إلماحات فنية في ظلال قصيدة
إلماحات فنية في ظلال قصيدة
رضوان سلمان حمدان
عاشق الزنبق
شعر: نبيلة الخطيب
مـاذا أتى بكَ؟! قال: الوجدُ وكـيـف تُـقـبل، والأيامُ غاديةٌ، أبـعْـدَ هذا الفراق المرّ تذكرُني؟! يـا خِلُّ طيفك لم يبرح ذرى أمَلي أين الخصورُ إذا ما الصبحُ زنّرها؟! حـقـلٌ من الغيد لونَ العيد منتشياً وكـل خـدٍ بـوهج الشوق ملتهبٌ عـرائـسُ الـزهْر بالأثواب رافلةٌ لـكـنـهـا الريح تلهو فيه قاصدةً * * * إن أبـطـأ الـنّسمُ والأفنانُ ناعسةً يُـصـابـحُ الزنبقَ الغافي فيوقظه يـظـلُّ بـالـوردِ مفتوناً يظِلُّ به فـيرشفُ العُمرَ من ذاكَ اللّمى عبَقاً مـا كـان يبرَحُ في الأكمام موردَهُ دعـوتُـه نحتسي الإصباحَ مُؤتلِقاً بـادَأتُـهُ الـشّـدوَ حتى شفهُ خَدَرٌ تـلا عـلـيّ حديثَ الروح، ثم إذا آيٌـ: وأيّ جـلالٍ فـي تـأمّـلهِ! كـقـبضة القلبِ لولا الريشُ همَّ بهِ كـفُـسحةِ العين والإدهاشُ أوسعَها حـين ارتدى خُضرةَ الأفنانِ دُكْنتَها يـفـرّ كـالآه إمّـا الـوجدُ أطْلقها يَـرقـي جراحي فلا ألقى لها أثَراً الوقتُ أرسلَ قُرصَ الشمس يوقظُنا فـعُـدتُ أسـألُ علّي لستُ حالِمةً | والولَهُفطرتُ زهواً وخِلتُ الكونَ لي عـلـيّ تحملُ طيفَ العمر أولَه؟! مَـن أبرمَ الوعدَ في حينٍ وأجّله؟! وكـلـمـا مـسَّ قلبي اليأسُ أمّلهُ ونُـضـرةُ الـفلّ حين الطَّلّ بَلّلهُ؟! لـكـلّ قـدٍّ هـوىً في البال ميّله يـزدادُ ذوْبـاً إذا الـمـحبوبُ قبّله فـي سُـنـدُسٍ مُونِقٍ بالحُسْن كَمّله وكـلـمـا اشتدّ فِعلُ الريح أخجله * * * تـراهُ هـبّ رفـيـفـاً كي يُعجّله يـطوفُ بالذّكْرٍ حيثُ السّحْرُ أذهلهُ وإنْ سَـقَـتْـه عـيونُ الوردِ ظلّلهُ سـبـحـانَ مَن صَبّه خمراً وحَلّله إلا إذا الـعـبَـقُ الـمكنونُ أثملهُ وبـالـزنـابـق قـد زيّنتُ منزلهُ فـراحَ يـرقـصُ جـذلاناً وأكمَلهُ صَـمَـتّ أبـحـرُ في معناهُ رتّله قـد أجمَلَ الكونَ في سَطرٍ وفصّله نـحـوَ الـفـضاءِ وذاكَ الهمُّ أثقلهُ وكـرّ نـجـمٌ بـذيـلِ الليلِ كَحّله تـوشّـحَ الـظِـلّ أعطافاً وأسدَله يـرفّ كـالـقلبِ إمّا العِشْقُ سربَله كـم عَـلَّ قـلـبيَ في لمْحٍ وعَلّلَه! فـأسـدلَ الـلـيلُ أستاراً وأغفَله مـاذا أتى بك؟! قال: الوجدُ والولهُ | ولهُ
قرأت القصيدة وكررت فيها النظر، ولكم شد اهتمامي مستوى الشاعرة الصوتي والمعجمي والبياني والبديعي ؛ مما جعل القصيدة ثرّى بالصور والمعاني الغنائية المنسابة، والذي ساعد على ذلك أن نسجها جاء على بحر ( البسيط )، ثم اختيار الهاء المشبعة وصلاً بحرف الروي( اللام )، لتعطي امتداداً صوتياً غنائياً مشبعا، وسبق حرف الروي في أغلب القصيدة بالتشديد وهو ما يسمى لزوم ما لا يلزم في ثلاثة عشر بيتاً من أصل أربعة وعشرين بيتاً وهو من البديع الذي ورد في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر )؛ ليعطي هذا تنويعاً في اللحن بين شدة وخفة، وكان اختيار الهاء المشبعة موفقاً لأن الهاء مخرجها من أقصى الحلق والإشباع بالواو ومخرجه الجوف فالقصيدة كلها جوفية المعنى ( إن صح التعبير ) فكان التناسب الرائع بين المعنى والصوت.
وقد خلت القصيدة من عيوب القافية فلا تضمين ولا إيطاء أوإقواء .
أما السناد فقد اهتمت به الشاعرة في القصيدة ( فتح ما قبل حرف الروي ) إلا في بيتين:
كسر الجيم في ( يعجّله ) في قولها :
إن أبطأ النسم والأفنان ناعسة تراه هبّ رفيفًا كي يعجّله
وكسر الزاي في ( منزِله ) في قولها :
دعوته نحتسي الإصباح مؤتلقا وبالزنابق قد زينت منزله
وكذلك خلت القصيدة من عيوب الفصاحة والبلاغة فقد ائتلف اللفظ مع المعنى فلا تنافر حروف وكلمات، أو غرابة استعمال وضعف تأليف، أو مخالفة قياس وكراهة في السمع.
وقد طهُرت القصيدة من أي تعقيد لفظي أو معنوي أو كثرة تكرار أو تتابع إضافات أو ضمائر أصحابها مجهولو الإقامة.
مما يعني تمكن الشاعرة وتحكمها صياغة ولغة وبياناً مع فصاحة الكلمة والمتكلم وبلاغتهما .
لن أقف على كل ما في القصيدة من بديع مبدع فقد جمعتُ طاقةً من لطائفه والبيان، يسهل على أهل الاختصاص والمتذوقين سرعة الوقوف عليه.
* * * *
بدأت القصيدة بسؤال مباشر يدل بذاته على المفاجأة والدهشة.
ماذا أتى بك ؟ قال: الوجد والوله فطرت زهورا وخلت الكون لي وله
للتدليل على أن الشاعرة لم تكن تتوقع إتيانه أو رجوعه – على المعنيين –.
وقولها :( فطرت زهوا) يؤكد على المفاجأة ، فالذي يفاجأ بمحبوب لديه يكاد يطير فرحا ، فلا يتمالك نفسه فتخف به الحركة.
ومن جمال التعبير والتناسق بين اللفظ والمعنى استعمال ( زهوا ) التي من معانيها – الخّفة – أي السرعة والنشاط، وهي تكاد تلبس لفظة – طرت – فلا تنفك عنها .
و ( طرت ) تعطي معنىً وصورة .
أما المعنى : فالدلالة على شدة الفرح ووقع المفاجأة المحببة .
وأما الصورة: فتداخل – الشاعرة – وهي تطير بصورة العصفور الذي جاء يقطع المسافات طائرا، فامتزج الاثنان في صورة حركية جمالية واحدة – فهما واحد – هو طار إليها وهي طارت إليه.
وفي البيت صورة أخرى : هي المزج بين الوجد والوله، فمن معاني الوجد الحزن والحب .
والوله:من ولهت الأم إلى طفلها :حنت إليه ، ووله الطفل إلى أمه : فزع إليها.
فالجواب على السؤال ماذا أتى بك؟ أن سبب إتيانه إما عدم تحمل الغياب فحزن فجاء، وإما الحب، والمعنيان في الحقيقة متشابكان.
لذا جاء التعبير بالوله لتؤكد هذا الاندغام في المعنى. فالغياب أحزنه وأجج فيه الشوق فحن وفزع إليها كما يفزع الطفل إلى أمه...
والزهو: له معنيان: التيه والتعاظم والافتخار.
وأيضاً : زها الشيء فلاناً زهواً: استخفه
وخفّ : بمعنى سرع ونشط .
فإذا حملنا البيت على معنى التيه والتعاظم والافتخار تكون الشاعرة قد عبرت عن الامتلاء بهذه الأمور، وحُق لها ذلك بهذا الرجوع ، فقد أحسّت بعظمة الموقف وافتخرت وتاهت بهذا المحب العاشق الوله ، وإلى هذا المعنى أميلُ ؛ فالمعنى يقتضي ذلك والمعرفة بالشاعرة يصرفُ إلى هذا المعنى.
وأما المعنى الثاني، فقد ألمحتُ إليه آنفاً ولا داعي لإعادته ، ويحسن أن ألفت إلى أن هذا البيت جمع بين ثلاث مُحسّّنات بديعية وعروضية، وهي: التصريع والسجع والتصدير ( وهو أن يُجعل أحد اللفظين المكررين أو المتجانسين أو الملحق بهما ، أحدهما في آخر البيت والآخر إما في صدر المصراع الأول أو في حشوه أو في آخره.)
إن عودة العصفور من هناك من( فلسطين) بعد هذه الغيبة التي طالت أو قصرت ، ينكأ جروح الشاعرة ، ويظهر العصفور رمزاً للقضية ، فالشاعرة صاحبة قضية حية قائمة في وجدانها .
ياخِِلُّ طيفك لم يبرح ذرى أملي وكلما مسَّ قلبي اليأس أمّلهُ
وتقول أيضاً:
يرقي جراحي فلا ألقى لها أثرا ً كم علَّ قلبيَ في لمحٍ وعللهُ
والشاعرة لا يسيطر عليها اليأس أو يغلبها وهي الشاعرة المؤمنة بدليل قولها،...لم يبرح ذُرى أملي... بهذه الكلمات الثلاث تؤكد على الحضور الكامل والأمل الدائم.
أما ذكر اليأس فعبرت عنه بالمسّ وهي بذاتها تدل على عدم التمكن أو الدخول في القلب ، بدليل قوله تعالى:( إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)الأعراف 201.
وإن هذا الذكر لليأس من الشاعرة ليدل على الواقعية البشرية وفي النهاية تغلب المثالية الإيمانية ( فإذا هم مبصرون ).
والإنسان دائم الحاجة إلى ما يسنده ويشد عضده، وهي لم تحتج إلا إلى طيف، وهذا في غاية التحقق المبدئي والإيماني.
إن تتابع الأسئلة بعد سؤال الدهشة واللهفة كما عبرت هي في آخر تصديرها للقصيدة يوحي بأنها لم تستفق جيداً من وقع المفاجأة فتمطره بالأسئلة المتتابعة :
من أبرم الوعدَ في حينٍ وأجلهُ؟
وكيف تُقبل والأيام غاديةٌ؟
أبعد هذا الفراق المرّ تذكرني؟
وهي أسئلة تابعة للحالة الأولى وليست أسئلة استنكار ولا استغراب.
ثم تبدأ الشاعرة بدورة الوعي والهدوء والاستقرار لتقول له:
إذا كان الوجد والوله هو الذي أتى بك فاعلم أني لستُ عنك بغافلة ولا ناسية، فإن طيفك أنت أيضاً لم يبرح ذُرى أملي.
ويبدو الصحو الكامل والوعي التام قد زالت مسبباته بسؤالين أيضاً نشعر معهما بالراحة والاطمئنان وحلاوة التذكر لتبدأ رحلة جمالية جديدة ملأى بالصور والمشاعر والتألق والتأنق الإبداعي .
أين الخصور إذا ما الصبح زنرها؟! ونُضرة الفل حين الطل بللهُ؟!
حقلٌ من الغيد لون العيد منتشياً لكلِّ قدٍّ هوىً في البال ميّله
وكل خدٍّ بوهج الشوق ملتهبٌ يزداد ذوباً إذا المحبوب قبّلهُ
صور متتابعة ،شرحُها وادعاء بيانها ينقص من بهائها ويحط من عليائِها...
الريح تلعب بالأذيال قاصدةً وكلما اشتد فعل الريح أخجله
ولما في هذا البيت من جمال صورة فإنني أحب أن أقف عليه وِقفةًًًًًًً قصيرة، ذلك أن الشاعرة تسرح بنا في حقل الزنابق بألوانها الزاهية، وخصورها التي يزنرها الصبح!! ونضرة الصبح حين الطل بلّلهُ.
وحتى لا أتجاوز ما لا بُدَّ منه أقول: إن الربط بديع بين الصور والمعاني لألفت إلى علاقة الطل بالصبح في هذا البيت.
ومن جمال الدمج المعنوي المصور، أن الريح تلعب بأذيال الغيد في الحقل (الزنبق والفل) وغيرها... ويبهرنا التعبير ب ( قاصدة) حيث التشخيص الذي يحمل معنى الإرادة العاقلة.
فصورة الريح وهو يقصد إلى كشف سوق الحقل بتحريك أوراقها بقوة (وهو المناسب للفظ الريح هنا ) فتخجل بدورها من إبراز مفاتنها المغطاة دائماً بالأوراق والأزهار، فيُعطي التعبير( بالخجل) هنا إيحاءً تشخيصياً دَعَوياً في منتهى اللطافة والروعة في هذا المقام.
ولقد وقفت على هذا البيت أُرجع فيه البصر فما وجدت فيه من فطور يمنع منه ، بما يحويه من صور وليست صورة مفردة وبما يحويه من حركة وتشخيص وإيحاء، بالتأكيد هو مقصود لدى شاعرة بهذا المستوى من الإبداع والوعي، جعلني أوقن أن عدم وجوده في القصيدة سيكون أفقدنا صوراً ومعنى ما كان أن تخطر على البال لولا وجودها ...
ومن جميل التوافق والانسجام والإرادة الواعية للمعنى أن ( الأذيال) تعود إلى الغيد في قولها:
حقلٌ من الغيد لون العيد منتشياً لكل قدّ هوىً في البال ميّله
ويمتد إلى بيت في نهايات القصيدة تقول فيه:
حين ارتدى خضرة الأفنان دُكنتها توشَّح الظِّلَّ أعطافاً وأسدله
فأذيال أثواب الغيد مرخاة مسدلة وهي صورة تناسب طبيعة أوراق الزنبق المرسلة ، ومن طرائف المعرفة أن الزنبق يُعرف بأنه نبتٌ حيي.
والغيد جمع غيداء،والغَيَدُ: تمايلٌ وتثنٍّ في لين ونعومة.
فأي تناغم وتناسب وانسجام أبدعتهُ الشاعرة في هذا البيت!! مع ما بين (غيدٍ و عيد) من بديع.
* * * *
إن أبطأ النّسْم والأفنان ناعسة تراه هبّ رفيفاً كي يعجّلهُ
يبدو أن العصفور يسعى إلى حياة وحركة حوله ومعه، لذا نراه يرفض السكون والخمول فيقصد إلى الحركة والتحريك برفيف جناحيه ليعجّل في الحركة من حوله.
وصورة الأفنان وهي ساكنة هادئة بالنعسى كأنما تنتظر من يوقظها من غفوتها فيكون العصفور هو المحرك المتحرك.
وهنا إلماحة خفيّة إلى مدى عشق العصفور للزنبق وفتونه به ، فيبكّر في صحوه ويصابحه (وهي تصور المسابقة في الإصباح ).
إنها الحركة الدائبة ومن يعشق يتحرك ويحرِّك ويستيقظ ويوقِظ.
* * * *
يظَل بالورد مفتونا يظِل به وإن سقته عيون الورد ظلله
في هذا البيت جمال من نوع آخر ...
فإنما هو مبادلة حب بحب وظل بظل ، فالعصفور من شدة افتتانه بالزنبق يلازمه ويتخذ منه ظِلا ، يسكن إلى جناح الزنبق وأعطافه وأذياله....
ثم هو بدوره حين الورد يأذن له بوِرد اللّمى ليسقيه رحيقه كاملا مُؤثِراً وإن شفه الخدر يعلوه مرفرفا فيظلله ، وهي صورة إيحائية جميلة....
أحبت الشاعرة أن تصدِّر القصيدة بكلمات تضع القارئ في الجو الذي استلهمت منه القصيدة ، على غير عادتها ، فذكرت مرة بأن العصفور يرشف الرحيق ومرة أخرى بأنه يشتف الرحيق، فتعمَد إلى رسم الصور المختلفة من اشتقاقات اللفظ الواحد فلا تحس بالتكرار أو النشوز.
- فيرتشف الرحيق : من رشف الماء ونحوه يرشفه رشفا ورشيفا ، أي مصّه بشفتيه.
- ورشف الإناء: اشتف ما فيه واستقصاه .
- ويشتف الرحيق : أي يتقصاه بحثا ، وبمعنى ذهب ببعضه .
ففي الحالين إرادة التوكيد أن العصفور يعمَد إلى أنه لا يُبقي من رحيق الزنبق شيئا.
وعندما استعملت هذه الكلمة في القصيدة جاءت بصورة مجازية لطيفة ، فالرّشف للعمر، واللّمى هي زهر الزنبق .
فيرشف العمر من تلك اللّمى عبِقا سبحان من صبّه خمرا وحلّله
وفي بيت آخر:
بادأتُه الشدو حتى شفّه خدر فراح يرقص جذلاناً وأكمله
فكانت النتيجة الإضمار والرقة، وهي النتيجة الطبيعية لارتشاف الرحيق من الزهر وتقصي ما فيه.
صورة جميلة متخيلة ، إنه يرشف العمر لا الرحيق، والوردة هي اللّمى حال كون العصفور مولعا بهذا العمر فلا يدعه إلا وقد استقصى نهايته فيفارق ثملا بالعبق الحلال…
دعوته نحتسي الإصباح مؤتلقا وبالزنابق قد زينت منزله
وهنا يأتي تدخل الشاعرة بعد رحلة تأمل ووصف، لتكون طرفا مشاركا مع العصفور والزنبق. فكأنها تريد أن تقول بأنها والعصفور سواء، ما كان لها أن تكون غافية أو غافلة ، وليست بحاجة إلى من يوقظ نومها أو غفوتها فهي مع العصفور رقة برقة ورشفة برشفة وإيقاظاً بإيقاظ ، فما كان لهذا السحر الصباحي أن يفوتها أو أن يأتي العصفور وهي في انشغال أيا كان عنه . فأرادت أن تشعره بأن هناك من يشاركه الحياة بكل جمال صباحاتها، وأجمِل بهذا التعبير (الصورة ) ( نحتسي الإصباح ). وأترك لهذه الصورة الخيال والتأمل ..
وفي الشطر الثاني لفتة جميلة إلى أن الشاعرة تعلم أو على يقين بان هذا العصفور سيأتيها ، فتسبق بإعداد منزله وتزيين مرتعه بما يحب ، وعبرت عن ذلك في تصدير القصيدة بقولها : )قبل عامين أحضرت بعض الزنابق إلى حديقة منزلي ولم يمض إلا وقت قصير حتى أتى العصفور ) وشعرا في هذا الشطر الثاني .
وكما قلت فإن الشاعرة تدخل مع العصفور في احتساء جمالات الصباح وائتلاقه وارتشاف العمر بالشدو والترنم والتغني ، وتسبقه بذلك فما يلبث العصفور أن رقّ وفتر واسترخى .. وإذا به يهتز فرحا وطربا ويكمل وهو في هذه الحال الشدو ويشارك بالترنم .
إنه التوحد مع الطبيعة في صفاء جمالها ونقاء فطرتها ، وإنه حديث الروح وهل يفهم هذه اللغة إلا الأرواح الطاهرة النقية ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) إنه الفقه والفهم والتماهي بلغة الروح التي أودعها الباري تعالى في كل كائناته ( سبّح لله ما في السماوات وما في الأرض ).
* * * *
تلا عليّ حديث الروح ثم إذا صمتّ أبحر في معناه رتّله
إنها آيات الجلال والجمال فيمن يتأمل بروحه ووجدانه ويجعل بصره وحِسهُ رسول صدق إلى ذينك الروح والوجدان .
نلمس هنا أن وجدان الشاعرة المؤمنة لم يستطع صبرا عن التعبير عن هذا الوحي الإيماني الذي انصب في الروح عبقا، فعاجلت قبل انقضاء القصيدة إلى التسبيح بطريقتها بسلاسة وانسيابية وتلقائية عجيبة.
آيٌ: وأيُّ جلالٍ في تأمله! قد أجمل الكون في سطر وفصله
ونحن للحق في ظلال المشهد الشفيف المبدع لو لم تظهر الشاعرة مكنونها الإيماني لعاجلنا نحن به ، ولكنه الشعور الصدوق السبّاق الذي لا يكذب صاحبه ولا قارئه فيبرز بلا تصنع أو تكلف وفي وقته الذي ينبغي أن يظهر فيه . إنها آية، وإن كانت كقبضة الكف أو كفسحة العين المندهشة إلا أنها أجملت واحتوت وفصلت ورمزت إلى عظيم الكون وإدهاشه وجماله وجلاله، إنه السطر (العصفور) عبّر عن سر ال ( كن ) في هذا الكون .
واختيار كلمة ( جلال ) تعطي هذا المعنى من العظمة؛ فالجلال يحوي الجمال ، ولو كانت ( وأي جمال ) لما أعطت المعنى الذي تحويه (الجلال). فمن أسماء الله تعالى (ذو الجلال) يقول الحق : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وليست من أسمائه وصفاته (الجمال) والسبب ما أسلفنا ،أليس في ذلك دلالة على المستوى المعجمي الرفيع لدى الشاعرة؟!
وتختم القصيدة (المدهِشة ،المعجِبة ) بسبعة أبيات لا تزال ترقى في القصيدة صُعُدا ، على غير ما عهدنا عند الكثيرين الذين ما أن يصلوا إلى آخر القصيدة حتى تكون قد زحفت على الأرض ، فالصور تتوافد والمعاني تتواصل متراصة متراكبة والألفاظ والكلمات ترقص نشوى أن كانت هي المختارة هنا.
كقبضة القلب لولا الريش همّ به نحو الفضاء وذاك الهمّ أثقله
كفسحة العين والإدهاش أوسعها وكرّ نجمٌ بذيل الليل كحّلهُ
تشبيهان متلاصقان موفقان رائعان، أو لنقل مثلان: الأول: قلبِيّ. والثاني: عينِيّ.
القلب قبضة، والعين فسحة ، وتوافق الريش والإدهاش بينهما .....و( نحو الفضاء ): صعود يقابلها ( كر نجم ): نزول.
والتناسب بين ( همّ به ) و( نحو الفضاء ) واضح ، وكذلك بين ( أثقله) و( كرّ نجمٌ ) أي نحو الأرض.
والتعبير هنا ب ( أثقله) تناصٌ قرآني من قوله تعالى: ( ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض).
واختصار الحذف في : لولا الريش هم به نحو الفضاء ولو ذكر جواب لولا لكان حشوا وهو مثل ما جاء في كتاب الله تعالى : ( ولو أن قرآنا سُيرت به الجبال أو كُلم به الموتى... بل لله الأمر جميعا).
وصورة العين المفتوحة اندهاشا المكحّلة بذيل الليل !! والمِرود هو النجم ذو الوميض المخضّب بسواد الليل الكاحل، فقد كان الوميض عاملاً مشتركاً بين بريق العين وبريق النجم والبريق الرائع لريش العصفور، فهو بطبيعته يتلألأ عندما يسقط عليه الضوء! والكحل أيضاً عامل مشترك بين عناصر الصورة الثلاثة، فسواد العين وحلكة الليل والدّكنة التي وصفتها الشاعرة في لون العصفور وأسدل الظل فوقها كما أرخى الليلُ سدوله!
حين ارتدى خضرة الأفنان دُكنتها توشحَ الظلّ أعطافاً وأسدله
إنها صورة مركّبة مدهشة مبتكرة غير مسبوقة فيما أزعم.
* * * *
يفر كالآه إما الوجد أطلقها يرف كالقلب إما العشق سربله
ومعلوم ما بين ( يفر و يرف) من البديع.
والآه يطلقها الوجد ، والذي يفر هو الطير والذي يرف هو القلب ، ثم التناغم بين الوجد والقلب ..!!
صورة العصفور حين انطلاقه بلا استئذان هي صورة الآه حين تخرج منفلتة ومنطلقة من الأعماق مثل ذلك كذلك، وإن رفيفه حين يفر كرفيف القلب المسربل بالعشق ملازمة ودواماً.
وسربل هنا اشتقاق من ( سرابيل ) الكلمة القرآنية ، يقول تعالى: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) فهي القميص وهي الدرع الذي يُتحصن ويُتقى به. وهي تعني الملازمة .. وقد جاءت هنا - في القصيدة- في مكانها اللائق.
والقلب العاشق له رفيف كرفيف جناح الفراشة أو العصفور.
* * * *
في الأبيات الثلاثة الأخيرة تعود القصيدة إلى بداياتها لتشكل دائرة مغلقة ، تتشابك البداية مع النهاية في حلقة مدوّرة .
فالعصفور أتى بعد غياب ليُرقِي جراح الغربة والفراق فإذا بالجرح يبرأ ( فلا ألقى له أثرا ) :
يَرقي جراحي فلا ألقى لها أثرا كم علّ قلبيَ في لمحٍ وعللهُ
وظاهر ما بين( علَّ و علَّل ) من البديع .
وهذا البيت يعود ليتشابك مع قول الشاعرة :
يا خلُّ طيفك لم يبرح ذرى أملي وكلما مسّ قلبي اليأس أمله
فالعصفور أمرض قلبها وفي ومضة كاللمح سقاه وأبراه وداواه .
والبيت قبل الأخير:
الوقت أرسل قرص الشمس يوقظنا فأسدل الليل أستارا وأغفله
يعود بنا إلى البيت الذي يقول :
أين الخصور إذا ما الصبح زنرها؟ ونُضرة الفل حين الطل بلَّلهُ
وفي هذا البيت قبل الأخير من روعة البيان ما فيه ، فالوقت يرسل قرص الشمس لتطل على الأرض فيُرسل قرصُ الشمس بدوره خيوطه لتقرع جرس التنبيه والإيقاظ ، فإذا بالشمس بدل أن تفعل ذلك تشفق على العاشقين فتسدل ستار الليل ليمتد فترة أطول مغفلة أوامر الوقت.
أو أن الليل هو الذي يرخي سدوله ويغشِّي المكان بضبابيته فيحجب ضوء قرص الشمس حتى يفقد العاشقان الإحساس بالوقت وينعمان بهذه اللحظات الناعمة البديعة المؤنسة ...
وإنها لصورة من أبرع الصور وأروعها.
وإنها لتذكرنا بحبس الله تعالى الشمس من الجريان والغروب حتى يحقق النبي يوشع عليه السلام بغيته في دخول الأرض المقدسة قبل غروب قرص الشمس .
* * * *
وتختم القصيدة ببيت الدهشة والإدهاش:
فعدت أسألُ علّيَ لستُ حالمة ماذا أتى بك ؟!قال:الوجد والوله
لنرى أنفسنا منسابين في قراءة القصيدة من أولها وكأنها لم تُختم.
إدهاش بداية وإدهاش نهاية سطرته مع القصيدة ( اللوحة ) ريشة فنان مبدع كان الرسم والتلوين والخيوط والظلال بالحروف والكلمات، فكان هذا التركيب الرائع لتخرج لوحة فنية رائعة جمعت من ألطاف ولطائف البديع والبيان والمعاني ما يبهر العقول ويذهب بالألباب ، إنها: "عاشق الزنبق"!