ملامح اللسانيات النصية في دراسات علوم القرآن

ملامح اللسانيات النصية في دراسات علوم القرآن

كتاب "البرهان في علوم القرآن" للزركشي أنموذجا

عمران رشيد

[email protected]

كلية الآداب/قسم الترجمة

جامعة بشار /الجزائر

التماسك النصي عند الزركشي:

إن المتأمل لدراسة التماسك بين الآيات والسور في كتاب "البرهان في علوم القرآن" للزركشي؛يَتَبيّن رؤية متكاملة،واضحة المعالم والحدود تحكم تحليل الزركشي للنص القرآني؛استطاع من خلالها أن يتجاوز ذلك الإطار الضيق الذي لم يَتعدَّ تحليل الجملة أو مجموعة الجمل الذي فرضته القواعد المعيارية التعليمية على مستوى النحو أو البلاغة.. وبذلك أصبح التماسك النصي في حدّ ذاته وجها جديدا للإعجاز في نص ظل مفتوحا لأكثر من ثلاث وعشرين سنة.

وقد خصص بابا مستقلا في كتابه "البرهان في علوم القرآن" تحدّث فيه عن التماسك بين الآيات والسور والآليات التي تحكم ذلك التماسك،كما نلاحظ في مختلف أبواب الكتاب إشارات إلى التماسك في القرآن.

وقبل أن نتناول الآليات التي قدمها الزركشي التي يرى أن النص يتماسك،نُورِد نصا في فصل بعنوان "في قدر المعجز من القرآن"؛هذه الفكرة التي اقتبسها بنصها من عند الباقلاني مِن أوائل مَن تبهوا إلى ضرورة التحليل النصي الشامل حيث قام بدراسة قصيدتين كاملتين و سورة كاملة؛والفكرة ترى أنّ الإعجاز يتحقق في قدر أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر،فإذا كانت الآية بقدر سورة الكوثر فالإعجاز متحقق فيها( )؛يؤشر هذا النص إلى حقيقتين:

أما أولهما: أن هناك وحدة أكبر من الجملة

وأما ثانيهما: يؤكد النص ارتباط تنظير الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" بالتطبيقات النصية للآيات والسور في "البرهان".

يبين الزركشي في بداية بحثه للتماسك بين الآيات؛أنه لا يُعنى بدراسة الآيات التي يظهر وجه التماسك بينها جليا؛لتعلق الكلام بعضه ببعض،أو إتمام الكلام السابق على جهة التأكيد أو التفسير أو الاعتراض( )؛إنما يعينيه هو دراسة الآيات التي لا يظهر فيها وجه التماسك مع أختها حيث تبدو أن كل آية مستقلة بنفسها.

يقسم الزركشي التماسك إلى تماسك بين السور وآخر بين الآيات، والتماسك بين الآيات يقسمه إلى تماسك بين آيات معطوفة،وإلى تماسك بين آيات لا يوجد فيها حرف العطف حيث تتجاور الآيات دون أي رابط.

أولا:التماسك بين الآيات في السورة:

أ‌-      التماسك بين الآيات المعطوفة:

يقرر الزركشي أن فائدة العطف؛أن يجعل الآيتين المعطوفتين كالنظرين والشركين؛يوضح ذلك بقوله تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأَرْضِ ومَا يَخْرُجُ مِنْها وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فيهَا [الحديد:04]،و قوله تعالى: واللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]،فيلج ويخرج،وينزل ويعرج،ويقبض ويبسط؛كلها نظائر..وبعد هذا الاستهلال النحوي يستنبط الزركشي قانونا يطرد في أغلب آيات القرآن و يشكل أساسا في تعليل تجاور الآيات؛وهو أن ذكر الأحكام في القرآن يأتي بعد وعد ووعيد " ليكون ذلك باعثا على العمل بما سبق،ثم يذكر آيات التوحيد والتنزيه؛ليُعلَم عظم الآمر و الناهي وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها تجده كذلك "( )،و بعد هذا ينتقل الزركشي إلى الموضوع ليقدم نماذج من الآيات تشكل صورا عامة تطرد في القرآن كله يتم على ضوئها إدراك وجه التماسك بين الآيات؛فهي آيات يلتحق بها ما هو في معناها.ونجمل علاقات التماسك بين الآيات عند الزركشي كالآتي:

عـلاقة مقامية:

من هذه الآيات قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَن الأَهلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتٌ للنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيوتَ مِن ظُهُورِهَا [البقرة:189]، إن السؤال الذي يتبادر عند تلاوة هذه الآيةِ ؛ما وجه تماسك السؤال عن الأهلَّة بإتيان البيوت من ظهورها ؟؟ إن المقام هنا يفسر وجه التماسك في الآيتين؛وذلك عند سؤالهم عن الأهلة ونقصانها كأن الله عز يقول لهم:إن كل ما أمرتكم به فيه حكمة ظاهرة و مصلحة للعباد فاتركوا السؤال عنه،وانظروا ما أنتم عليه من إتيان البيوت من ظهورها وليس ذلك في البر شيء.( )

عــلاقة استطرادية:

في الحديث: أن ناسا من الأنصار كانوا إذا أحرموا لا يدخل أحدهم حائطا أو دارا أو فسطاطا من باب؛ فإن كان من أهل المدر نَقَبَ نقبا في ظهر بيته؛منه يدخل ومنه يخرج،أو يتخذ سلما يصعد به،و إن كان من أهل الوبر خرج من خلف القباء؛فوجه التماسك إذا من جهة الاستطراد؛إذ عندما ذكروا مواقيت الحجّ ؛وكانت تلك تصرفاتهم في الحج استطرد سبحانه إلى تلك التصرفات وأنها ليست من البر في شيء.( )

وكأن قوله تعالى: وَلَيسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيوتَ مِن ظُهُورِهَا ؛ من قبيل التمثيل لما هم عليه؛من تعكيسهم في سؤالهم؛و أن مثلهم كمثل من يترك بابا      و يدخل من ظهر البيت؛فقيل لهم:ليس البر ما أنتم عليه من تعكيس الأسئلة و لكن البرَّ من اتَّقى؛أي باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها و لا تعكسوا،و المراد النهائي أن يصمم القلب أن جميع ما أمر الله تعالى به فيه حكمت و إن اختفت.( )

   عــلاقة تمثيل:

ومن علاقة التمثيل قوله تعالى: سُبْحَانَ الذي أَسرَى بِعَبْدِهِ ليلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى الأَقْصَى .. وَآتَيْنا مُوسَى الكِتَابَ [الإسراء:1-2]،ما وجه تماسك حادث الإسراء بآتينا موسى الكتاب ؟؟ يرى الزركشي أن معنى الآية يدرك بتقدير كلام؛ " أطلعناه على الغيب عيانا،وأخبرناه بوقائع من سلف بيانا،لتقوم أخباره على معجزته برهانا،أي سبحان الذي أطلعك على بعض آياته لتقصها ذكرا،وأخبرك بما جرى لموسى وقومه في الكرتين"( )؛ويبدو أن الذي قاد الزركشي إلى مثل هذا التأويل؛أن إتيان موسى الكتاب معجزة و حادث الإسراء معجزة،كما أن حادة الإسراء فضل من الله تعالى بعد انقطاع الوحي فترة من الزمن و أُسْرِيَ بموسى حين خرج خائفا يترقب.( )

عــلاقة حُسْنُ تخلص:

قال تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج:01]؛فإنه سبحانه ذكر عذاب الكفار وصفته وأنه لا دافع له من الله إلا الله،ثم تخلص إلى قوله تعالى: تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليهِ فِي يوم كَانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:04]؛بوصف الله بـ ذِي المَعَارِجِ ؛يرى الزركشي أن حسن التخلص موجود في القرآن الكريم كما في الشعر الجيد،يقول: " و بهذا يظهر لك اشتمال القرآن العظيم على النوع المسمى بالتخلص "( )

إن حسن التخلص صفة موجودة في كل كلام رفيع سواء أكان شعرا أو نثرا،به يتفاوت الشعراء و البلغاء،يقول الجاحظ: " أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء،سهل المخارج؛فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا واحدا وسُبِك سبكا واحدا،فهو يجري على اللسان كما يجري على الدهان "( )؛يدرج ابن رشيق هذا القول في باب النظم؛فصل:"أجود الشعر"؛ما يدل على أن حسن التخلص سمة أصيلة من سمات الكلام الجيد.

ومن حسن التخلص قوله تعالى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُم إِذْ تَدْعُونَ أو يَنفَعُونَكُم أَوْ يَضُرُّونَ قَالُــوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُم تَعْبُدُونَ أنتُم وَآبَاؤُكُم الأَوَّلِينَ فَإِنَّهُم عَدُوٌّ لي إلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ الذي خَلَقَني فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:72-78]، إن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن ينتقل من صفات وأحوال أصنامهم إلى صفاته قال : فَإنَّهُم عَدُوٌّ لي إلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ وشرع في بيان صفاته العليا.( )

ومن حسن التخلص أيضا قوله تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ أَم شَجَرَةُ الزَّقُومِ [الصافات:62]

يقف الزركشي مع هذه الآية وقفة أعلن انبهاره أمام الانتقال العجيب من موضوع إلى آخر يقول: " وهذا من بديع التخلص؛فإنه سبحانه خلص من وصف المخلصين وما أعد لهم إلى وصف الظالمين وما أعد لهم"( )؛و في صدد شرح علاقة حسن التخلص يذكر قاعدة عامة تحكم تلك العلاقة،يقول: "واعلم أنه حيث قصد التخلص فلا بد من التوطئة له؛ومن بديعه قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحْسَنَ القَصَصِ [يوسف:03]،يشير إلى قصة يوسف عليه السلام،فــوطَّأ بهذه الجملة إلى ذكر القصة؛يشير إليها بهذه النكتة من باب الوحي والرمز،وكقوله سبحانه موطأً للتخـلص إلـى ذكـر مبتدأ خلق المسـيح عليه السلام:  إِنَّ اللهَ اصْــطَفَى آدَمَ و نُـوحاً..   [آل عمران:33]"( )

عــلاقة سياقية:

في بعض الآيات يقوم السياق بإسناد قوي في الوصول لدلالة الآيات؛من ذلك قول الله عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أن يُّذْكَرَ فِيها اسمُهُ وَسَعَى في خَـرَابِهَا وللهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ [البقرة:14-15]، تطرح قراءة الآيتين السؤال التالي:ما وجه تماسك منع مساجد الله وتخريبها؟؟بقوله تعالى: وللهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ،اعتمد الزركشي هنا على السياق في تفسير وجه الارتباط بين الآيتين؛فقد كان تخريب بيت المقدس قد سبق؛أي فلا يجرمنكم ذلك واستقبلوها فإن لله المشرق والمغرب.( )

ومن الآيات كذلك التي يُعتَمَد على السياق في الوصول إلى دلالتها قوله تعالى: أَفَلاَ يَنظُرُونَ إلى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَت وَإلى السَّمَاءِ كَيفَ رُفِعَت وإلى الجِبَالِ كيفَ نُصِبَت و إلى الأَرْضِ كَيفَ سُطِحَت[الغاشية:17-20]،يعلق الزركشي على تراتب هذه الآيات: " أنه جمع بينها على مجرى الإلف والعادة بالنسبة إلى أهل الوبر؛فإن كل انتفاعهم في معايشهم من الإبل؛فتكون غايتهم مصروفةً إليها،ولا يحصل إلا أن ترعى وتشرب؛وذلك بنزول المطر؛وهو سبب تقلُّب وجوههم في السماء،ثم لا بد لهم من مأوى يؤييهم،وحصن يتحصنون به،ولا شيء في ذلك كالجبال ثم لا غنى لهم ـ لتعذر طول مكثهم في منزل ـ عن التنقل من أرض إلى سواها؛فإذا نظر البدوي في خياله وجد صورة هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور "( )

العطف:عــلاقة تقدير تشاكل نحوي:

يتناول الزركشي هنا بعض الآيات المعطوفة والتي لا يجمعها رابط نحوي؛ومن شروط العطف كما هو معلوم التشاكل؛كعطف الجملة الفعلية على جملة فعلية أخرى…

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إلى الذي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ .. وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمِ الظَّالِمِينَ أَوْ كَالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ .. [البقرة:258-259]،فما وجه عطف أَلَمْ تَرَ إلى الذي .. ؛الجملة الفعلية؛على الجار والمجرور أَوْ كَالذي .. ؟؟ وليُثبت الزركشي تماسكا بين الآيتين يلجأ إلى تقدير كـلام محذوف يستقيم مع القاعدة النحوية في العطف؛فيــرى أن أَلَمْ تَرَ إلى الذي .. بمنزلة:هل رأيت الذي حاج إبراهيم في؟ يقول: " وإنما كانت بمنزلتها ـ هل رأيت ـ لأن  أَلَمْ تَرَ .. مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ولذلك يجاب ببلى،والاستفهام يعطي النفي،إذ حقيقة المُسْتَفْهَم عنه غير ثابتة عند المستفهم،ومن ثَمَّ جاء الاستفهام مكان حرف النفي،ونفي النفي إيجاب،فصار بمثابة (رأيت) غير أنه مقصود به الاستفهام،ولم يمكن أن يؤتى بحرفه لوجوده في اللفظ، فلذلك أعطى معنى:هل رأيت؟ فإن قلت:مِن أين جاءت (إلى) ورأيت يتعدى بنفسه؟ أجيب لتمنه معنى (تنظر) "( )   

التماسك بين الآيات غير المعطوفة:

يتناول الزركشي أيضا بعض الآيات التي لا يوجد فيها عطف؛يبحث في أسرار التماسك بين الآيات التي يوحي ظاهرها بعدم وجود أي ارتباط؛محاولا أن يقدم تفسيرا يعلل تجاور تلك الآيات؛و يمكن أن نستخلص قراءة الزركشي لتلك الآيات في العلاقات الآتية:

عــلاقة تنظير:

يرى الزركشي أن إلحاق النظير بالنظير علاقة منطقية؛فمن دأب العقلاء إلحاق النظير بالنظير.. يدرج الزركشي ضمن هذه العلاقة التماسك الموجود في قوله تعالى: أُولَئِكَ هُم المُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُم دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِم ومَغْفِرَةٌ ورِزقُ كَرِيمٌ كَــمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ وإنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُـونَ[الأنفال:5-6]؛إن الإشكال الذي تطرحه الآيتان؛هو ما وجه التماسك بين أُولَئِكَ هُم المُؤْمِنُونَ حَقّاً و بين كَــمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ؟؟ يعلل الزركشي التماسك في الآيتين بعلاقة التنظير؛ذلك أن الله عز وجل أمر رسوله(صلى الله عليه و سلم) أن يمضيَ في تقسيم الغنائم على كره من أصحابه؛كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العدو و هم كارهون؛ذلك أن الصحابة اختلفوا في القتال يوم بدر في الأنفال؛وجادلوا الرسول(صلى الله عليه وسلم)؛فكره كثير من الصحابة أمر تقسيم الغنائم فأنزل الله هذه الآيات؛التي وصفت المؤمنين حــقا وأمرتهم بالطاعة والتقوى ،وعدم الاعتراض على قسمة الرسول(صلى الله عليه وسلم) في أمر الغنائم؛ثم قال تعالى: كَــمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ وإنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُـونَ ؛أي أن كراهتهم لقسمة الغنائم ككراهتهم للخروج حين دُعُــوا لطلب العدو.( ) 

عــلاقة تقدير كلام محذوف:

ومن الآيات التـي تفهم بعد تقدير كلام محذوف قوله تعالى: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النذير المُبينُ كَمَا أنزَلْنَا علىالمُقْتَسِمِينَ [الحجر:89-90] ؛كأنه قال:قل أنا النذير المبين؛عقوبة أو عذابا؛مثلما أنزلنا على المقتسمين.( )

عــلاقة سياقية:

من الآيات التي يقوم السياق بدور كبير في تفسيرها وفهم مقاصدها،قوله تعالى: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِــسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ[القيامة:16]،وقد توسطت بين قوله تعالى: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[القيامة:14-15]،وقوله تعالى: كَــلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِـرَةَ [القيامة:20-21]؛إنّ ظاهر الآيات يوحي بانفصالها؛فما وجه وجـود لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِــسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ بين كل تلك الآيات ؟؟؟ لكنَّ الزركشي يتوصل إلى التماسك الموجود بين الآيات باعتماده سياق الآية؛يقول: " فهذا من باب قولك للرجل وأنت تحدثه بحديث؛فينتقل عنك ويقبل إلى شيء آخر:أقبل عليَّ و اسمع ما أقول،وافهم عـنِّي الكلام الأول؛قـاطـعا له،وغنما يكون به مشوقا للكلام،وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)أميا لا يقرأ ولا يكتب؛وكان إذا نزل عليه الوحي وسمع القرآن حرَّك لسانه بذكر الله،فقيل له؛تَـدَبَّـرْ ما يوحى إليك و لا تتلقفه بلسانك،فإنَّما نجمعه لك و نحفظهعليك "( )

عــلاقة تضاد:

من الآيات التي يُفهَم وجه التماسك بينها بهذه العلاقة أوائل سورة البقرة؛فيها حديث عن القرآن الكريم،و أنه هدى للمتقين،وأن من صفات المؤمنين؛الإيمان بالغيب،وإقامة الصلاة،وإنفاق المال في سبيل الله..فلما فرغ عز وجل من صفات المؤمنين،قال: إنَّ الذينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيهِم [البقرة:06]،يقول الزركشي: " فبينهما جامع وهمي؛بالتضاد من هذا الوجه،و حكمته التشويق و الثبوت على الأول كما قيل:و بضدها تتبين الأشـياء"( )

عـــلاقة استطرادية:

من الآيات التي يُدرَك التماسك بينها بواسطة هذه العلاقة،قوله تعالى:يَا بَني آدَمَ قَد أَنزَلْنَا عَلَيكُم لِبَاساً يُوارِي سَوْآتِكُم وَرِيشاً وَلِبَاسَ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِن آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:06]؛لقد وردت هذه الآية عقب كشف السوءات وخصف الورق؛وذلك إظهارا لفضل الله ومنته على عباده فيما خلق من اللباس؛و لِمَا في العُري من المهانة؛وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى.( )

و يقتبس الزركشي من "إعجاز القرآن" للباقلاني العلاقة الاستطرادية في تفسير التماسك في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوا إلى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلَهُ عَن اليَمِينِ والشَّمائِلِ سُجَّدا للهِ وهُم دَاخِرُونَ وللهِ يَسْجُدُ ما في السَّمَاواتِ وما في الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ والملاَئِكَةُ وهُم لاَ يَسْتَكْبِرُونَ[النحل:48-49]؛فبداية الكلام في الآيتين عن أمر خاص وهو قدرة الله في خلقه؛ثم أجرى الحديث إلى سجود الكون  وما فيه لله عز وجل.( )

عــلاقة تلقي:

من مقاصد الانتقال - في بعض الآيات - من حديث إلى آخر مراعاة المسافة التفاعلية بين المتلقي والنص؛حيث يتجلى تنشيط المتلقي من أبــرز هذه المقاصد؛كقوله تعالى: هَذا ذِكْرٌ وإنَّ للمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَـآبٍ[ص:49]؛ فلما أفرغ تعالى من ذكر الأنبياء قال: هَذا ذِكْرٌ فربط تلك الإخبارات باسم الإشارة لينتقل إلى حديث آخر،كما في قولنا:أشير عليك بكذا،ثم تقول بعده:هذا الذي عندي والأمر إليك.

و أيضا لما فرغ تعالى من ذكر الجنة قال: هَذا وَإنَّ للطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص:55]، منتقلا إلى حديث آخر كما انتقل في الأول.( )  

ثانيا:التماسك بين السور:

يؤسس الزركشي دراسته للتماسك بين السور من اقتناعه أن ترتيب السور أمر توقيفي؛ويؤكد هذه الرؤية من خلال ملاحظة التماسك الشديد بين السور.

يميز الزركشي بين ترتيب "التلاوة" و ترتيب "التنزيل"؛فترتيب التنزيل يربط الآيات بسياقها التاريخي فيما عرف بـ"أسباب النزول"،أما ترتيب "التلاوة" فهو أشمل إذ يتعلق بعلم الله الذي أراده تعالى بهذا الترتيب الموجود في المصاحف؛فهو ترتيب للقرآن كما أنزله تعالى إلى السماء الدنيا.( )

والتماسك بين السور منه ما هو ظاهر قريب يسهل تلمسه،و منه ما هو خفي يحتاج إلى تمكن واقتدار قصد رصده وتتبع تفاصيله؛من هذه الناحية يمكن أن يتميز مفسر عن آخر، " و مهمة المفسر محاولة اكتشاف هذه العلاقات أو المناسبات الرابطة بين الآية والآية من جهة،وبين السورة والسورة من جهة أخرى،وبديهي أنَّ اكتشاف هذه العلاقات يعتمد على قدرة المفسر وعلى نفاذ بصيرته في اقتحام آفاق النص"( )

إن النص القرآني فضاء غير منغلق على قراءة جيل أو فرد بعينه أو مذهب محدد..بل إن النص القرآني نفسه يدعو المتلقي؛لتدبره وارتياد آفاقه والتأمل فيه.. لكنه لا يقبل القراءة المتربصة،و القرآن نفسه ما يفتئ أن يفضح هذه القراءة الشاذة أو المتربصة أو التي تريد تقويض قواعده الفكرية من الداخل .. فقد "يعتمد مفسر على بعض معطيات النص ليكشف من خلالها علاقات خاصة،بينما يعتمد مفسر آخر على معطيات أخرى فيكشف عن نمط آخر من العلاقات "( )

لقد استطاع الزركشي ببراعة،و نفاذ بصيرة؛أن يرصد علاقات التماسك بين السور؛رصدا كشف عن إمكانات أسلوبية إعجازية في النص القرآني المقدس،كما أشار الزركشي إلى التماسك الموضوعي بين السور الذي لم يبرز بشكل واضح إلا مع سيد قطب في ظلاله( ).

إن محاولة الزركشي في جانب منها تستحق أن توصف بالمقاربة الأسلوبية النصية؛لأنها رؤية متماسكة في نظرتها للتماسك بين الآيات والسور؛حيث تفضي كل آية أو سورة للتي تليها.

لقد ارتقى الزركشي بالتماسك حتى جعله وجها يُطْلَبُ به معرفة الإعجاز؛فكيف تماسك هذا البناء العظيم الذي نزل منجما على مـدار ثلاثة      و عشريـن سنة " وهو مبنيٌّ على أن ترتيب السور توقيفي؛وهذا الراجح كما سيأتي،وإذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها "( )،وإنّ " لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تُطلِع على أنه تـوقـيـفـي صادر عن حكـيم "( )؛وفعلا قد أثبت الزركشي تماسكا شديدا بين السور التي درسها تماسكا يدل على إعجاز.. " وإذا ثبت هذا بالنسبة للسور،فما ظنك بالآيات وتعلق بعضها ببعض؛بل عند التأمل يظهر أن القرآن كالكلمة الواحدة "( )،وبعد بيان دور التماسك وقيمته كما بينها الزركشي،نرصد أهم العلاقات التي يرى أنها قادرة على تفسير تراتب السور:

علاقة تماسك بين فواتح السور و خواتمها:

يقول تعالى في افتتاح سورة المؤمنون:قد أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ[المؤمنون:03]،    و يقول تعالى في خاتمة السورة:إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ[المؤمنون:117]،إن التماسك بين فاتحة السورة واضح لا يحتاج إلى بيان؛فالفاتحة حديث عن المؤمنين   و الخاتمة بيان لمخالفة صفات المؤمنين؛حتى قال الزمخشري:فشتان بين الفاتحة  و الخاتمة.( ) 

و من ذلك أيضا افتتاح سورة  "القصص"  بقصة موسى و نصرته و قوله تعالى:فَلَن أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17]..وخروجه من وطنه و إسعافه بالمكالمة،و ختمها بأمر النبي(صلى الله عليه و سلم)؛بأن لا يكون ظهيرا للكافرين؛ و تسليته بخروجه من مكة و الوعد بعَوْدِهَ إليها في قوله تعالى: إنَّ الذي فَرَضَ عليك القُرْآنَ لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ[القصص:85]( )

عــلاقة تماسك بين فاتحة السورة و خاتمة التي قبلها:

و ذلك كافتتاح سورة الأنعام بالحمد؛فإنه مناسب لختام سورة المائدة؛من فصل القضاء الذي يستحق الحمد؛كما قال تعالى: وَ قُضِيَ بينَهُم بالحَقِّ وّ قِيلَ الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ[الزمر:75].

و من ذلك أيضا افتتاح سورة فاطر بـ الحَمْدُ ؛الذي يناسب ختام سورة سبأ في قوله تعالى: وَحِيلَ بَينَهُم وَ بَينَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ [سبأ:45].

و من ذلك أيضا افتتاح سورة الحديد بالتسبيح،و ختام سورة الواقعة التي أمرت به في قوله   تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ[الواقعة:96].

و من ذلك أيضا افتتاح سورة البقرة بقوله تعالى: أَلَـم ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ[البقرة:01]؛إشارة إلى قوله تعالى: الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمِ في فاتحة الكتاب.( )

و من ذلك أيضا افتتـاح سورة المــائدة بـقوله تعالى: يَأَيُّهَا الذين آمَنُوا أَوْفُوا بالعُقُودِ [المائدة:01]؛فإن هذا الافتتاح مناسب لختام سورة النساء؛حيث أمر سبحانه بالتوحيد و العدل بين العباد.( )

عــلاقة تماسك نحوي دلالي:

يتجاوز التماسك هنا الارتباط الدلالي فحسب؛ليتجاوز ذلك إلى تماسك شكلي عن طريق علاقات نحوية إضافة إلى الارتباط الدلالي؛و ذلك كارتباط سورة قريش بسورة الفيل؛فقد وصف الأخفش ذلك التماسك بين السورتين من باب قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُم عَدُوّاً وَ حَزنا[القصص:08]،و قد وصف الزركشي التماسك بين السورتين بقوله: " حتى إن منها ـ المناسبة ـ ما يظهر تَعَلُّقها لفظا "( )

عــلاقة تماسك صـوتي:

في بعض السور و زيادة على التماسك الصوتي يكون هناك تماسك صوتي؛يعتمد على تناسق الفاصلة الأخيرة في تحقيق ذلك التماسك؛من ذلك ما جاء في سورة المسد مع فواصل سورة الإخـلاص؛ففواصل سورة المسد تخالف فاصلتها الأخيرة؛فهي على حرف الدال،و فواصل السورة التي بعدها سورة الإخلاص كلها على حرف الدال( ).

عــلاقة تماسك موضوعي:

و ذلك كتشابه مضمون سورة الضحى،و مضمون سورة الانشراح؛فكلاهما في مضمونه العام يتناول فضل و نعمة الله تعالى نبيه محمد(صلى الله عليه و سلم).

عــلاقة تماسك بالتقابل:

و ذلك كتقابل سورة الكوثر لسورة الماعون،يقول الزركشي مبينا تلك     العلاقة: " و من لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتي قبلها؛لأن السابقة قد وصف الله فيها المنافق بأمور أربعة:البخل،و ترك الصلاة،و الرياء فيها،و منع الزكاة،فذكر هنا ـ سورة الكوثر ـ في مقابلة البخل؛ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ [الكوثر:01]؛أي الكثير،و في مقابلة ترك الصلاة؛ فَصَلِّ أي دُمْ عليها،و في مقابلة الرياء؛ لِـرَبِّكَ ؛أي لرضاه لا للناس،و في مقابلة منع  الماعون؛ وَ انْحَرْ ؛و أراد به التصدق بلحم الأضاحي؛فاعتبر هذه المناسبة العجيبة "( )