خطاب الصمت
ما بعد الحداثة في أعمال الكاتبة البرازيلية كلاريس لسبكتر
ترجمة : مازن جاسم الحلو
مترجم وأكاديمي
شخص النقاد الصمت منذ زمن ليس بالقريب بوصفه أحد السمات المميزة للنثر القصصي عند كلاريس لسبكتر Clarice Lispector. هذا الصمت يتغلغل أعمالها آخذا أشكالا عدة ولاعبا أدوارا شتى ، ويتلخص حول هذه القضية الجوهرية ، فيما تنوه عنه الناقدة ( إليزابيث لو ) Elizabeth Lowe على أن : " محور أعمال كلاريس لسبكتر هو الصمت ، وهو الوهج الساكن ماوراء الحدث القصصي وماوراء الكلمات التي يعبر البحث عنها والتي تمثلها على أنها بطلة أعمالها المطلقة " (1) . ونظرا لأن أعمالها تمتاز بطغيان الإحساس بالعزلة والإحباط والقسر ، لذا فأن قراءة أعمالها القصصية تتسم بوصفها خطابا للصمت (2) ، أو تعليقا ذا وعي ذاتي متهكم بالرغم من تميزه بغنائية شفافة حول العلاقات الزائلة بين اللغة والإدراك البشري والواقع .
تمثل روايات لسبكتر وقصصها ، حين تركز على هذه القضايا الما وراء قصصية ، نوعا من الكتابة يسمى بكتابة " مابعد الحداثة " والتي تضع في أولوياتها طبيعة الفن القصصي ذاتها والعملية التي من خلالها تصنع عباراتها وجملها . بيد أنه وبالرغم من احتواء أعمال لسبكتر على العديد من أوجه مرحلة مابعد الحداثة إلا أن أكثر مايميز ذلك النوع من الكتابة هو استخدام الصمت والذي يعد سمة يتميز بها فنها القصصي الذي تقوم بتطويره على صعيد الاستعارة والكناية لتصف وتجسد عزلة الإنسان المعاصر. ونظرا لما للصمت من دور فعال في أعمالها ، فأن فنها القصصي يقدم للقارئ رأيا شموليا حول كيفية أن يقوم واحد من أبرز خصال مابعد الحداثة بالعمل بوصفه قوة رئيسة قابلة على التشكيل في عالم الفن القصصي .
وبالنسبة للوظيفة اللغوية ، فأن الصمت يقوم فضلا عن ذلك ببيان كيف أن عمل لسبكتر يتميز بقدرة إيضاحية للبحوث النقدية التي قام بها منظرون في السرد القصصي أمثال رولان بارث في كتابه " درجة الصفر في الكتابة " وموريس بلانشو في مؤلفه " كتاب القادم " ؛ وكتاب جاك لاكان الموسوم " كتابات " ؛ وجورج شتاينر " اللغة والصمت " ، والتي يركز كل منها على ظاهرة الصمت في أدب عصر مابعد الحرب العالمية الثانية .وهنالك قضية وثيقة الصلة بأعمال لسبكتر طرقها الأستاذ (إيهاب حسن ) وهو مؤلف لدراسة موسعة فيما يتعلق بطبيعة أدب مابعد الحداثة (4). لقد بين (حسن) كيفية توظيف الصمت بوصفه ضربا من المجاز في تمييز النوع الجديد من الكتابة الذي شرع بالبزوغ والازدهار في العديد من الثقافات الغربية أبان الأعوام من 1960 – 1970 .يسلط (حسن) الضوء على مسألة الهوس باللغة لدى كتاب ما بعد الحداثة من أنه يتسم بالتناقض ، لأن اللغة الفعلية لتي تستخدمها الشخصيات لديهم تنتج قدرا ضئيلا من الاتصال المفهوم . إن النتيجة التي يجدها (حسن) مميزة لأدب ما بعد الحداثة القصصي هي حالة من " الصمت " قد تم إفرازها بوساطة سيول من الكلمات ، الأمر الذي يحمل في طياته نوعا من السخرية اللغوية .وهذا الانشغال المهووس بالكلمات وباعتمادها وسطا للاتصال نجده متأصلا في أعمال كلاريس لسبكتر ، الكاتبة التي ترى في الكلمات " أشياء محسوسة " ، و " أبادا رابعة " مراوغة . في هذا السياق تتجلى مرحلة ما بعد الحداثة عند لسبكتر .
وحين تتناول الناقدة ( سوزان زونتاغ ) نقطة ذات صلة وثيقة لما توصل إليه الأستاذ ( حسن ) ، فأنها تذهب في كتاباتها " جماليات الصمت " The Aesthetics of Silence و " أساليب الإرادة الجذرية " Styles of Radical Will إلى أنه : " تماما مثلما يكون مسك الختام لطقوس الصوفي وهو حالة من الحياة السالبة ( (Via negativa ،وهي لاهوت غياب الإله وتوق لسحابة اللا معرفة ما وراء المعرفة والصمت ما وراء الكلام ، هكذا يجب أن يتجه الفن نحو اللا فن Anti – Art ؛ وإقصاء " الذات ".... استبدال الفرصة بدل القصد intention وملاحقة الصمت . إن إشارات زونتاغ ل " طقوس الصوفي " و " التوق لسحابة اللا معرفة ما وراء المعرفة والصمت ما وراء الكلام " قابلة للمقارنة بالنسبة لقضية كلاريس لسبكتر التي تتعرض شخوصها القصصية المعروفة إلى تجارب البحث الصوفي من أجل الوعي الذاتي وأصالة الوجود . وحال ولوجهم هذه التجارب الاستقصائية فأنهم يجدون أنفسهم مدفوعين بشكل غامض بواسطة فوضوية اللغة باتجاه حالة أشبه ما تكون بالتنوير البوذي لوعي داخلي كما وراء المعرفة ، وباتجاه الصمت القابع أبدا ما وراء فعل الكلام . ونظرا لأن لسبكتر ترى أن من غير الممكن الفصل بين طبيعة ووظيفة اللغة وبين أكثر موضوعاتها تأصلا ، أي النبض الإنساني باتجاه الإدراك والوعي الذاتي ، فأن سردها يجسد فعليا شخصية تناضل ضد صمت فشل اللغة ، وهو صمت ذو قلق وجودي Ontological مشتق وعاكس لعملية المد والجزر في اللغة .
ينقسم استخدام اللغة في أعمال لسبكتر القصصية فيما يتعلق مباشرة بالبنية وخلق الشخصيات إلى طبقتين مميزتين ، أولاهما التعبير عن هوية الشخص الخاصة وثانيهما التعبير عن هوية الشخص العامة . وينجم عن هذا الازدواج البنيوي التوتر أو الشد الثنائي والجدلي الذي يميز عملها ، ويعمل في الوقت ذاته بوصفه آلية تقوم بتوليد خطاب الصمت الخاص بعملها القصصي . أن الصمت الذي يراه (حسن) و (زونتاغ) و (شتاينر) وآخرون على أنه المقام الذي يوحد كل الفن القصصي لمرحلة ما بعد الحداثة هو إذن ذلك النوع من الصمت الذي يمتاز به عملها . يستحيل ذلك الصمت لدى الكاتبة البرازيلية إلى استعادة لتعذر الاتصال والى فشل اللغة أيضا تماما كما يحدث في أعمال كتاب ما وراء الحداثة أمثال (بورخيس) و (بارثيلم) و(نابوكوف) و(بيكيت) . تقوم هذه القطبية ذات الخاص والعام بتزويد لسبكتربأطار بنيوي مقارن تستطيع من خلاله تطوير شخوصها .زمن أشهر هذه الشخوص هو (مارتيم) Martim في رواية ( The Apple in the Dark ) التي صدرت عام 1961 والذي يصبح معروفا لدى القارئ من خلال صمته وتأملاته الداخلية حول الدور الذي تلعبه اللغة في تشكيل شخصيته وإعادة تشكيلها .تبرز وظيفة اللغة تدريجيا في الواقع بوصفها قوة فاعلة بالرغم من إن الغموض يكتنفها في الوجود البشري ،على أنها المادة الحقيقية لموضوع الرواية.
تقوم لسبكتر بتطوير حركتين منفصلتين بالرم من كونهما وثيقتي الصلة من خلال مادة موضوعاتها ذات الاتجاه الوجودي ، وهو ما يكون مفتوح النهاية في خضم مجريات هذا السرد الغامض .في أحدهما ، يرفض مارتيم " البطل " المجتمع البرجوازي جسديا وهو الذي كان في السابق ينتمي إليه؛ وفي الأخرى يرفض اللغة التي بدأ يستوعبها كونها زائفة كالمجتمع الذي فر منه .
أن المشكلة كما يراها ( غريغوري راباسا ) Gegory Rabassa هي أن مارتيم لا يفهم أيا من هذا (5) . وبوصفه لا بطل ينتمي إلى مرحلة ما بعد الحداثة ، فأن مارتيم تجتاحه موجة من الكلمات التي تبتلعه . وبعد أن يجد نفسه قد اجتيح بالاحتمالات الدلالية اللامنتهية والكامنة في هذه الإشارات أو العلاقات ، يتضاءل مارتيم تدريجيا إلى حالة من الوعي البدائي وفيها يتعذر عليه توليد فعل كلامي واثق . وهكذا يسقط مارتيم فريسة للصمت بعد أن ناضل من أجا استيعاب العلاقة غير المستقرة بين اللغة والواقع . ويفشل في كسر طوق هذه الحالة من العزلة وتعذر الاتصال على الرغم من أن عقله يزخر بقدرة عالية في استخدام اللغة البشرية . وبعد أن أصبح يتحسس بغموض أنه غدا رهنا للكلمات، يفشل في التعبير عما يقض مضجعه أو أن يصوغ خطة للسيطرة على الاضطراب والقلق والاختلال الذي يشعر به.
بدا وكأنه لم يفهم إلا بعد زمن ما كان قد قاله ، ومن ثم أخذ يرمق الشمس بنظرات في عينها الحمئة ، " لقد فقدت القدرة على الكلام مع الناس " ، وبعد هنيهة أعاد ببطء كما لو كانت الكلمات أشد غموضا من ذي قبل ....
.... عند نقطة لا يمكن تحديدها أضحى ذلك الرجل أسيرا لمد من الكلمات ...
وللأمانة فقط ، أراد أن يوضح لهم بأنه يعرف أن الشمس هي التي نفذت في كلماته جاعلة إياها تبدو أكبر من حجمها وطنانة جدا ، وأنها الشمس المصرة جنبا إلى جنب مع صكته الملح ، اللذان جعلاه يرغب في الكلام .أن المسألة هي ليست أن مارتيم لا يستخدم اللغة ،فهو شأنه شأن شخصية (مولوي) Molloy عند بيكيت ، يتكلم ــــ أو يفكرـــ بهوس ، أن الأمر الذي لايستطيع مارتيم فعله هو السيطرة على اللغة. وفي الحقيقة ،كان اكتشافه غير المستقر يتمثل في أن اللغة هي التي تسيطر عليه . وحين يتأمل نضاله ع اللغة والوجود ، يخبرنا النص الذي يسرد من الداخل :
" ماذا أراد ؟ بصرف النظر عما كان يريده فأنه ولد بعيدا جدا في أعماقه ، ولم يكن يسيرا عليه أن يجلب إلى السطح ذلك الخرير المتمتم ... "
كان يمكن أن تكون مهمته الغامضة أسهل لو نه سمح لنفسه باستخدام الكلمات التي خلقت من قبل ، بيد أن أعادته بناء تلك الكلمات كان يجب أن تبدأ بكلماته الخاصة به لأن الكلمات كانت صوت الإنسان ...ففي اللحظة التي تقبل فيها الكلمات الأجنبية فأنه كان سيقبل وبصورة تلقائية كلمة "جريمة" وعندها لن تتعدى كونه مجرد مجرم هارب مألوف .لقد كان من المبكر جدا أن يعطي نفسه اسما ـــ وأن يعطي اسما لما أراد ." The Apple 134 " . وحين يضرب مارتيم بالمسؤولية الوجودية عرض الحائط ، وهي التي يجعلها إدراكه حول اللغة والوجود تبدو مسألة بديهية ، فأنه يصبح شأنه شأن أبطال ما بعد الحداثة قلقا وسلبيا ، وضحية مرتبكة راغبة ومستعدة للرجوع إلى المجتمع الراغب في معاقبته لانتهاكاته الحقيقية والمتخيلة .
وفي ختام الرواية وحين يسمح مارتيم ــ ويضعف ـــ كنفسه بأن يعاقب لجريمة كان قد ارتكبها فأنه يوضح بجلاء قلقه الوجودي عندما يصر على أن السلطات تدرك ما هي فاعلة حين ترجعه إلى ذلك المجتمع من أجل معاقبته : قال بعدها " فلنذهب " متجها نحو الرجال الأربعة الصغار الذين كانت تتملكهم حالة الاضطراب " فلنذهب " . فمن المؤكد أنهم كانوا يدركون ما كانوا يصنعون .بأسم الرب آمرك أن تتأكد ، لأن يتوجب أ تكون هنالك رحمة حين يرمى ذلك الذنب الثقيل فوق السطح .. ولأننا لسنا مذنبين لذلك الحد ، فنحن أغبياء أكثر من كوننا مذنبين . وبالرحمة أيضا " بأسم يالرب ، أنا أنتظرك فقط لأعرف ما أنت فاعل ، لأنني يابني ، جائع فقط ، وأملك تلك الطريقة الخرقاء في الوصول لتفاحة في الظلام . أنني أحاول أن لا أسقطها " .
ان صراع مارتيم مع اللغة والذي يجسد نقطة شتاينر الأساسية في " التقهقر من العالم " (اللغة والصمت ) ينتهي بالفشل وبالصمت الذي يشوب عدم اتخاذ القرار .وعلى الرغم من شعوره بقدرته على خلق وجود أصيل اذا ما استطاع صياغة مشاعره بكلمات ، الا أن مارتيم يصيبه الوهن بصورة قاتلة بواسطة قوة اللغة الفوضوية .يكتشف مارتيم افتقاره للشجاعة والإرادة ليجعلها تمنحه شعورا مرسوما وثابتا بهويته الشخصية . والطريقة الأسهل والأنجع هي السماح للمجتمع ،بشخصياته السلطوية وتأكيدها على التفكير السطحي والرتيب ، أن يصدر له وببساطة هوية ما مبنية على الخضوع والانضواء تحت أعراف المجتمع . وطالما يعيل صبره وينتابه الإحباط بعد أن يحاول جاهدا التفكير لذاته ، يستسلم مارتيم لحالة من الصمت الذهني والنفسي ، صمت يتعزز بصورة تهكمية بتشجيعه المبادلة اللفظية التافهة وغير النقدية .
ينتهي السرد بطريقة غير أكيدة لأن مارتيم في هذه اللحظة أصبح غير قادر وغير راغب في تحمل مسؤولية هويته . يستسلم ببساطة ويبقى آملا وعل نحو عشوائي بأن يخبره أحد ما بماهيته. ان القارئ يفهم ما لا يستطيع مارتيم أن يفهمه وأن شخصيات السلطة التي وضع أمله فيها لتوضيح هويته هي نفسها أكثر اضطرابا منه . لقد خانته اللغة في استقصائه من أجل الوعي الذاتي والمعرفة ، فيستشري الصمت .
ان الشخصية التي خلقتا لسبكتر والتي تستجيب بصورة مختلفة لمشكلة سعة اللغة للتعريف والسيطرة على الوجود الإنساني هي شخصية ( G.H ) في رواية The Passion According to G.H ) ) التي صدرت عام 1964 . تخبرنا هذه الرواية المبنية على شكل مونولوج داخلي متواصل عن قصة استقصاء صوفي Mystic بغية الوصول إلى الإدراك الذاتي ، استقصاء تأخذه على عاتقها امرأة يعرفها القارئ بحروف اسمها ( G.H ) :
" لقد نبضت في داخلي طاقة جديدة كامنة بصورة كلية ، وكنت أمتلك فخامة معينة : فخامة
الشجاعة ، وكأن خوفي ذاته قد استثمرني أخيرا بالجرأة ...
حياة كلية لنقاء حضاري ـــأنا لم أدافع منذ خمسة عشر قرنا ، ولم أمت منذ خمسة عشر قرنا ـــ
حياة كلية أوقعت في فخ كناقوس صامت لم أشأ الإصغاء لاهتزازاته ...
... ماذا صنعت ؟
... لقد قتلت . لقد قتلت !
على العكس من مارتيم ، فأن (G.H ) تختار المواجهة مع علماء الوجود عن طريق الصراع مع اللغة حتى أصالة الوجود " authenticity of being " التي تطلبها . ولكنها تشبه مارتيم في انتهائها مبتلعة في حالة من الصمت ، مع أن الصمت في قضيتها هو صمت العزلة الخاصة التي حصلت عليها من خلال التحرر الذاتي البناء . هذا هو صمت العزلة بالنسبة لها وكذا لجميع شخوص لسبكتر ، الصمت المولود من الإدراك عرفنا أم لم نعرف ، شئنا أم أبينا ، فأننا نقبع في هذا العالم وحدنا .يأتي هذا التص ما بعد الحداثوي ذو الوعي الذاتي في هذه الرواية وكما تقول ( بيلا جوزيف ) Bella Jozef " وجها لوجه مع ذاتها ، تخلق نفسها مع كل خطوة جديدة ، في جدل من الكلام والقول والذي يفضي من صمت إلى صمت " . وكما تحكي (G.H ) تجربتها :
" هناك حيث انفتحت في داخلي وبثقل الأبواب الحجرية العظيمة ، حياة الصمت المهولة ، وهي الحياة ذاتها التي تقطن في داخلها الشمس الهامدة ، تكلم الحياة الصامتة التي تقطفها الصراصر المشلولة ، وسوف تكون بلا شك حياة الصمت ذاتها في داخلها . آه لو كانت لدي الشجاعة فقط لأهجر... أهجر مشاعري ؟ ... هذا هو الجنون بعينه ، تأملت وعيناي مغلقتان ... لقد كانت يا الهي ، أسوأ حقيقة ، الحقيقة المرعبة . ولكن لم هي مرعبة هكذا ؟ لأنها ببساطة تناقضت وبلا كلمات مع كل شئ كنت أفكر فيه في السابق ، وكذلك بلا كلمات ... كيف يتسنى لي أن أبين لكم ؟ Passion 782-83 ) (The .
ولغرض الحصول على حالة الوجود الأصيل تدرك ( G.H ) أن الثمن يجب أن يدفع ، لأنه أن تكون حرا يعني في نهاية المطاف أن تكون منعزلا عن المخلوقات التي لاتتمتع بحرية(مثل مارتيم )، الناس الذين يرفضون تحمل المسؤولية من يكونون وما يكونون . تحاول ( G.H ) جاهدة فهم طبيعة تجربتها الدينية الأساس : " أصبحت أفهم الآن ما قد بدأت أشعر به كان فرحا ، وهو ما لم أدركه أو أفهمه لحد الآن . لقد كنت أناضل في صرختي البلهاء للنجدة ضد فرح بدائي غامض لم أشأ أن أستبصر ما في داخلي ، والذي كان فضلا عن غموضه اتصافه بالرعب . كان فرحا بلا إنقاذ ، لا أعلم كيف أفسر ذلك لكم ، ولكنه كان فرحا دونما أمل " ( The Passion 789 ) .
إن خطاب الصمت عند (G.H ) هو أشبه بذلك مما لدى الممثل الذي لديه سطور ملأى بكلمات ذات معنى ليقولها بيد أنه لا يوجد من يسمعه . وكما يصف " جيرالد برنس" Gerald Prince ذلك، فأن ( G.H ) تسرد لنفسها ؛ إنها تكلم نفسها . وعلى العكس من ذلك ، يرفض مارتيم في نهاية المطاف أية جهود إضافية للنزاع مع مشاكل اللغة والوجود . فهو يستسلم ويختار الانضمام إلى المجتمع الذي يدرك بأنه مبني على استخدام لغة غير فعالة وغير أصيلة . تحصل ( G.H) في نهاية قصتها على وعي جديد من الشعور بالوحدة التي تنفرد بها في معركتها وتدرك أنها وبسبب تجربتها الصوفية الخاصة قد تغيرت إلى حد كبير .
إن اختيارها يجسد تعليق ( زونتاغ ) عن وظيفة الصوفي في أدب ما بعد الحداثة والذي يكون بين قبول حالة الحرية الجديدة والمؤلمة في ذات الوقت أو إنكار هذه الحالة التي قد تصل إلى حد إعادة تأسيس كائن اجتماعي غير أصيل وتقليدي . وبالرغم من أن كليهما مشتق من حالة الصمت ذاتها ، إلا أن خيارات مارتيم و ( G.H ) تختلف بصورة جذرية .
تشبه شخصية ( G.H ) وهي بطلة إحدى أهم الروايات الأمريكية اللاتينية في عقد الستينات من القرن العشرين (6) ، شخصية ( كاثرين ) Catherine الشخصية الرئيسة في قصة" روابط عائلية" Family Ties التي صدرت عام 1960 . ينشأ صراع ( كاثرين ) ، مثل صراع ( G.H ) بسبب وجوب اختيارها بين وجود فارغ ذهنيا ولكنه مريح ماديا أو الشروع في حياة جديدة ، حياة ذات معنى ولكنها قاسية وتنطوي على قدر من الخطورة . تفيد اللغة المستخدمة في قصة ( كاثرين ) في توضيح التوتر الموجود في أعمال لسبكتر بين الهوية الخاصة والعامة لشخوصها . وحين تكافح
( كاثرين ) وهي زوجة وأم من الطبقة الوسطى المتحضرة لفهم شعورها الناشئ في وعي ذاتي ، يتخذ النص شكل مونولوج داخلي غير مباشر ، فنقرأ :
" بعد أن ارتاحت من صحبة أمها ، استعادت حالة السير النشط ، وحيدة كان الأمر أسهل ...
وأضحت الأشياء بحالة بدا فيها أسى الحب لها سعادة ــ كان كل شئ حولها رقيقا وحيا للغاية ؛
الشارع القذر، وسيارات الترام القديمة وقشور البرتقال على الرصيف ـــ انسابت القوة جيئة
وذهابا في قلبها وبغزارة كبيرة (7) " .
مع هذا ، وحين تتكلم ( كاثرين ) فأنها تقدم لنا ذاتها الاجتماعية ولعامة ، ذات هي مألوفة جدا وبكل معنى الكلمة . لكن وبالرغم من كونها شخصية في سياق اجتماعي تقليدي ، فأن ( كاثرين ) تنشغل في الغالب مع زوجها وطفلها بحوار غامض جدا مستخدمة كلمات تعمل كمرسلات لكل ما هو مطلوب والمفروض أن تكون حقلا للمعرفة يتقاسمه الجميع . وكما قد يلاحظ أي ناقد تفكيكي deconstructionist فأن التوتر الرئيس الحاصل في القصةــ والناجم عن فشل اللغة في الاتصال ـ مشتق من حقيقة أن الشخوص الرئيسة لا تتقاسم ذلك الحقل المعرفي حيث أنهم يعملون في حالة من الصراع والعزلة الكلية . وعلى النقيض الصارخ للرتابة وعدم القدرة على التعبير فيما يتعلق الأمر بحواراتها الكلامية ( والتي تشكل خطابها الاجتماعي ) فأن مونولوجات ( كاثرين ) الداخلية الصامتة مشحونة بظلال غنائية وغموض علاماتي ( Semiotic ) فضلا عن كثافة فلسفية . وفي الوقت الذي تمثل فيه لغة ( كاثرين ) الكلامية بالأساس أوطأ مقام مشترك ممكن للتفاعل اللغوي الإنساني ، فأن لغتها الكلامية ذات المعاني الفنية المتعددة تمثل القوة والطاقة للعقل البشري في حالة التأمل المهيج المتزامن مع الذات والآخرين في هذا العالم :
" أما نسيت شيئا قط ؟ " تساءلت أمها . كان لدى ( كاثرين ) انطباعا بأنها أيضا نسيت شيئا ما . كانتا ترمقان بعضهما البعض بنظرات مخيفة ـــ لأنهما إذا ما نسيتا أي شئ فعلا ، فأن أوان التذكر قد فات الآن .... . كان يبدو لها أن على المرأة العجوز أن تقول شيئا يوما ما " أنا أمك يا كاثرين " وكان يجب على الأخرى أن تجيب " وأنا ابنتك " .
نادتها ( كاثرين ) " لا تجلسي هنا " ، فأجابتها أمها صارخة " ياعزيزتي أنا لست بطفلة " وكانت لا تزال قلقة بشأن مظهرها ... شعرت ( كاثرين ) بدافع مفاجئ لتسألها إن كانت سعيدة في العيش مع أبيها . صرخت بأعلى صوتها " بلغي تحياتي القلبية لعمتك " " نعم ، نعم " .
" كاثرين " .. قالتها المرأة العجوز بفم مفتوح وعينين مشوبتين بخوف غريب ... كان القطار قد بدأ بالمسير ( Family Ties 118-19 )
تنجح لسبكتر في اظهار الكيفية التي بدأ بها الصمت يغلف ( كاثرين ) وذلك عن طريق تطعيم السرد بقائمة شخوص ظاهراتيين Phenomenological بشكل حاد تتسم بالتأرجح بين تصوير عوالم شخوص الخاص والعام . فنراها غير قادرة على أن تقول ما تود قوله وأن تكسر طوق الأنانة Solipsism لتتصل مع الآخرين اتصالا ومعنى . وبتقادم الوقت ، تصبح ( كاثرين ) بطلة من أبطال ما بعد الحداثة تميزها العزلة والإحباط بعد أن فشلت في الحصول عن طريق اللغة ما أرادت أن تحصل عليه .
إن ما يثير السخرية في حالة كهذه هو أن القارئ يفهم تدريجيا ويتعاطف مع شخوص لسبكتر حتى وأن كان يدرك بأنهم تارة يقعون في الفخ وتارة أخرى هم يوقعون أنفسهم في متاهاتهم اللفظية . يبدأ أحدنا بالتدريج في رؤية شخوص مثل ( كاثرين ) و ( مارتيم ) و ( G.H ) ونخبة أخرى منهم أما أن يخضعوا للتشذيب بوصفهم كائنات بشرية شرعية ذهنيا أو أنهم قد تشذبوا أصلا ليقاتلوا بغية أعادة أحياء وجودهم ، وفي كلتا الحالتين ــ حيث تكمن القوة الفريدة في سرد لسبكتر القصصي ــ تتضاءل الشخوص إلى حالة من الصمت المحبط والعزلة وعدم القدرة في التعبير عن نفسها ؛ وأنه ليس بإمكان اللغة الكلامية لشخوص لسبكتر أن تولد أو تستلم الرسائل والشفرات التي تريدها وأنها واعية جدا لهذا الفشل اللغوي والإصابة النفسية لناجمة عنها .
بيد أن اللغة الاستبطانية وغير الكلامية للشخوص والتي تبرع في صياغتها لسكتر تجعلهم أيضا يشعرون بخيانة اللغة . وعلى الرغم من تمكن هؤلاء الشخوص من الشعور بالتعبير الانفعالي عن صمتهم وتأملاتهم الداخلية فأنهم لايستطيعون ــ مع استثناء نادر الحصول ــ نقل قوة وحيوية هذه العلامات الملغزة إلى الآخرين . إن أولئك الشخوص ، وبالرغم من تمكنهم من حدس اكتشافاتها الذاتية ، إلا أنه يتعذر عليهم التعبير عن هذه المعرفة الحرجة للآخرين .
وإدراكا منهم بعدم القدرة في السيطرة على اللغة وجعلها تكون ما يرغبون لها أن تكون ( وسطا معبرا وصادقا ) وأن تفعل ما يريدون منها أن تفعل ( الإشارة بوضوح من و ما يكونون ) ، تصبح شخوص لسبكتر محبطة وبكم قلقين ينتابهم اليأس من الاتصال ، لكنهم على وعي تام بعدم ثدرتهم على فعل ذلك . قد يتمكن البعض منهم ، كما هي الحال بالنسبة لـ ( كاثرين ) و ( G.H ) ، من اكتشاف ماهيتهم ، بيد أنهم في الوقت ذاته غير قادرين على إفهام الناس بذلك . أو كما في حالة مارتيم الذي يستسلم ببساطة لأنه يجد أن الصراع من أجل تأسيس وصيانة هوية أمر يصعب تحمله للغاية . و " انا " Anna ، ربة البيت بطلة " حب " Love في ( روابط عائلية ) هي من النوع الأخير آنف الذكر ؛ شخصية لسبكتورية ( نسبة إلى لسبكتر ) نموذجية ترى كيف أن بإمكانها أن تكون شخصا مختلفا جدا ، لكنها تفتقر إلى التصميم لتحقيق التغيير. وعلى الرغم من كون شخوص لسبكتر تتطور بوصفها " حالات متباينة للعقل " أكثر منها كيانات جسمانية أو حتى نفسية ، فأن ألمها لا يزال يتميز بالعمق الإنساني . نحن نعرفهم بصورة جيدة لأن قلقهم تتقاسمه معهم الغالبية العظمى مما كان ليحيا بعد عصر الحرب العالمية الثانية ، عصر تم تصويره بشكل لاذع في أدب ما بعد الحداثة الذي تميز بالوعي الذاتي المؤلم والذي لا يبعث على الاطمئنان .
إن الاستثناء الوحيد لصمت كلاريس لسبكتر الأبكم في فنها القصصي لما بعد الحداثة هو ( تحت التجربة ) An Apprenticeship أو ( كتاب المسرات ) Book of Delights ، وهو رواية مثيرة للجدل نشرت عام 1969. إن الاختلاف الأساس بين عملها هذا وجهودها الأخرى هي أن الحوار هنا يلعب دورا أكثر حسما في نمو الشخوص من دور المونولوج . وفضلا عن ذلك ، فأن هذا الحوار يكون مهما للشخصيتين الرئيستين ذات العلاقة لأنها تفلح في رأب الصدع الوجودي الذي يضع الناس في عزلة مطبقة . إن ( كتاب المسرات ) هذا غير مهتم بذاته بأبعاد اللغة الأنطولوجية ، فهو يركز، مثلما تفعل باقي نصوص لسبكتر،على الاستقصاء والبحث عن الهوية والمعرفة الذاتية . لكن ، وعلى العكس من معظم أعمالها ، فأنها تقوم بهذا البحث من خلال التركيز على التبادل اللفظي والجسدي بين كائنين بشريين ، رجل وامرأة يفتشان بنزاهة أملا في التغلب على عزلة وجوديهما المنفصلين . ونظرا لأن هذه الرواية تتطور بالأساس مرتكزة على القوة الرمزية للغة ، فأن من الملاحظ عليها أنها أقل شعرية من أعمالها الباقية ؛ ومع ذلك ، وفي قصة تصور النمو والتوحد النهائي لكائنين بشريين ، تنجح اللغة في أعادة خلق عوالم الشخوص الداخلية الخاصة. هنالك اختلاف أساس يتمثل في أن ( كتاب المسرات ) ينقل التوازن النصي من تمثيل للعالم الداخلي باتجاه خلق عالم اجتماعي وخارجي .
إن الصمت القاتل الذي يميز أعمال لسبكتر الأخرى يكون أقل وضوحا في هذه الرواية حيث يعمل بوصفه سمة للحالة الإنسانية الممكن قهرها . ولأن الصمت عند كلاريس لسبكتر هو وثيق الصلة بالعزلة والفشل اللغوي ، فأن الرجل والمرأة في " كتاب المسرات " يحصلان على اتصال ذي معنى مستخدمين الحب فقط لقهر انعزالهم ، وهذا ما يوضحه حوار متأخر في الرواية :
قال (عوليس ) Ulysses " هل تعتقد أن الحب هو صنع هدية متبادلة من عزلة أحد ما ؟ على كل حال ، أنه أعظم شئ يمكن لشخص ما أن يهبه من نفسه " . " لا أعلم .... ولكن ما أعمله هو أن بحثي قد شارف على نهايته . ما أقصده هو أنني قد وصلت إلى حافة بداية جديدة " .
ولإتمام ذلك ، يفعل كل من ( لوري ) Lori و (عوليس) ما يفعله باقي شخوص لسبكتر : فهم يواجهون حقائق وجودهم . تجد الشخصيتان الرئيستان في هذه الرواية السادسة في بعضهما البعض ما كانتا قد فقدتاه في حياتهما بسبب عدم شعورهما بالسعادة والرضا عما كان موجودا . إن نجاح ( لوري ) و ( عوليس ) يرجع إلى قدرة كل نهما على جعل اللغة تصنع نظاما من المشاعر والفكر وتحويل هذا النظام أو الشفرة إلى إنسان آخر، إنسان يقهر عزلته بدرجة تكفي لاستقبال الرسالة والاستجابة لها على هيئة ذات معنى .
لكن وعلى الرغم من كون ( لوري ) و ( عوليس ) من شخوص لسبكتر الفريدة لأنهما يتصلان مع بعضهما البعض ، فأنهما يقومان بذلك عن طريق الولوج في بحث لسبكتوري معتاد وهو البحث الانعزالي والمنفرد عن الذات والمعرفة والوعي الذاتي . ومن ثم يصبحان قدرين في الحصول على صوت للتعبير الذاتي غير المخادع عندما يجدان نفسيهما أولا وهذا ما يعطي كل واحد منهما فرصة لتثبيت الاتصال مع الآخر وكما يخبرنا الراوي :
" لاحظت بفرح غير متوقع ومفاجئ ، ليس فقط أنها كانت تفتح يديها وقلبها ، ولكن استطاعتها فعل ذلك دونما مخاطرة ! " أنا لا أفقد شيئا ! أخيرا ها أنا أسلم نفسي له . وما سيحدث حين أفعل ذلك هو أن أتلقى أتلقى ..."
... لقد أدركت أن في فعل الاستسلام ذاته تكمن متعة الوجود الخطرة والساكنة .
( تحت التجربة 108ــ109 )
ينشأ الحث الدرامي والإثارة لشخوص لسبكتر من الحقيقة التي حين يحصلون فيها على صوت من خلال البحث عن الذات فأنهم يفشلون في أيجاد أي شخص يكون قادرا أو راغبا في الاستجابة لإشاراتهم . وهكذا فأن في عالم لسبكتر القاسي وغير المتسامح لا يكفي التأسيس لمعنى لغوي أمين للهوية الشخصية والوعي الذاتي . لا بد للواحد منا أن يكون محظوظا حيث لا يوجد هنالك ضمان يكفل وجود شخص مستجيب .
ينجح ( لوري ) و ( عوليس ) باقتحام العوائق الاجتماعية واللغوية والنفسية التي تحبسهما لأنهما يكتشفان قدرتهما على التطور بوصفهم كائنات بشرية فقط من خلال قهر عزلة الآخر التي تكون في غاية الصعوبة . أن صمت عالميهما هو ليس الجهل أو الخوف أو الاضطراب الذي يعذب العديد من شخوص لسبكتر ؛ فالأمر بالنسبة لـ ( عوليس ) و ( لوري ) هو صمت معرفة بمن ترغب وبماذا ترغب وفي ذات الوقت تخشى بأنك سوف تفشل في الحصول على والوصول إلى هوية أصيلة إلى تأخير كل واحد منهم حتى يتعلموا وعلى وجه التناقض استخدام صمت اللغة لتحطيم الجدران النفسية والاجتماعية التي وضعت بينهما :
اعتقد ( لوري ) بأن ذلك كان واحدا من أهم التجارب بالنسبة للإنسان والحيوان على السواء : طلبت المساعدة بصمت ، وهذه المساعدة أعطي لها بصمت . فبالرغم من تبادل الكلمات ، فأن ذلك قد تم بصمت حال تقديم المساعدة . ( تحت التجربة 87 )
إن ( عوليس ) و ( لوري ) بفعلهما ذلك ، فأنهما يكتشفان ما يدعوه الأستاذ ( حسن ) بـ " الرابطة القديمة " ancient connection بين الحب والصمت ، رابطة تتولد من خلال تأمل هادئ مع الذات. تخبرنا لسبكتر فقط في ذلك الحين أن بإمكان الرجل أو المرأة مساورة الأمل في استخدام القوة الإيجابية للحب واللغة من أجل نمو وانجاز شخصي كما يفعل ( عوليس ) و ( لوري ) :
" الحقيقة يالوري هي ذلك العمق في داخلي والذي فتشت عنه حياتي كلها من أجل نشوة إلهية . لم أفكر في ذلك البتة ، ولكن بدلا عنه كنت سوف أكتشف إلوهية الجسد " .
أما بالنسبة لها فقد ناضلت كل حياتها ضد ميلها أن تشغف حبا وأن لا تسمح لنفسها مطلقا أن تغطس في قارورة الحب حتى رأسها .... والآن وفي حالة الصمت التي تكتنفها فقد فتحت بوابات الفيضان وأسلمت روحها وجسدها ولم تكن تعلم كم مضى من الوقت ، فلقد تخلت عن نفسها لغطس عمق حر
تحت التجربة 111 ) .
أن كلمات الحب التي يفصح عنها ( لوري ) و ( عوليس ) لكل منهما تتزامن مع ممارسة الحب جسديا ، وهما بهذا يمثلان صفة بنيوية وثيمية في الرواية والتي تبين ملاحظة ( نورمان أو .براون ) Norman O.Brown في جسد الحب Love's Body :
إن معاني الكلمات الحقيقية هي معان جسدية ومعرفة جسمية ، والمعاني الجسدية هي المعاني غير الكلامية . إن ما يتكلم بصمت هو الجسد دائما ، وأن المصفوفة التي تبذر فيها الكلمة هي الصمت ، فالصمت هو اللغة الأم .
ولتلخيص ما يذهب إليه براون يقول صوت رواية لسبكتر " قبًَََََََلها ببطء حتى انفصلا أخيرا وبقيا هناك على ذات الحال يرمقان أحدهما الآخر بنظرات دونما خجل. فقد عرف كلاهما بأنهما قد تماديا ، وكانا لا يزالان خائفين من الاستسلام لبعضهما تماما ( تحت التجربة 109 ).
يعد ( لوري ) و ( عوليس ) في ممارستهما اللفظية والجسدية للحب الحياة للرابطة القديمة بين الفعل والكلمة وبين الدال والمدلول وأن هذه الصفة هي التي تعطي قصتهما حسها بالتفاؤل فيما يتعلق بالحالة الإنسانية. إنها قصة حب جادة وفلسفية بكل ما للكلمة من معنى. تبين هذه الرواية بأن الحب ــ غير الأناني ـــ قادر على قهر الصمت والعزلة اللذين يعقبان الوجود الإنساني .
يظهر الحب ــ وهو من أكثر اهتمامات لسبكتر الثيمية الأساسية ــ في كل مكان من عملها القصصي ، ويظهر حيث يلعب دورا متباينا ولكنه حاسم وعلى نحو بارز في أعمال مثل ( القرب من القلب المتوحش ، 1944) Close to the Savage Heart ؛ " حب " و " الجاموس البري " ؛ روابط عائلية Family Ties ؛ " مصائب صوفيا " ( الفيلق الأجنبي ، 1964 ) : The Foreign Legion ؛ " أفضل من الحرق " " الجسد " ، الآنسة آل كريف " ؛ ( زمن النجم ، 1977 ) و ( نفس حياة ، 1978 ) .
لم يلق الحب في أي مكان باستثناء ( كتاب المسرات أو تحت التجربة ) تمثيلا ايجابيا ، وهذه رواية توحي بأنه وعلى الرغم من أن فشل اللغة هو مشكلة إنسانية كبرى ، فقد لا تكون مشكلة صعبة الاقتفاء للغاية .
لا يكتمل النقاش عن خطاب الصمت عند لسبكتر ما لم يتم التعليق عن روايتها الغنائية ( الماء الحي ) Agua Viva التي صدرت عام 1973 والتي تعبر عن مفهوم الظاهراتية لما بعد الحداثة ووعيها الذاتي للنص والتفاعل الساخر بين الواقع واللغة في خلق جو من الصمت لشخوصها . فضلا عن ذلك وبطريقة تربطها بكتابات ( حسن ) و براون النقدية ، فأن رواية ( الماء الحي ) تشير ضمنا إلى أن الحب ــ الحب المؤكد للذات ـــ قادر على أن يكون قوة إنقاذية ومخلصة في الأمور الإنسانية.
وبتطوير هذه النقطة الأساسية أكثر وبعد ربطها بالطرق الأنثوية الفريدة التي يمكن فيها دخول أفضل شخوص لسبكتر إلى عالم الأشياء ، تعلق ( هيلين سيكو ) Helene Cixous في ( فليحيا البرتقال( Vivre l' orange التي صدرت عام 1979 بأن شخوص لسبكتر تستمد قوتها من حقيقة بنائها للأشياء وليس الطغيان عليها . هذا هو تماما ما يحدث في ( الماء الحي ) رواية لا يتأتى فيها نمو شخص ما من تحطيم الآخر . وعل الرغم من صراع الرواية في ( الماء الحر) في تحرير نفسها م علاقة ضيقة ومقيدة ، فأنها تبدو مهتمة ليس في إيذاء حبيبها الأول ولكن في مساعدته ليساعد نفسه . ومن خلال قراءتها بهذه الرؤية بوصفها سلسلة متعاقبة لـ ( كتاب المسرات أو تحت التجربة ) فأن رواية ( الماء الحي) تبين لنا بأنه على الرغم من أن الحب قد يقهر عزلة وجودنا فأنه ربما يخذلنا تاركا إيانا جرحى أكثر تيها في ظلام وصمت عزلتنا . إن الحب بالنسبة للسبكتر هو قوة كامنة ولكنه كأي قوة يمكن أن تستخدم بصورة بناءة أو هدامة ، أي بمعنى أنه يمكن استخدامه للتحرير والسجن في الوقت ذاته . وكما تبين لسبكتر في رواياتها وبصورة متكررة ( " الجاموس البري " مثلا ) ، فأنه لا يمكن التفريق بين قوة الحب في الأمور الإنسانية وبين الكراهية ؛ كلاهما يمكن أن يستخدم في الإيقاع والإخضاع ، وكلاهما يمكن أن يفضي إلى الصمت ذي السجن الذاتي المدمر الذي يتميز بالمرارة واللا اتصال .
إن رواية ( الماء الحي ) تقوم بتطوير كل هذه الثيمات الما بعد حداثوية بشكل ملفت للنظر جامعة إياها بطريقة تسبر أغوار هشاشة علاقة الحب وطبيعة علاقة الفن الأبستمولوجية بالحياة . وكما تقول راوية النص : " سأكتب الآن كما يقودني رأسي ... لن أقحم نفسي فيما يقوله رأسي ... أشعر وكأني أعرف بعض الحقائق ... التي كنت أتوقعها . ولكن لا تمتلك الحقائق كلمات . حقائق أم حقيقة ؟ ... من العسير التفوه بأشياء لا يمكن البوح بها . كيف يتسنى لأحد منا أن يترجم صمت مواجهاتنا الحقيقية ؟ . "
ومن ثم تشير إلى العلاقة المراوغة بين الكلمات والنص الذي تبتدعه والسيل أو التيار لوعيها حيث يعلن الصوت :
عندما تقرأني سوف تتساءل لا أقتصر على الرسم ومعارفي أني أكنت بعشوائية ودونما نظام .
الجواب الآن هو أني أشعر بحاجة للكلمات وأن ما أكتبه جديد بالنسبة لي لأن كلمتي الحقيقية
كانت وما تزال عذراء . الكلمة هي البعد الرابع ( الماء الحي ، 2 ) .
وبعد أن اتخذت الكاتبة من ( الماء الحي ) " قصة خيالية " ، فأن تلك القصة تأخذ شكل رسالة طويلة تقوم بسردها امرأة تشعر بضرورة قطع علاقة غرامية غير مرضية . يبلغ خطاب المرأة الذي يحافظ على تماسك النص والذي تقوم فيه باستخدام كلمات لتحرير نفسها مبلغ مونولوج داخلي متدفق تستكشف فيه قوة ومنى الحب وكفاءة اللغة ( مقابل فن الرسم ) بوصفها وسطا للاتصال ، ومدى العزلة التي تميز حياتنا . وبوصفها أتم رواية غنائية كتبتها لسبكتر ، فأنها تمثل الطريقة التي يسأل النص الما بعد حداثوي بوعي ذاتي عن إبداعه الخاص به وأتساع اللغة المساعدة في البحث عن المعرفة والوعي الذاتي . ومع طغيان الصور المتداخلة للولادة والظلام والصمت والماء ، فأن ( الماء الحي ) مع كل هذا ، لا تنحى منحى يائسا أو عدمي nihilistic . يقوم النص حقا ومن خلال قوة تأكيد الراوي على الذات بصنع عبارة ايجابية عن كيفية قدرتنا على فهم وتوجيه حياتنا :
ما يكون بعد ذلك . هو الآن .. الآن هو حكم الآن . وبينما يدوم الارتجال أولد أنا .
وبتلك الطريقة ، وبعد ظهيرة من السؤال عن ماهيتي أنا ، والاستيقاظ في الواحدة بعد
منتصف الليل ، لا أزال يائسا ــ بتلكم الطريقة استيقظت في الثالثة صباحا ووجدت
نفسي . مضيت إلى مواجهتي مع نفسي ، هادئة ، سعيدة ، رابطة الجأش . أنا وبكل
بساطة نفسي . وأنت أنت ، أنها مسألة كبيرة وسوف تدوم . أنا ما أكتبه لك هو هذا . لن
يتوقف ، سوف يستمر . أنظر ألي واهواني .. كلا بل أنظر إلى نفسك وأهواها . نعم هكذا
ما يجب أن يكون عليه الأمر . ما أكتبه لك سوف يستمر ، وأنا مسحورة
( الماء الحي ، 81 ــ82 ) .
ينبع صمت الرواية في ( الماء الحي ) من إدراكها بأنه على الرغم من حريتها فأنها لا تزال وحيدة في هذا العالم . " مسحورة " بجسامة تأكيدها الذاتي التحرري .أنها صامتة لأنها تتقبل وبشجاعة عزلتها التي فرضتها على نفسها بملء أرادتها وليس بسبب من عجزه وعدم قدرتها وفقدانها الشجاعة أو الإرادة لمواجهة حقيقة حالتها . أن صمتها الاجتماعي أو الخارجي قد تم التغلب عليه بشكل خاص نظرا لتمكن الرواية في نهاية المطاف وبفضل نزاهتها العاطفية وذكائها من أن تتصالح مع نفسها ، وأن تتصل مع أوجه وجودها السحيقة . إن الاستعمال الخاص للغة في التأسيس أولا ومن ثم المحافظة على شعور أصيل بالهوية الشخصية هو ما يربط صوت (الماء الحي) بما يفعله (عوليس ) و ( لوري ) و ( G.H ) في رواياتهم . إن صمت هؤلاء يكون تاما سواء كان ذلك بشكل خاص أو عام ، في حين يحاول شخوص آخرون مواجهة المشاكل المتشابكة للغة والوجود : تلك المشاكل التي تشكل المهاد الثيمي لأعمال لسبكتر .
وعلى حد وصف كتاب ونقاد أمثال ( ديموند فيدرمان ) ؛ ( رونالد سوكنك ) ؛ (جون بارث) ( أيهاب حسن ) ؛ ( جورج شتاينر) و ( سوزان زونتاغ ) ، فأن ما بعد الحداثة الأدبية تتطلع للصمت ، الى ذلك النمط من اللا تعبير واللا اتصال الذي يحصل بفقدان الكلمات تلك المعاني التي نتوقع أن تمتلكها وسط معمعة البلبلة اللفظية .
الهوامش
1. " العاطفة استنادا إلى C.L " . ( مقابلة ) ، (1979 ) . هنالك اثنان من أهم النقاد ممن تناول ذلك الموضوع الرئيس وهما Benedito و Nunes .
2. من أوائل النقاد الذين استخدموا ذلك المصطلح فيما يتعلق بقصص لسبكتر الخيالية هي Bella Jozef . ومع ذلك ، لم يتم تفسير ذلك المصطلح : ينظر :
Chronolgy : Clarice Lispector" , " ترجمة : اليزابيث لو ، العدد 24 ( 197 ) .
3 . أن القصة هي ظاهراتية من حيث التركيب وذات وعي ذاتي فيما يتعلق بتكوينها وصدقها
الأبستمولوجي . ينظر : Earl E.Fitz , Clarice Lispector ( Boston : G.K.Hall, 1985 )
4 . The Dismemberment of Orpheus , 2nd ed ( Madison U. of Wisconsin P. , 1982 )
5 . توطئة لـ The Apple in the Dark ترجمة Georgy Rabassa ( New York : Knopf , 1967 )
6 . Emir Rodriguez Monegal , The Borzol Anthology of Latin America
Literature , Vol.2 , 779
7 . Clerice Lispector , Family Ties
ترجمة : Richard Mazzara , ( Austin : U of Texas P. , 1986 )