القدس والمسجد الأقصى

(في ديوان العرب)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

(1)

 من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال قولهم " العرب أمة شاعرة " ، وكذلك قولهم " الشعر ديوان العرب " . ولا مبالغة في ذلك : فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم ومسيرة حياتهم .

**********

 عزيزي القارئ: في حلقة جديدة من " ديوان العرب " ندعوك لتصحبنا في رحلة نفسية فنية إلى " القدس والمسجد الأقصى " . وحادينا قوله تعالى : " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، لِنُرِيَه من آياتنا ، إنه هو السميع البصير " (الإسراء 1)

 فالقدس بلد مبارك بنص القرآن لأنها تحتضن المسجد الأقصى . والمسجد الأقصى هو قبلتنا الأولى . والمسجد الأقصى هو البقعة الطيبة التي شاءت إرادة الله أن يُسرِيَ بنبينا الكريم إليها من المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى لا تشد الرحال إلا إليه بعد المسجد الحرام ، ومسجد النبي ص بنص الحديث الشريف .

 فلهذه المكانة الروحية السامية للمسجد الأقصى لهَجَت به ألسنة الشعراء ارتباطا بالإسراء . يقول أحمد شوقي في همزيته المشهورة :

أسـرى  بـك الله لـيـلا إذ iiملائَكُهُ
لـمـا  خـطـرت به التفوا بسيدهم
صـلّـى وراءك منهم كل ذي iiخَطَرٍ




والرسْل في المسجد الأقصى على قَدَمِ
كـالـشهب بالبدر ، أو كالجند iiبالعَلَمِ
ومـن  يـفـزْ بـحـبيب الله iiيَأْتَمِمِ

**********

 وكان للمحن التي نزلت بالقدس  وفيها المسجد الأقصى  أثر قوي في تفجير طاقات الشعراء ، والتعبير عن حبهم وولائهم ، في مناجيات حارة صادقة ، كما نرى في الأبيات التالية للشاعر يوسف العظم :

يا  قدس يا محراب يا iiمسجد
سُفوحك الخضر ربوع المُنى
كـم رُتّـلـت في أفقها iiآية
أقدام  عيسى باركت iiأرضها





يـا  دُرَّة الأكوان يا فرقَدُ ii..
وتُـربُـك الياقوت iiوالعَسجَدُ
وكـم  دعـانا للهدى iiمُرشِد
وفـي سماها قد سرى iiأحمدُ

**********

 ويمضي الشاعر بوجدان متدفق بالحب للقدس ، فيبرز مكانتها الروحية فيقول :

الوحيُ  والتنزيل iiوالأحرفُ
وسـورة الإسراء ما iiرتلت
تـبارك  القدسُ وما iiحولها
في كل صدْرٍ من دمي iiدَفْقَةٌ





والآيُ والإنجيل والمصحفُ
إلا  وأسـماع الدُّنَى iiتُرهف
وصـخرة القدس بنا iiتهتف
وكـل  عـينٍ دمعةٌ iiتُذرفُ

**********

 ونرى الشاعر السوري " محمود مُفلِح " يناجي القدسَ بلدَ الإِسراء ، ويخلع عليها من صفات الأمومة ما يشخصها في عين المتلقي فيقول :

يـا  قدس يا بلد الإسراء ، يا iiلُغَةً
يا وردة الجُرح، يا أم العيال، iiفهل
مـن  قال إن المآسي لا iiتضاجعنا




كـالـجمرِ يُتقنها من كابد iiالشَّجنا
ينسى بنوك النَّشَامى الثَّديَ واللبنا؟
وأنـنـا  بـعـد لم ندفع iiالثمنا؟؟

**********

 ويعبر الشاعر عن الولاء الدائم ، والوفاء الحي الذي لم تقتله المحن ، ولم تنل مته النكبات ، بل زادته قوة وتوهجا وتجذُّرا . يقول محمود مفلح :

نـعم  ترنّحت الأجساد يا وطني
نـعم  تساقطت الأحلام مجهضةً
نعم  ذبحنا ، وكان الذبح iiمتصلا
لـكننا  ما خفضنا قط جبهتنا ii..
ولا  نـسينا بدرب القدس iiسُنبلة
ولا  تعبنا من التجديف في iiلُجَج







نـعم ركبنا إليك المركَبَ iiالخَشِنا
وقد عرينا ، وذقنا الويل والحزَنَا
ومـاا رأيـنا على جزَّارنا iiوهَنا
ولا نـكـسـنا سيوفا حرة iiوقَنَا
ولا رغـيفا بماء القلب قد iiعجنا
كـانت تهز صوارينا .. iiلتُغرقَنَا

**********

 وفي ترنيمة متفائلة نرى الشاعر " سليم الزَّعْنون " :

يـا أمة القدس قد أصبحتِ في iiالأمم
غـنـى لك الشعر من أحلى iiقصائده
لا تـحـسبوا الدمع من حب أُذَل iiله
أو  مـن بـقايا شباب عاودته iiرؤى
إن الـلـواتي أثرن الحب في iiكبدي
دفـعـنَ كـل عـزيز في مُظاهرة
زغرودة النصر خلف الأهل صارخة








أعـزَّ  أشـهـر مـن نار على عَلَمِ
"ريـم عـلى القاع بين البان iiوالعلم"
أو  "مـن تـذكـر جيران بذي سَلَمِ"
أضـحت مع العمر أحلاما من iiالحُلُمِ
خـطـرن  في جنبات المهد والحرم
فالزوج والطفل في الأقصى على قدمِ
لا  لـلـخضوع ، ولا للظلم iiوالظُّلَمِ

**********

 وكان للنكبات التي نزلت بالقدس ، وإصرار الصهاينة على تهويدها ، وتشبثهم بها ، وإسالة الدم العربي في ربوعها .. كان لكل أولئك أثر كبير في جنوح كثير من الشعراء إلى البكائيات والسوْداويات في شعرهم ، كما نرى في الأبيات التالية للشاعر " حلمي الزّواتي " :

يا قدس يا أَلَقَ الطفولة iiناعسا
مـدّ الظلام على رباك جناحَه
والـمسجد الأقصى يقلب iiكفه
حشدوا له الأوغاد رغم أنوفهم





الحلم بات على هضابك iiباكيا
والليل  من فوق المآذن iiساجيا
وأذانه صوت العواصف داويا
فـتـجمعوا سدّا ونهرا iiطاميا

 **********

ويفزع الشاعر يوسف العظم لتلك الحال التي صارت إليها القدس فنسمع منه هذه الصرخة الإيمانية المدوية :

يـا  قدس يا محراب يا iiمِنْبرُ
أقدام من داست رحاب الهدى؟
وكف من تزرع أرضي ، iiوقد
مـن  لوَّث الصخرة تلك التي
وأمـطـرَ الـقـدس iiبأحقاده
ودنّـس الـمـهد على iiطهره







يـا نـور يـا إيمان يا iiعنبرُ
ووجـه من في ساحها iiأغبر؟
حـنا  عليها ساعِدِي iiالأسمرُ؟
كـانت  بمسرى أحمد iiتفخر؟
فـاحترق  اليابس iiوالأخضر؟
إلا عـدو جـاحـد iiأكـفرُ؟؟

**********

 وحينما تهل ذكرى الإسراء يستبد الحزن بالشاعر : جابر قميحة لما نزل بالقدس من محن وبلاء ، كما يستبد به الشوق إلى زيارة المسجد الأقصى ، ويحقق ما أراد ولكن في سياحة روحية ، ولّدتها أحلام اليقظة ، وفي محراب الأقصى تستغرقه روحانية غامرة ، لم تنتزعه منها إلا الأيادي السود .. أيادي الصهاينة الغادرين الأدعياء . يقول الشاعر جابر قميحة :

لـقد  هلت رؤى الذكرى
وقـد  نزّت جراح iiالقل
فطِرتُ على جناح الشوق
وهـا قـد جئت يا iiمحرا
ودمـع الحب في iiالصلوا
أنـا لـن أبـرح iiالمحرا
ذرونـي أرتـوي iiمـنه
ولـكـن الأيـادي iiالسو
وقـالـوا لـم يـعد iiلكمُ
هـنـا  قـد كان iiهيكلنا











ومـلءُ  قـلـوبـنا الآهُ
ب مـمـا قـد لـقـيناه
ق  لـلأقـصـى iiلأحياه
ب  أسـتـدفـي iiبذكراه
ت روَّان___ـي iiوروّاه
ب حــتـى يـأذن iiالله
وأشـبـع مـن نَـجاواهُ
دَ شـدّتـنـي . فَوَا iiآه!!
ولا حـتـى iiبـقـايـاهُ
بـنـيـنـاهُ iiوشِـدنـاهُ

**********

 ولكن منطق الدين الحق ، وحقائق التاريخ الدامغة تُدين هؤلاء في أكاذيبهم وادعاءاتهم ، وستبقى القدس عربية إسلامية إلى الأبد بمشيئة الله .

 (2)

 عزيزي القارئ : إن الشاعر يوسف العظم يبرز المفارقة الهائلة بين حال القدس التي كانت , وحال القدس التي صارت , حتى تتبين فداحة الجناية الصهيونية على البلدة الطيبة المباركة . يقول يوسف العظم :

أبَـعْـدَ وجهٍ مشرق iiبالتقى
وبعد ليث في عرين الشَّرى
وبـعـد  شعب دينه iiرحمة




يُـطـلُّ وجه كالح أسودُ ii؟
يـحُل كلبٌ راح يستأسد ii؟
يـحل  مَنْ وجدانه يحقد ii؟

**********

 ويمضي الشاعر عمر بهاء الدين الأميري شريدا في الله , يضرب في فجاج الأرض تحت لهيب الغربة , ويحل عليه ... عيد الفطر وهو في مدينة الرباط بالمغرب , فلا نرى على وجهه ابتسامه الفرح , وأقول له " إنه العيد , أين بشاشتك " فكان جوابه :

ما العيد والقدس في الأغلال رازحة
وزأرة المسجد الأقصى مُضرَّجة iiال
والـلاجـئون  صيام العيد iiفطرهم




وفـي الـخـلـيل ملمات iiوتشريد
أصـداء  بـالدم , والويلات iiترديد
وبـشـر أطـفـالـهم همٌّ iiوتسهيد

**********

 وكان حرق المسجد الأقصى من أخس الجرائم التي ارتكبها الصهاينة في تاريخهم الطويل , وتتوهج مشاعر الشعراء وقرائحهم أمام هذه الجناية الفادحة . وبعد مرور عام على هذه الجناية البشعة يقول الشاعر عبد الرحمن علي العبادي :

جـرَعْـنا  لوعة الذكرى
وأنـت فـي حَـنَايانا ii..
ونـار  فـي رحاب iiالقد
وذي  أعـوامُـنا iiتمضي
ويمضي الجيل في صمت
وأهـل  الـمسجد iiالمقهو







بـيـوم القدس iiوالمسرى
قـلـوب مـلت iiالصبرا
س قـد أذكـت بنا iiجمرا
عـلـى آلامـنـا iiتترى
لـيـصرع  بالردى iiسرا
ر  في الأغلال iiكالأسرى

**********

 وفي الذكرى الكئيبة نفسها يعجز الشاعر عمر بهاء الدين الأميري أن يحُول بين نفسه وبين البكاء , ولكن دموعه لم تكن دموع الضعف والاستسلام , ولكنها كانت دموع الحُر الأبي التي تشحن النفس بطاقة العزم , وضِرام الإقدام . يقول عمر الأميري :

يا  يوم معراج الرسول وأنت iiفي
عـذرا  إذا خـنق البكاء iiتحيتي
لـكـنـه الأقصى , وفي iiنكباته
دمـع الأبـي الحر بعض iiجهاده
فالقدس  نار محاجرى iiومشاعري
هل تطمئن بي الصلاة وقبلتي ال
في عين إيماني قذًى وأذًى, iiوفي








كَـرِّ  الـدهـور هـداية iiوسلام
لـك , والأبـي على البكاء iiيُلام
وحـريـقه  حبس الدموع iiحرام
وزفـيـره عـنـد الوغى iiإقدام
هـول  يَـغُـولُ هَناءتي iiوحِمام
أولـى  يـدنـسـهـا خنًا iiوأثام
قـلـب  الـسكينة للهموم iiعُرام

**********

 وقد يُفجع الشاعر , ويمزقه الجزع والأسى الأليم إذاما رأى في حاضره تقاعدا وتكاسلا عن تخليص مسرى النبي – صلى الله عليه وسلم – فيفزع بوجدانه إلى الشخصيات الإسلامية التاريخية ذات البطولات والأمجاد والأريحيّة , وخصوصا صلاح الدين الأيوبي محرر القدس من أيدي الصليبيين كما ترى في قول الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود :

قـم يـا صلاح فقد حُمَّ القضاء iiبنا
قم يا صلاح , فذا مسرى النبي غدا
الـخـصم  جمّع أموالا وأعتدة ii..
ونحن  قحطانَ أسْدُ الغاب قد iiجفلت





قم  يا صلاح فلن نبقى على iiالهُون
مـأوى الـذ ئاب وملجا كل iiمأفُون
وجـنـد  الـغيد في ساح iiالميادين
قـلـوبـنـا ونـزلنا حمأة iiالطين

 ويقول الشاعر يوسف العظم :

هـذه  خـفقة قلب في iiالحنايا
خـطـهـا نَسْر جريح iiشامخ
بات في الأقصى يناجي جُرحه
فـمـتـى  يبسم للكون iiغدي





ودمـاء  قد تنزت من جراحي
نـهـشته الطير من كل iiجَناح
يـالـحـطين  تباهي بصلاح
ومـتى يشرق للدنيا iiصباحي؟

**********

 بل إن الشاعر ليستصرخ – في تاريخنا الزاهي – خلفاء وقادة وأمة وجيوشا فيقول :

وفـؤاد الأقصى الجريح iiينادي
أيـن  رايات خالد وصلاح ii..
أيـن  عهد الفاروق غير iiذليل
وجـيـوش  قد أشرعها سيوفا
ونـداء  لـلتائهات حيارى ii..
ورمـاحٌ  في كف خولة iiتزهو







أين  عهد اليرموك والقادسية ii؟
وزحـوف لـطارق.. وأُميّة ii؟
عف قولا , وطاب فعلا ونيّة ؟
وقـلـوب  نـظـيفة ونقية ii؟
أيـن  خنساؤنا , وأين سمية ؟
وسـيوف في راحة المازِنيَّة ii؟

 **********

 وإذا كانت الجنايات التي ارتكبها الصهاينة , والمحن التي نزلت بالقدس والأقصى قد جعلت الشعر العربي ينز دمعا وأسى وحزنا , فإن كثيرين من الشعراء كانت لهم رؤية متفائلة تستشرف فجر النصر , وتؤمن بطلوعه في المستقبل القريب كما نرى في قول عمر بهاء الدين الأميري :

سـتـرى  أعينُ العصور iiانبلاجا
كان دين الإسلام – مذ كان – هديا
وسـتـبـقـى فينا حوافزه iiالمث
سـنـوالـي جـهادنا في iiفلسطي
مـوعـد  مُـبـرم إذامـات عنه






مـن  ديـاجـيـرنـا لنور هدانا
لـلـبـرايا  .. ورحمة .. iiوأمانا
لـى , ويـبـقى في أمرنا iiفرقانا
ن  نـقـيـم الـصلاة في أقصانا
شـيـخـنـا القرم فيه ينمو iiفتانا

**********

 والشاعر علي العبادي يرى أن العدو الصهيوني إن كان قد نجح مؤقتا في احتلال أرض , فإنه قد عجز عن استعباد نفوس درجت على الحرية , وعاهدت ربها على الصبر والثبات . يقول الشا عر :

ولـكنا  برغم iiالقهـ
ولـو من حقدهم iiمنا
ليفعل ذلك iiالطاغوت
فلن  يسطيع أن iiيثني
ولن يسطيع أن يلبس






ر لن نستمرىء iiالذلا
أبـاحـونا  لهم iiقتلا
مـا يـنوي بنا iiفعلا
لـنا  عزما ولا iiقولا
فـي  أعـناقنا iiالغلا

**********

 وتتدفق آمال الشاعر الإحسائي يوسف أبو سعد على رحاب أكثر امتدادا واتساعا فيرنو – لا إلى تحرير القدس فحسب – لكن الأرض السَّليبة كلها , إن لم يكن على أيدينا فعلى أيدي أبنائنا :

ويعود  ما سَلَبَ العدا من أرضنا
نصرمن المولى اللطيف يحوطنا
وغدا لعرس القدس يُسرع iiركبنا
ونـنام ملء جفوننا في iiحضنها





وعـلـى  الدخيل مذلةٌ iiوصَغارُ
وعـلي الرءوس يرفُّ ثمة غار
ويـقـر  من بعد الضياع iiقرارُ
نـومـا  يرينا ما يرى iiالأبرار

**********

 عزيزي القارئ: إن بين اليأس والأمل مساحة نفسية يجب أن نشغلها بالصبر والعزم والإيمان , وإنها لقيم لوأخذنا أنفسنا بها لقادتنا إلى النصر . لنذكر ذلك – يا عزيزي القارئ – بعد أن عشنا هذه الأصوات الشعرية المخلصة في .. ( ديوان العرب ) . وعلى حب وخير وحق نودعك على وعد باللقاء في الحلقة القادمة من ديوان العرب .

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته