجارة=المرأة) لا يحتاج لأدني جهد حتى نتعرف على مرموزه، في حين أن رمز (الأنا الأعلى) من الصعب جدا إدراك مرموزه. وبهذا يعمل مبدأ الترميز السيكولوجي في هذا النص. إن الجارة، بعبارة أخرى، ترمز إلى القارئ بعد أن تتحول من البعد الذاتي إلى الموضوعي، أي أنها لا تدل على ذات القارئ بل على طبيعة الموضوع الذي يمكن أن يتناوله هذا القارئ من خلال فعل القراءة. فإذا كانت الجارة (المرأة=الإنسان) واضحة كاملة فهذا يعني أن القارئ(البسيط) سيقرأ النص من حيث هو واضح بـ(سطحية) هذا هو بيت القصيد ! وهو عكس ما يحدث عندما يخاف السارد من الـ (يقظة) أناه الأعلى الرامز إلى افتطان القارئ المقتدر. إذن فهو لا يخشى من يقظة الذات المتكلمة الساردة، بل يخشى من يقظة الذات الرامزة فيه إلى القارئ المفترض المتمكن (المستهدف من خلال كتابة هذا النص) الذي يقابل، بإبهامه، وضوح الجارة (المرأة=الكاملة=التي لا تحتاح للجهد منا في الإدراك والتحليل). هذا هو الاتجاه الذي يعززه توجه النص. النقطة الثانية أن الحديث عن اليقظة، بهذا الشكل الوارد والمشار إليه أنفا، يحمل ترميزا مزدوجا  تماما كما هوالشأن مع الجارة والأنا الأعلى. فلو أدركته اليقظة(السرد النمطي) (لاحظ أن هذا الأخير مازال في صيغة ذاتية) أي لو أدركت كتابته العميقة الباطنية الممتعة كتابة نمطية (يقظة). فمن جهة نرى أن هذه اليقظة تمثل نهاية القصة (الحلمية=الباطنية=العميقة) من خلال انتهاء حالة السارد، الغارقة في بئره الباطني، من جراء نفاد الوقود السردي الضامن لصيرورة النص وتوجيهه نحو النهاية الطبيعية.

إذا كانت اليقظة ترمز للوقوع في الكتابة النمطية، التي من شأنها إنهاء السرد الباطني الممتع، عن طريق إنهائها للحلم، فإن هذا ما تشير إليه اليقظة من الناحية الذاتية كما قلت قبلا. وعندما نطرح الفكرة بطريقة عكسية  كموضوع تتضح لنا أكثر. لنتابع التا لي:

البعد الذاتي لليقظة : أخشــى من الوقـوع في يقظتي = (كتابتي النمطية)

البعد الموضوعـــي: أخشـــى من الوقـوع في يقظته = (قراءته لنمطيتي)

إن مبدأ الترميز في هذا الصدد لا يختلف في شيء عن المبدأ العام المخضوع له في رمزية الجارة وغير ذلك، على سبيل المثال، كما جاء الحديث أنفا. لنعد للتذكير بالطريقة التي تناولنا بها رمزية الجارة قبل مواصة التحليل. لقد قلت سالفا: ( إذا كانت امرأة واضحة كاملة فهذا يرمز إلى أن القارئ(العادي) سيقرأ النص-كما هو متوقع في عمق نفسية السارد- من حيث هو واضح بـ(سطحية، سذاجة). هذا هو المبدأ الذي قسنا عليه في تحليل رمزية اليقظة في هذا الصدد. أي أنه لما كانت اليقظة، المخشي من الوقوع فيها، مسندة إلى غير الذات المتكلمة (الأنا الأعلى) فهذا يعني أن القارئ، الافتراضي المتمكن المستهدف بالكتابة الباطنية العميقة الممتعة، مخشي من قراءته للجانب النمطي المخشي من الوقوع فيه عن طريق الوقوع في رمزه (اليقظة) !

بعدما أخبرته الجارة بموت العجوز، ليكتشف السارد (أو يفتعل اكشتافا) بأنه ليس بخير وبالتالي عليه أن يراجع نفسه من خلال البحث عن هذا العجوز المزعج في سراديب نفسه بدل إزعاج الجيران بقرع باب شقته المزعومة، قال:

"ﺃسقط في يدي ، فتقهقرت إلى شقتي ضائعا مثل عقرب وحيد في ساعة ،"

إن تشبيه حالته بعقرب الساعة هو تشبيه فني من الناحية الواعية، ولكن  الأمر من الناحية اللاواعية دقيق ومخطط له بدراسة أبعاده بشكل مقنع.

يتقهقر:  يعود أدراجه من نقطة ما إلى نقطة أخرى دونها. إن السارد، عندما تدخلت الجارة لتضع حدا لخروجه عن المألوف مؤقتا، عاد إلى شقته= (زمنه) تماما كما أن عودة العقرب إلى الوراء ترمز لعودة الزمان إلى لحظة ما قبل الأخرى. إنه تشبيه دقيق سواء من حيث نفيه باق العقارب، بقوله (كعقرب وحيد ) نظرا لعدم وجود العجوز في الغرفة العليا، أو من حيث عودته إلى شقته الزمنية التي تشبه بالفعل عودة هذا العقرب. وكأن العجوز كان مثل العقرب الآخر في هذه الساعة !

من المعلوم أن عقارب الساعة يتعلق أولها بالثواني، ثانيها بالدقائق وثالثها بالساعات. فمن الملحوظ أن رجوع السارد إلى شقته بعد أن اقتحم شقة العجوز أول مرة – إذا ما أخذنا بعين الاعتبار انشطاره الزمني- يمثل العقرب الوحيد المتبقي في الساعة. والعقرب الثاني (العجوز) قد انعدم على لسان الجارة التي صرحت بأن أمره قد انتهى منذ زمن بعيد. 

سأحاول تحليل هذه النقطة معتمدا على رمزية الأعداد المعروفة لدى علماء التحليل النفساني. فرغم أن هذه الدراسة عموما ستكون مفهومة أكثر لو تمكن القارئ من قراءة قصة "اليوم الأول بعد الموت" إلا أنه لا بأس من الافتراض بأن القارئ، المستهدف بهذه الدراسة، قد قرأ القصة أو سيقرؤها بعد هذه الدراسة.

من المعلوم أن أحداث هذه القصة تدور حول ثلاثة أشخاص؛ هم السارد والعجوز والجارة (بغض النظر عن نتائج التحليل المتوصل إليها سالفا). عندما ننظر إلى آلة الساعة نجدها تحتوي على ثلاثة عقارب؛ واحد يدور في مدار تبلغ مسافته الزمنية 12 ساعة. الثاني في مدار تبلغ مسافته 60 دقيقة. والثالث في مدار تبلغ مسافته 60 ثانية.

نأتي إلى العمارة الدائر فيها أحداث النص ونجد أنها تحتوي على ثلاثة أشخاص كما قلت سالفا. فعندما أخبرت الجارة السارد بأن العجوز قد مات، قال السارد ما ورد في عبارته الأخيرة:

" فتقهقرت إلى شقتي ضائعا مثل عقرب وحيد في ساعة"

هذه العبارة تشير إلى الشعور بخيبة أمل ما لدى السارد. وذلك من جراء تلقيه خبر موت العجوز، على ما يبدو، علما بأن الأخير يفترض أن يكون مجرد مزعج يستوجب من السارد التطلع إلى التخلص منه بدل الأسف على حتفه. ولكن عوض أن يرجع السارد إلى شقته مسرورا، لأن الموت قد كفاه شر الخوض في منازلة هذا العجوز الذي قد لا يكون مناسبا لأي تفاهم، عاد متقهقرا إلى الوراء. لنركز على البنية السببية لهذه اللعبة الوظيفية كالتالي.

الجارة جاهلة = (توقف سردي)

العجوز مات  = (توقف سردي)

السارد تقهقر= (توقف سردي)

من المفروض أن يكون العجوز على رأس القائمة، لو كان النص نمطيا، ولكني وضعته في الوسط لأنه لم يمت كما رأينا من خلال التحليل المفصل فيه أنفا. إذن فالأمر هنا يتعلق برصد البعد السببي فقط للعبة. لو لم تتوقف الصيرورة السردية على لسان الجارة (الجهل) ما توفي العجوز (لأن كلا من الموت والحياة اللذين خاضهما العجوز مجرد وهم). و لو لم تتوقف هذه الصيرورة  على يد العجوز (الموت) ما توقفت على يد السارد (الضياع التقهقر). لاحظ:

العجوز= العقرب الكبــير ( أكبــر سنـا من السـارد )

السارد= العقرب الأوسط ( أصغر سنـا من العجوز )

الجارة= العقرب الأصغر ( أقــــل علما من السـارد )

إن الذي حدث هو أن السارد صعد من شقته السفلى إلى الشقة العليا (حيث العجوز) من أجل القيام بإعادة الاتحاد السيكولوجي استكمالا لدائرة السرد الحاكمة للنص والتي انطلقت من الانشطار، الذي يفرض العلم الضروري بأولية الوحدة، لينتهي إلى هذه الوحدة مرة أخرى في شكل نهاية السرد. لقد صعد لكي يعطي أكل هذا الانشطار، الرامز بالدرجة الثانية إلى الانتصار كتابيا للشق الباطني للنص. ولكن عندما وجد الجارة (القارئ العادي) لم تفهم( لم يفهم) شيئا عاد (متقهقرا ضائعا ) إلى شطره الشاب وشقته السفلى.

إذا كانت الجارة، على سبيل المثال، ترمز للقارئ فإن عقرب الثواني يرمز للجارة ! صحيح أن السارد ذكر عقربا واحدا ولكني دخلت إلى كل العقارب عن طريق رمزية الأعداد تماما كما دخلت إلى الكل الدلالي عن طريق رمزية العناصر السردية. ومن هنا أجد أن العقرب الكبير يمثل العجوز الكبير في السن. ولا ننسى أن هذا العقرب يدور في مدار أكثر زمنية من غيره (كبر السن). أما العقرب المتوسط فيمثل السارد. وهذا يعني أن عقرب الثواني، الذي يزود عقرب الدقائق بالوحدات الزمنية الأساسية قد تعطل (الجارة جاهلة = توقفت صيرورة السرد) ولهذا اضطر عقرب الدقائق (السارد ) إلى التوقف والضياع والتقهقر.. لأن عقرب الثواني (الجارة)، الذي يزوده بوحدات الزمان الأساسية (الخبر الصحيح بوضعية العجوز)، قد تعطل (جهلت الجارة). ولهذا توقف العقرب الأوسط (السارد) دون أن يكمل الوصول إلى العجوز= تزويد عقرب الساعات بالوحدات الزمنية المطلوبة على مستوى الدقائق !!

بعد أن أعاد السارد كرة اقتحام شقة العجوز مرة أخرى، دون أن يكون هناك تدخل من الجارة أو غيرها لإخباره بموت أو حياة العجوز، بدأنا نرى أشياء، كانت مجرد أحلام في شقتة السفلى، تتحقق في هذه الشقة العليا.

 "دنوت من النافذة. أزحت الستارة ، فأبصرت لحظتها على امتداد النظر مقبرة شاسعة تنتشر على نفس الأرض التي كانت تحتل حلمي ، وعلى طولها كان ثمة حصان ﺃبيض بلاسرج ولالجام يعدو"

إذا كانت هذه المشاهد القبورية قد أصبحت هنا حقيقة، ينظر إليها السارد من خلال نافذة للشقة التي كانت للعجوز، فلقد وجدنا، في مستهل القصة، بأن الإشارات إلى هذه القبور كانت مجرد أحلام كما جاء في العبارة التالية:

" في الواقع ، نقرات العكاز كانت واهنة ومسموعة بالكاد ، لكن تواصلها بلا هوادة ودون فاصلة صمت واحدة ، حال بيني وبين النوم لمدة ليست باليسيرة. وفيما بعد ، عندما سقطت في غفلة من السهاد بين براثن النعاس ، لم تتلاشى النقرات حتى في الحلم . كل نقرة كانت تفتح في ﺃرض الحلم قبرا."

قبل المواصلة سنضيف هذا المثال:

"الأدهى من ذلك ، عندما جربت في ليال أخرى كإقطاعي صغير أن ﺃنتقل إلى أراض جديدة وفارغة في الحلم ، تحولت بدورها إلى مقبرة شاسعة ، واستأنفت بلا رحمة و بانتظام آلة رهيبة التهامها لكل شبر."

أولا أجد هناك تناصا بين هذه العبارة وعبارته الواردة في "صحراء في الطابق الأخير" حيث قال:

" كنت أخمن باﻹنتقال إلى السرير الثاني علّ النوم يوافيني ، لكن المسافة بدت لي محدقة بالخطر كأني سوف ﺃمشي مثل لاعب الأكروبات على حبل مشدود في الهواء يفصل بين السريرين وفي الأسفل عمق حفيّ وسحيق"

لقد تحدثت بما أظنه يكفي حول هذه العبارة من خلال قراءتي السالفة لـ"صحراء في الطابق الأخير" وبالعودة إلى الموضوع أقول: واضح أن الأمر يتعلق بالبحث عن الامتياز لدى السارد عن طريق الحفر والتنقيب السردي المفضي إلى تأسيس الحكاية الباطنية، وهذه المحاولة قامت بها شخصيته الأولى (الشطر الشاب من السارد الذي يقابل الشطر العجوز بعد أن وضحنا بأن هذا الأخير لا وجود له على الصعيد الاجتماعي وما هو إلا كائن سيكولوجي) لكنها لم تفلح لأن هذه الأراضي تحولت إلى مقبرة شاسعة. وها هو يتحدث عن شقه المغامر المتمكن الذي لا يمنعه من الإقدام على موبقة اقتحامه عالم الأحلام، من بابها الأوسع، إلا إزعاج تلك النقرات التي اختلط، فيما بعد، حابلها بنابل نومه ليؤثر ذلك الخليط اعوجاجا على بوصلة النوم بشكل قد انعكس حتى في نوعية الأحلام التي رآها .

 "...ﺃنهي إلى علمكم بأن الفضول حرضني أحيانا على الدخول بنفسي إلى أراضي الحلم"

هذا امتداد للفبركة السالف ذكرها. فالملحوظ أن السارد لديه فضول في الدخول بنفسه إلى أراضي الحلم وفي هذه المقولة أتلمس ذبذبات دخوله بنفسه إلى زمن المستقبل عن طريق انقسام الشخصية عبر الزمان إلى شقين؛ واحد عجوز، في زمن المستقبل، والثاني مازال شابا في زمن الحاضر. هذه التلميحات تساعدنا على اكتشاف ما يكنه السارد من مكر للحكاية داخل النص. لأنه عندما يتحدث عن فضوله في الدخول إلى أراضي الحلم بـ(نفسه) فهو يعني بجسده، أي أنه يتحدث عن الحضور الكلي في عالم الأحلام. وهذا ما يكاد يفصح عن استعداده للزج بالنص في غياهب السرد الباطني.

عندما تعلق الأمر بهذه الشخصية المغامرة أصبح بمقدوره السير طويلا في تلك المقبرة كما يستطرد قائلا:

"..، والسير لمسافات طويلة في قلب هذه المقبرة الموحشة.."

لقد سار لمسافة طويلة في هذه المقبرة (السرد الباطني) لكنه كان حذرا خوفا من أن تدركه اليقظة فيبقى حيث هو.  السارد ينتصر للشطر الباطني من حكايته. وها هو ما كان حلما في شقته السفلى صار حقيقة بعد صعوده إلى الشقة العليا. وهذا دليل على أن الشقة السفلى كانت وهمية (لم يجعلها مسرحا لبؤرة الحكي الأساسية الأعمق التي تشكل قلب النص) بدل أن تكون الشقة العليا كذلك لكونها تحتوي على عجوز وهمي. بما أنها كانت كذلك من الأصل فإن المقبرة الدائر مشهدها في فلك هذه الشقة السفلى لا بد من أن تكون وهمية (في الحلم ) وليست حقيقة  ينظر إليها من خلال النافذة. بما أن السارد قد ادخر البعد الحقيقي، للمشاهد التي تفاعل معها في شقته السفلى، ليستعرضها بعد صعوده إلى الشقة العليا فهذا يؤكد رمزيا انتصاره للشق الباطني للنص تماما كما وجدنا طوال مدة وفضاء التحليل السالف بأن إبهامية إيراد العجوز تشير إلى إبهامية البعد الباطني. وما دام الأمر كذلك فلا عجب أن يكون ما رآه السارد، في شقته السفلى، عبارة عن أحلام ليس إلا، وأن الحقائق سوف يستعرضها بعد تحقيق الاتحاد السيكولوجي مع شقه العجوز أولا ثم نسف وتذويب الشقة (الوظيفية) السفلى وبالتالي اختزالها في الشقة العليا لنفهم، في نهاية المطاف، بأن الرجل الكامل (بعد توحد النصفين) كان يقبع داخل الشقة العليا وكفى !!!

أي أن النص المراهن  على مقرؤيته، من طرف السارد، والذي لم تفقه الجارة فيه حرفا، هو النص الذي تم سرد أحداثه في الشقة العليا. بهذا تكون الجارة قد فشلت كليا في فهم العالم الباطني الذي كان يعيشه جارها السارد. وهذا يترتب عليه رمزيا فشل القارئ النمطي في التلقي والفهم الصحيح للنص ما دام هذا الأخير يدور حول العجوز المبهم الذي لم يوظف السارد إلا من أجل تفخيخ المشهد السردي من ألفه إلى يائه بحيث يكون شبه مستعص عن كل قارئ كسول.

في قصته "صحراء في الطابق الأخير" ختم الكاتب سرده بأن ترك لغزا مثيرا للتساؤل، وهذا اللغز يكمن في التعارض القائم بين ما أدلى به الموظف وغيره من أهل الفندق. ففي حين وجد أهل الفندق جثة السارد في الغرفة المكتراة من قبله، صرح الموظف بأن هذا الرجل(السارد) قد خرج في الصباح مما يعني انشطارا عجيبا، أظنني قد تحدثت عنه بتفصيل (في دراستي للقصة السابقة)، والآن نجد في هذه القصة لغزا لا يقل إثارة للتساؤلات عن اللغز السابق كما لا تكتمل قراءة وتحليل هذا النص ما لم نجد له حلا. قبل المواصلة سنأخذ العبارة التي ورد فيها الحصان والتي لم يرد مطلقا في غيرها، وبهذا سيكون تحليلنا، لهذه العبارة، معتمدا على فهمنا لطبيعة النص العامة وبناء على المعطيات التحليلية التي شكلت أمامنا تتمة تأويلية للنص الذي يبدو أنه مبتور الدلالة على مستوى نسيجه النمطي. العبارة الوحيدة التي ورد فيها الحصان هي التالية:

" أزحت الستارة ، فأبصرت لحظتها على امتداد النظر مقبرة شاسعة تنتشر على نفس الأرض التي كانت تحتل حلمي ، وعلى طولها كان ثمة حصان ﺃبيض بلا سرج ولا لجام يعدو"

اللغز هنا يكمن بالضبط في كلمة "حصان"، فمن أين جاء الحصان؟ ما وظيفته السردية؟ ما وجهته الدلالية؟ إلى ماذا يرمز؟. إن الاقتصار على إقحامه بهذه الطريقة لا يقل تفخيخا للقصة وفتحها على ما يمكن تسميته بالقصة المسكوت عن سردها. وهي التي تشكل التكملة الصامتة لهذه القصة مما جعلها تحمل أكثر من نفسها. لأن بعدها الترميزي يفوق ما تحمله من رموز. وذلك عن طريق خلق ضرورة الإجابات لدى القارئ من خلال ما تثيره من التساؤلات مما يجعلنا نحس بأن القصة، وإن انتهت حبرا على ورق، لم تنته في نفوسنا إلا إذا عملنا على إنهائها بأن نجد الإجابات على السرد غير المسرود.

بما أن الحصان لم يرد بطريقة لها صلة وثيقة بباق العناصر السردية فسنعتمد على الخصائص المضادة لخاصيته الوارد بسببها. سنضيف مثالا يشير إلى خاصية مضادة لخاصية الحصان حيث يقول السارد قبل ذلك:

" لكنني كنت ﺃرجع أدراجي فرط جزعي من أن تباغتني اليقظة وسط هذه المغامرة الاستكشافية على الأقدام"

الآن يمكننا القول بأن السير على الأقدام هو خاصية مضادة لخاصية السيرعلى ظهر الحصان. فمن المعلوم أن قطع مسافة بالأقدام تستغرق وقتا أطول بكثير مما تستغرقه راكبا على الحصان. هذه هي النقطة التي سنركز عليها لأنها ببساطة هي النقطة المقصودة في النص وإليها ينتهي التحليل. من المعلوم أن السارد، من خلال حلمه في الشقة السفلى، كان يجول في هذه المقبرة، المحلوم بها، على قدميه. ولقد خاف من أن تفسد عليه اليقظة هذه الرحلة الاستكشافية. تحدثت أعلاه عن طبيعة ورود اليقظة وقلت إنها تشير إلى نهاية النص (الباطني).  وذلك لأن العجوز، المفترض أنه كان ينقر عليه السقف، كان يجره من النوم إلى اليقظة. لاحظ أنه عندما استجاب السارد لذلك النقر توجه نحو نهاية القصة. وذلك بأن صعد إلى شقة العجوز ليكتشف السر الذي لن يبقى للقصة وقود سردي من دونه. فبعد أن تمكن السارد من رؤية المقبرة في اليقظة، وثبت بأنها كانت هناك بالفعل، أصبح من المناسب أن يرى الحصان يجول فيها. أي أنه قد أصبح هناك مجال للعودة بشكل أسرع ! هذا  في حين كان الأمر يتعلق بالسير على الأقدام في الحلم ! وعلى مستوى البنية الأكثر عمقا نجد أن السارد قد ابتعد كثيرا عن نفسه أثناء سرده تلك الأحداث الغريبة التي تبدأ بالانشطار السيكولوجي لتنتهي باتحاده بعد ارتكاب كل ما أوتيه من جرائم المكر ضد الكتابة التقليدية. إن هذا الحصان لا يرمز للعودة (السريعة) من مقبرة الحلم إلى واقع اليقظة فقط، بل يرمز لعودة السارد إلى الحياة أيضا( عودة من موت العجوز الوهمي إلى حياة الشاب الحقيقي). لا ننسى ما خلصنا إليه سالفا من أن انتصار السارد للجانب الباطني للنص يعني وهمية الشقة السفلى التي كان يستأجرها بدل أن يعني وهمية شقة العجوز. وهذا يعني أنه نظر إلى نفسه على أنه كان ميتا في شقته السفلى وليس العكس. بما أنه كان يؤسس للحياة في الشقة العليا، وليس السفلى، فهذا يعني أن موت العجوز، على لسان الجارة يشير إلى وهمية استئجار السارد للشقة السفلى. لاحظ أن إفادة الجارة، على المستوى الأعمق للنص، تتعلق بموت الشاب من خلال وهمية استئجاره للشقة السفلى وليس بموت العجوز. وبهذا تكون الجارة فاشلة فيما تهذي به من الحديث عما يفترض حدوثه في  الشقة العليا التي راوغها السارد بمكر يندر له مثيل حتى جعلها تتحدث عن العجوز الموهوم في هذه الشقة مما عرضها  للضحك والسخرية والاستبلاد. لهذا فإن نهاية هذه القصة تشبه نهاية قصته "صحراء في الطابق الأخير" فهذه تختتم بظهور الحصان الرامز إلى العودة من الموت(المقبرة ) إلى الحياة (اليقظة) النهاية السردية، والثانية يعود فيها السارد إلى الحياة من خلال خروجه السليم من الفندق رغم  أن ذوي الأخير وجدوا هناك جثة هامدة حيث كان يرقد. إذن فإن الحصان رمز للعودة السريعة التي أصبح السارد قادرا على إنجازها بعد إنجازه الاتحاد السيكولوجي. وهذا يقابل استصعابه القيام بذلك عندما كان بعيدا عن لحظة تحقيق هذا الاتحاد (نهاية القصة). ولقد كانت العبارات، التي أشار فيها السارد إلى السير قدما، دليلنا العكسي في التوصل إلى هذه النتيجة.

شفرة العنوان:

عندما نقرأ النص نجد أن العنوان مذكور فيه بطريقة تبدو واضحة لا تحتاج لكثير من العناء. ولكن عندما نجد بأن حبال النمطية والمألوف قد تقطعت أمامنا سنضطر إلى التنقيب عن شيفرته في ضوء معطيات التحليل العام للنص وليس للعنوان فحسب. عندما أعاد السارد كرة اقتحام شقة العجوز متمكنا من الدخول وقد عالج قفل الشقة بطريقته الخاصة، رأى صورة للعجوز معلقة على الجدار.

" كنت وجها لوجه مع صورتي التي ستكون يوما. مع ذكرى صورتي التي سبقت أيامي. مع الصورة التي سأتخذها في اليوم الأول بعد موتي".

أعتقد أن تفكيك العنوان وإعادة إنتاجه لن ينسجم مع أية محاولة للقراءة النمطية. بل ستندرج النتائج حتما في خانة العبث. ولكن عندما نعالجه في ضوء المعطيات التحليلية العامة التي توصلنا إليها من خلال هذه الدراسة مثلا سنجد هناك انسجاما عجيبا. ففي نهاية تحليل رمزية العجوز توصلنا إلى أن شقته هي الشقة الحقيقية التي كان فيها السارد. وأن الشقة السفلى وهمية لم ينتصر لحقيقيتها بل راهن على ما حدث في ظلام الشقة العليا حيث شبح العجوز. وقلنا بأن صعود السارد إلى الشقة العليا، بغية إعادة الاتحاد السيكولوجي مع شطره العجوز، هي عودة من الموت إلى الحياة. لاحظ أن هذه الصورة قد صادفها السارد فور دخلوه إلى الشقة العليا وهذا يعني أنها صورته الأولى (في حياة السرد الباطني المتوخى) بعد موته (في السرد النمطي عندما أوهم للجارة بأنه استأجر الشقة السفلى). وبما أنه لم يستأجرها، بل كان طوال الحكاية قابعا في الشقة العليا، فهذا يعني أن الموت المبعوث منه هو أيضا موت وهمي لأنه موت (جهل) قرائي وليس كتابيا. لأن هذا الموت تم تحصيل خبره انطلاقا من لسان حال الجارة التي تحدثت جهلا عن موت العجوز، وهذا يعني تعاملها مع ما حدث في الشقة السفلى فحسب. وهو ما ينتج عنه بالضرورة كونها لم تفقه شيئا في الحكاية مادام بعد هذه الأخيرة، المراهن على مقرؤيته من طرف السارد، هو البعد الباطني الذي ترمز إليه الشقة العليا وما فيها من أشباح السارد. من هنا يمكن إعادة إنتاج العنوان كالتالي:

"اليوم الأول للنص بعد فشل القاريء العادي في قراءته كما ينبغي !"

الخلاصة:

إن قصة "اليوم الأول بعد الموت" هي قصة ما وراء سردية، إذ أن الأبطال فيها لا يمثلون حكائيا أبطال المرجع الخارجنصي بشكل مباشر، بل يمثلونهم بطريقة غير مباشرة تقوم على إضعاف أرضية السرد النمطي وتكثيفها بحيث يتحول هؤلاء الأبطال وجوبا إلى رموز.  وأن أبعادهم الرمزية هي الضامنة لسردية النص وإمكانية معقلته نقديا، في حين أن أبعادهم السردية العادية النمطية القائمة على الإحالة المباشرة لبطل النص على بطل خارج النص تفضي إلى العبث والدخول فيما هو فانطازي. كل هذا جاء نتيجة الدفع بالنص إلى السرد الباطني على حساب النمطي. ولهذا أصبح السرد هنا سردا للسرد أو سردا يقدم لنا تصورا سرديا لوضعية السرد بدل أن يقدم لنا نمطيا تصورا لشيء ما غير السرد كالحديث عن التربية أو السياسة أو الزواج أو الطلاق الخ. بما أن القراءة النمطية لا تضمن التوصل إلى استخراج هذا التصور، لكون البعد النمطي للنص يتحدث عن إشكالية أخرى (استئجار شقة ..إزعاج العجوز ونقراته.. الخ) وبما أن هذه الإشكالية ناقصة يدفعنا نقصانها بقوة إلى استنطاق مستواها الثاني من السرد (ما وراء السرد) فلذلك كان علينا التنقيب عن هذا المستوى لكونه مطابقا لطبيعة الدافع الكافي للكتابة كما يتطابق مع طبيعة الغاية المراد الوصول إليها من خلال إنجاز النص. من هنا نصل إلى تلخيص نفساني للنص ونقول بأنه يدور حول إشكالية السرد الأدبي من حيث الكتابة والنص والقراءة. وهي إشكالية منشطرة الهم بين الشعور بضرورة تلبية حاجة الذوق القرائي المفترض، القائم على معيار العادات والتقاليد والنمطية، وبين الاستجابة، الضرورية تاريخيا من جهة أخرى، لصيرورة النص الأدبي السردي التي هي نتيجة التاريخ الشامل. ومن ثم فهي تستحق أن تكون موضوعا لما هو أدبي إبداعي بعد أن كان يكتفى بالتطرق إليها من خلال النص النقدي. هذه القصة إذن تقوم على نفس الهموم التي تدور حولها "صحراء في الطابق الأخير" أي أن الأدب فيها قد بدأ يجرؤ على أن يحكي نفسه بنفسه بعدما كان مجرد وسيلة لتمرير ما هو غير أدبي. بما أن التمثل الإبداعي الأدبي لظاهرة من الظواهر يعتبر أصدق تمثل، لكونه نابعا من الذات جدليا، وليس من الآخر ميكانيكيا، فهذا ما يعطي لقصة "اليوم الأول بعد الموت" مصداقيتها الأدبية.

              

http://www.doroob.com/?p=37829  (1)

http://www.doroob.com/?p=36179  (2)

http://www.doroob.com/?p=37829  (3)

(4) كتاب بعنوان "الاستعارات التي نحيا بها" لمارك جونسن وجورج لايكوف