أدب الحب والعاطفة واحترام الإنسان والإنسانية
في شعر مولانا جلال الدين الرومي
الشيخ علي أبو الحسن الندوي
الدعوة إلى الحب:
لقد دعا الشيخ مولانا جلال الدين الرومي إلى الحب والعاطفة دعوة سافرة وذكر عجائبه وتصرفاته في بسط وتفصيل فقال:
(إن الحب يحوّل المرّ حلواً، والتراب تبراً، والكدر صفاء، والألم شفاء، والسجن روضة، والسقم نعمة، والقهر رحمة، وهو الذي يلين الحديد ويذيب الحجر، ويبعث الميت، وينفخ فيه الحياة، ويسوّد العبد).
(إن هذا الحب هو الجناح الذي يطير به الإنسان المادي الثقيل في الأجواء ويصل من السمك إلى السمّاك، ومن الثرى إلى الثريا).
إذا سرى هذا الحب في الجبال الراسيات، ترنحت ورقصت طرباً:
(فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً).
ويذكر مولانا جلال الدين أن الحب غني أبي، لا يحتفل بالملك والسلطان، من ذاقه مرة لم يسغ شراباً، يقول: (إن الحب غني عن العالمين إن كان الشغف بالمحبوب ونفي ما سواه جنوناً فهو سيد المجانين.
إنه ملك الملوك تخضع له أسرة الملوك وتيجانهم، ويخدمه الملوك كالعبيد) ويقول: (إن الحب كامن كالنار، ولكن الحيرة بادية، ومتواضع ولكن نفوس الملوك الذين يملكون النفوس له خاشعة).
وإذا ذكر الرومي هذا الفقر الجسور والحب الغيور، أخذته نشوة ونادى بأعلى صوته: (بارك الله لعبيد المادة وعبّاد الجسم في ملكهم وأموالهم، لا تنازعهم في شيء، أما نحن فأسارى دولة الحب التي لا تزول ولا تحول).
(إن جميع المرضى يتمنون البرء من سقمهم، إلا أن مرضى الحب يستزيدون المرض، ويحبون أن يضاعف في ألمهم وحنينهم، لم أر شراباً أحلى من هذا السم، ولم أر صحة أفضل من هذه العلة).
(إنها علة ولكنها علة تخلّص من كل علة، فإذا أصيب بها إنسان لم يصب بمرض قط، إنها صحة الروح، بل روح الصحة، يتمنى أصحاب النعيم أن يشتروها بنعيمهم ورخائهم) وكأن جلال الدين يعارض الشاعر العربي في قوله:
ولي كبد مقروحة من يبيعني=بها كبداً ليست بذات قروح
أباها عليّ الناس، لا يشترونها=ومن يشتري ذا علة بصحيح؟
فلو عرف هذا الرجل الذي كان ينادي على كبده قيمة هذه الكبد المقروحة، لما تنزل إلى بيعها والتخلي عنها، ولو عرف الناس قيمتها لاشتروها بملك الدنيا وعافية الأجسام، فما قيمة كبد لم تقرح؟ إنها مضغة لحم وقطعة حجر!
(إن هذا الحب البريء السامي يصل بالإنسان إلى حيث لا توصله إلا الطاعات والمجاهدات، لم أر طاعة أفضل من هذا "الإثم" عند من يسميه إثماً، إن الأعوام التي تنقضي بغيره لا تساوي ساعة من ساعات الحب).
(إن الدم الذي يسيل في سبيله لا يشك في طهارته، إن شهيد الحب لا يحتاج إلى الغسل، "إن دماء الشهداء أفضل من الماء الطهور، يالها من خطيئة إن كانت خطيئة"! يقول: إن المحبين الذين بذلوا مهجهم وأحرقوا قلوبهم لا تنفذ عليهم القوانين العامة، ولا يخضعون للنظم السائدة).
ويضرب الرومي لذلك مثلاً بليغاً، فيقول: (إن القرية التي خربت لا تفرض عليها الجبايات والضرائب).
ويقارن بين الحب البريء والعقل الشاطر فيقول: (إن الحب تراث أبينا آدم، أما الدهاء فهو بضاعة الشيطان، إن الداهية الحكيم يعتمد على نفسه وعقله، أما الحب فتفويض وتسليم، إن العقل سباحة قد يصل بها الإنسان إلى الشاطئ، وقد يغرق، وإن الحب سفينة نوح لا خوف على ركابها من الغرق).
هذا، وبحر الحياة هائج ليست السباحة فيه بالخطب اليسير، فخير للإنسان أن يأوي إلى سفينة مأمونة من الغرق، وهي سفينة الإيمان والحب، يقول: (لقد رأينا كثيراً ممن يحسنون السباحة قد غرقوا في هذا البحر اللجي ولكنا ما رأينا سفينة الإيمان والحب تغرق).
(ثم إنه يفضل حيرة المحبين على حكمة الحكماء الباحثين، ويحث على الحرص عليها والتنافس فيها، لأن الحكمة ظن وقياس، والحيرة مشاهدة وعرفان).
إنه يقول: (ليس لكل أحد أن يكون محبوباً، لأن المحبوب يحتاج إلى صفات وفضائل، لا يرزقها كل إنسان، ولكن لكل أحد أن يأخذ نصيبه في الحب وينعم به، فإذا فاتك أيها القارئ العزيز أن تكون محبوباً، فلا يفتك يا عزيزي أن تكون محباً، إن لم يكن من حظك أن تكون يوسف، فمن يمنعك من أن تكون يعقوب؟ وما الذي يحول بينك وبين أن تكون صادق الحب دائم الحنين؟).
ويزيد الشيخ على ذلك: (إن لذة المحب لا تعدلها صولة المحبوب، فلو عرف المحبوبون ما ينعم به العشاق المتيمون، والمحبون المخلصون، لتمنوا مكانهم، وخرجوا من صف المحبوبين السعداء إلى صف المحبين البؤساء).
إلى من يوجه هذا الحب؟
ولكن إلى من يوجه هذا الحب الذي هو نور الحياة وقيمة الإنسان؟ (إن الحب خالد لا يجدر إلا بالخالد، إنه لا يجمل بمن كتب له الفناء والأفول، إنه حق الحي الذي لا يموت، الذي يفيض الحياة على كل موجود) ويستدل الرومي على ذلك بقصة سيدنا إبراهيم ويتمثل بقوله: "لا أحب الآفلين".
(إن هذا الحب يجري من صاحبه مجرى الدم، إن وضع في محله وصادف أهله، فإنه شمس لا ينتابها الأفول، وزهرة ناضرة لا يعتريها الذبول، عليك بهذا الحب السرمدي الذي يبقى، ويفنى كل شيء، الذي يدور عليك بكؤوسه التي تروي ظمأك! عليك بهذا الحب الذي ساد به الأنبياء وحكموا!).
لا داعي إلى اليأس:
ولكن ليس للمحب الطموح أن يشكو قصوره ويحتقر نفسه، متعللاً بسمو المحبوب وعلو مكانته وغناه عن العالمين، فما للتراب ورب الأرباب؟.
إن المحبوب الحقيقي هو الذي يحب أن يحب، ويجذب إليه من انجذب. (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب). يقول مشجعاً: (لا تقل لا سبيل إلى ذلك الملك الجليل، فأنا عبد ذليل، لأن الملك كريم، يدعو عبده، ويسهل له السبيل).
ويعود فيتغنى بهذا الحب ويقرظه في سرور ونشوة، ويقول (إنه فيما يبدو للناظر علة علاجها عسير، وصاحبها في تعب وعذاب، ولكنه إذا احتملها وثابر عليها، وصل إلى المعرفة الحقيقية الأبدية).
(إن الحب منشؤه انكسار القلب، وجرح الفؤاد، إنه علة لا تشبهها علة، إن علة المحب تختلف عن كل علة، إن الحب اصطرلاب الأسرار الإلهية).
ثم يذكر أن هذه العلة، وإن كانت في ذات نفسها علة، ولكنها شفاء للأسقام النفسانية والأمراض الخلقية، إن الأمراض التي أعيت الأطباء، وتعذر منها الشفاء وقطع منها المصلحون الرجاء، تبرأ وتزول بلفتة من هذا الحب، فإذا برئ منها السقيم الذي يئس من صحته، هتف في سرور وطرب (حياك الله أيها الحب المضني! يا طبيب علتي وسقمي! يا دواء نخوتي وكِبري! يا طبيبي النطاسي! يا مداوي الآسي!).
هذا، لأن الحب شعلة إذا التهبت أحرقت كل ما سواه، فلا كبر، ولا خيلاء، ولا جبن ولا خوف، ولا حزن ولا حسد ولا بخل، ولا عيب من العيوب النفسية، إن موجة الحب تجرف الحشيش، وتسري في النفس سريان النار في الهشيم (إن الحب شعلة تحرق كل ما سوى المحبوب) إن التوحيد سيف إذا سله صاحبه قطع كل ما عدا الله، فحياك الله وبيّاك أيها الحب الذي لا يحتمل الشرك!.
ويمسك مولانا بعد هذا النفس الطويل في مدح الحب ووصفه، ويقول: (إن حكاية الحب لا تنتهي، وتفنى الدنيا ولا تنقضي عجائبه، لأن الدنيا لها نهاية وغاية، والحب وصف من لا يفنى ولا يموت).
عالم القلب:
ولكن لا سبيل إلى هذا الحب إلا بالقلب الحي الفائض بالحياة والحرارة، وقد طغت الناحية العقلية في عصره كما قدمنا، وتخطت حدودها، وتضخمت على حساب القلب والعاطفة، فمهما استنارت العقول فقد بردت القلوب، وفقدت حياتها وحرارتها، وأصبحت المعدة قطباً تدور حوله رحى الحياة، وقد أثار الرومي حديث القلب وماله من مكانة وكرامة في حياة الإنسان وما تحويه من عجائب وكنوز، وذكر أن الإنسان يحمل في جسده روضة، أكلها دائم وربيعها قائم، وأنه يحمل في نفسه الصغيرة عالماً أوسع من هذا العالم المادي، لا يخاف عليه من عدو، ولا يطرقه لص.
(إن القلب بلد عامر مأمون، وحصن محكم مصون، وروضة مباركة لا ينفد نعيمها، ولا ينضب معينها، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).
وذكر أن حدائق العالم لا تطول حياتها، ولا تأمن الآفات والعاهات، ولكن نخلة القلب دائمة النضارة والثمار (إن الحدائق تبطئ في النماء وتسرع في الفناء) أما القلب فسريع النمو، بطيء الزوال: (إن روضة الجسم لا تلبث أن تصبح صريماً هشيماً، فينادي صاحبها واحسرتاه! أما روضة القلب، فلا تزال مخضرة مثمرة، فينادي صاحبها: وافرحتاه!).
فالذي يحاول أن يحافظ على صحته وشبابه، ويبقى شاباً قوياً، لا تتحقق أمنيته، والذي يعتني بقلبه ويحسن تربيته يبقى شاب الروح، نشيط الجسم، قرير العين، ناعم البال، جذلان مسروراً (عليك بالقلب حتى تدوم شاباً، تتجلى في وجهك الأنوار فيشرق).
(عليك بالقلب حتى تبقى زاخر الحيوية والنضارة مثل الصهباء، متهللاً كزهرة ناضرة ووردة باسمة).
ولكن لا تغرنك كلمة (القلب) فليس هذه القطعة التي تخفق في صدرك، وتتجمع فيها الشهوات والمطامع، ليس القلب هو الذي لا يذوق طعم الحب، ولا يعرف معنى اليقين، ولا يملك شيئاً من الشوق، والذي لا تتفتح زهرته ولا يشرق ليله، فليس هو القلب، إنما هو قطعة من حجر أو خشب.
(إنه ضيق مظلم مثل قلب اليهود، لا نصيب له من حب الملك الودود، إنه لا يشرق ولا ينير، ولا ينشرح ولا يتسع).
إنه ليس بين هذا القلب الميت وبين القلوب الحية إلا الاشتراك في اللفظ، والشبه في الجسم، كما أن الماء الذي يجري في العيون الصافية والأنهار الجارية يسمى ماء، والذي يختلط بالطين والوحل ويرى في المستنقعات يسمى ماء كذلك، ولكن الأول يروي الظمأ وينقي الثوب، والثاني نغسل منه اليد، هذا هو الفرق بين القلب والقلب، إن قلوب الأنبياء والأولياء لتعلو على السماء، أما قلوب أشباه بني آدم فهي قلوب أشباه القلوب، وليست بقلوب، فإذا قلت: (قلبي) فانظر ماذا تقول!.
تقول: (قلبي! قلبي! فهل تعرف أن القلب من أمانات السماء! إن الحمأ لاشك يحمل ماء، ولكنك لا ترضى أن تغسل به يدك، لأنه إذا كان ماء فهو ماء يغلب عليه الطين والوحل، فلا تُسم ما يخفق في صدرك: القلب، إن القلب الذي هو أعلى من السماوات العلى، هو قلب الأنبياء والأصفياء).
ولكنه يسلّي قارئه ولا يريد أن يكسر قلبه ويثبط همته، فيقول: (إن سلعتك التي لا يرغب فيها مشتر، قد اشتراها الكريم تكرماً وتفضلاً، إنه لا يرفض قلباً من القلوب، لأنه لا يقصد به الربح).
ثم ينصح قارئه بالانطلاق من هذا القفص الذهبي الذي يسمى (المعدة) والطيران في أجواء القلب الفسيحة، والاطلاع على عجائب خلق الله، والتنعم بلذة الروح، يقول: (إن المعدة وعبادة المادة هما الحجاب الصفيق بينك وبين ربك، فإذا رفعت هذا الستر لم يكن بينك وبين ربك حجاب، تخط حدود المعدة، وتقدم إلى قلبك، تأتك تحيات الرحمن من غير حجاب).
كرامة الإنسان وشرفه:
لقد تواضعت الحكومات الشخصية المستبدة، والفلسفات الخاطئة، والأديان المحرفة، على الاستهانة بقيمة الإنسان والحط من قدره وشرفه، وقد نشأ – بتأثير الحروب الطاحنة التي كانت لا تكاد تنقطع، وفساد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية – مقت شديد في الناس للحياة، وتبرم من امتدادها واستمرارها، وقنوط من المستقبل وشعور عميق بالمهانة أو ما يسمى اليوم "بمركب النقص" وأصبح الإنسان حقيراً في عينه.
وجاء بعض المتصوفين العجم، فدعوا دعوة متحمسة إلى الفناء الذي تمثله الجملة المأثورة في الأدب الصوفي "موتوا من قبل أن تموتوا" وغلوا في إنكار الذات حتى أصبح الاعتداد بالنفس وحب الذات الذي يتوقف عليه الكفاح والحركة والنشاط، جريمة خلقية، وحجر عثرة في سبيل الكمال الروحي، وقد أسرف الدعاة والمؤلفون في الحث على اكتساب الصفات الملكية، والانسلاخ من اللوازم البشرية، حتى أصبح الإنسان يستنكف من إنسانيته، وأصبح يعتقد أن رقيه في الثورة على الإنسانية، لا في الاحتفاظ بإنسانيته، وأنه كلما كان أبعد من الإنسانية وأشبه بالملائكة كان أقرب إلى السعادة والكمال.
ونشأ – بتأثير هذه الأفكار والفلسفات، وانحلال المجتمع وجور الحكومات- أدب متشائم، وشعر متشائم، ينظر إلى العالم وإلى الحياة بالمنظار الأسود، يدعو إلى الفرار من الحياة والتشاؤم من الناس، والنقمة على الآباء في جنايتهم على ذريتهم كما فعل "أبو العلاء المعري" في عصره، وكانت نتيجة هذه العوامل القوية الطبيعية أن فقد الناس عامة الثقة بنفوسهم، والأمل في مستقبلهم، والرغبة في حياتهم، وأصبح الإنسان في هذا المجتمع المتبرم الضجر كاسف البال، منكسر الخاطر، ضعيف الإرادة، محطم الأعصاب، قد يحسد الحيوانات في حريتها، والجمادات في سلامتها وهدوئها، لا يعرف لنفسه قيمة، ولا لإنسانيته شرفاً، ولا يعرف ذلك الجو الفسيح الذي هيأه الله لطيرانه وتحليقه، ولا يعرف تلك الكنوز البديعة، والقوى الجبارة، والمواهب العظيمة التي أودعها الله في باطنه، ولا يعرف أنه قد خلق ليكون (خليفة رب العالمين في هذا العالم الفسيح) و(وصياً عليه) وأن الله أخضع له هذا الكون، وما كان سجود الملائكة لأول بشر إلا إشارة لهذا الخضوع، فإنهم هم الذين يتصرفون في هذا الكون بأمر الله، ويبلغون رسالاته، فإذا خضعوا فقد خضع له الكون بالأولى.
في هذا المجتمع الثائر على الإنسانية الذي كفر بالإنسان وقيمته ومركزه في هذا العالم، قام مولانا جلال الدين الرومي يمثل الفكرة الإسلامية الصحيحة في شعره الرنان، ويثير كرامة الإنسان المطمورة في أنقاض الأدب المتشائم، والشعر المتراجع المنهزم، وبدأ يتغنى بكرامة الإنسان وفضل الإنسانية في حماسة وإيمان وبلاغة، حتى دبّ في المجتمع دبيب الحياة، وأصبح الإنسان يعرف شرفه وكرامته، وترنح بهذا الرجز والحداء القوي (الأدب الإسلامي) كله، وردده الشعراء، وضربوا على وتره، وانطلقت في عالم التصوف موجة جديدة تستحق أن تسمى (الاعتزاز بالإنسانية).
يقول: (إن الله قد خص الإنسان بأحسن تقويم، فقد قال: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ وإن هذا اللباس الفضفاض قد فصل على قامة الإنسان، فلا يطابق كائناً آخر). ويحث قارئه على دراسة سورة (التين) والتدبر في معانيها، وأن يحسب لكلمة (أحسن تقويم) حساباً خاصاً، فإنها ميزة للإنسان لا يشاركه فيها غيره.
ثم يزيد على ذلك، ويرجع إلى سورة (الإسراء) ويذكّر بقوله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ ويقول للقارئ: (هل وجه هذا الخطاب الكريم وهذا الأسلوب من التكريم إلى السماوات والأرض أو الجبال؟ إنه لم يوجه إلا إلى هذا الإنسان الذي يستهين بقيمته، ويجهل مكانته، إن الله قد توجك –أيها الغافل- بتاج الكرامة، وخصّك بقوله (ولقد كرمنا) وحلّى جيدك بالمنحة الخالصة، فقال: (أعطيناك) كلمة لم يقلها لأحد).
إنه يقول: (إن الإنسان خلاصة هذا الكون، ومجموع أوصاف العالم) يتمثل في هذا الجسم الصغير ما شئت في العالم من خيرات وكنوز، وبدائع وعجائب، إنه ذرة حقيرة انعكست فيها الشمس، فإذا طلعت لم يبد كوكب، إنه قطرة صغيرة انصب فيها بحر العلم، وثلاثة أذرع من الجسم انطوى فيها العالم، يقول: (إن الإنسان غاية هذا الخلق، لأجله خلق العالم، وهو القطب الذي يدور حوله رحى الكون تجسده الكائنات، وقد فرض الله طاعته على جميع الموجودات، إن كل ما في هذا العالم من جمال وكمال إنما خلق لأجلك ويطوف حولك، أنت الذي يحسده المقربون لست في حاجة إلى جمال مستعار، فأنت جمال الدنيا، وواسطة العقد، وبيت القصيد، الإنسان جوهر، والفلك عرض، كل ما عداك فرع وظل، أنت الغرض، إن خدمتك مفروضة على جميع الكائنات، إنه عار على الجوهر أن يخضع لعرض).
ولا يقتصر الرد على ذلك، بل يقول: (إن الإنسان مظهر لصفات الله، وهو المرآة الصادقة التي تجلّت فيها آياته) ويقول: (إن الذي يتراءى في الإنسان – من الكمالات والمحاسن - عكس لصفات الله، كعكس القمر المنير في الغدير الصافي، إن الخلق كالماء النمير تتجلى فيه صفات الله، وينعكس فيه علمه وعدله ولطفه، كما ينعكس ضوء الكوكب الدري في الماء الجاري).
ولكنه يشعر بقصوره وعجزه في وصف الإنسان وضخامة المهمة ودقتها، ويعلن بصراحة وشجاعة: (إذا صرحت بقيمة هذا الممتنع(1) احترقت واحترق المستمع).
ثم يتساءل: هل يجرؤ أحد أن يساوم هذا الإنسان الغالي ويمني نفسه بشرائه؟ هل يجوز لهذا الإنسان أن يبيع نفسه – مهما تضخم ثمنها-.
ثم يندفع مخاطباً الإنسان، ويقول في تلهف وتوجع، وفي شيء من العتاب والأنفة: (يا مَن مِن عبيده العقل والحكمة والمقدرة، كيف تبيع نفسك رخيصة؟).
ثم يقول: لا محل للمساومة، فقد تمت الصفقة، وتحقق البيع: (إن الله اشترانا وخلصنا من المساومات والمقاولات إلى آخر الأبد، فالشيء لا يباع مرتين).
ثم يحث الإنسان على أن يعرف قيمته، ولا يرضى إلا بأكرم المشترين ويقول: (ابحث لك -إن كنت باحثاً- عن مشتر يطلبك ويبحث عنك، والذي منه بدايتك وإليه نهايتك).
ويلاحظ الشاعر أن من بني آدم مَنْ لا يستحق هذا الوصف (أشباه الرجال ولا رجال) الذين هم فريسة نفوسهم، وقتلى شهواتهم، لا يعرفون من الإنسانية إلا ما يفوق فيه الحيوان، من الشبع والري والشبق.
ويقول بكل صراحة: (إن هؤلاء ليسوا رجالاً، إنما هم صور الرجال، هؤلاء الذين يحكم عليهم الخبز، وقتلت الشهوات فيهم الإنسانية).
وقد ندر وجود الإنسان الحقيقي في عصره، كما ندر في عصر غيره، حتى أصبح في حكم عنقاء المغرب، والكبريت الأحمر، وحتى اضطر الباحثون أن يبحثوا عنه بمصباح ديوجانس، وقد حكى الرومي حكاية لطيفة في هذا الموضوع في ديوان شعره فقال:
(رأيت البارحة شيخاً يدور حول المدينة وقد حمل مشعلاً، كأنه يبحث عن شيء، فقلت: يا سيد! تبحث عن ماذا؟ قال: قد مللت معاشرة السباع والدواب وضقت بها ذرعاً، وخرجت أبحث عن إنسان عملاق وأسد مغوار، لقد ضاق صدري من هؤلاء الكسالى والأقزام الذين أجدهم حولي، فقلت: إن الذي تبحث عنه ليس يسير المنال، وقد بحثت عنه طويلاً فلم أجده، فقال: إنني مغرم بالبحث عمن لا يوجد بسهولة، ولا يعثر عليه في الطرقات(2)).
(1) يعني به الإنسان.
(2) من "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" الجزء الأول للكاتب.