الطَّردِيَّات
(في ديوان العرب)
أ.د/
جابر قميحةمن الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسَرَتْ مَسْرى الأمثال قولهُم: "العرب أمة شاعرة" وكذلك قولهم "الشعرُ ديوان العرب". ولا مبالغةَ في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.
**********
وهذه الحلقة من "ديوان العرب" نعيشها مع "الطَّرَدِيات" . والطردياتُ تعني القصائد، والمقطوعات التي نُظمتْ في "الطَّرَد". والطرد لغةً هو مزاولةُ الصيد للطير وحيوان البر. والطريدةُ هي حيوانُ الصيد يطارده الصائد كي يُوقع به.
وهذا اللون من الشعر يتحدثُ عن الخيل كوسيلة مثلى للخروج للصيد، كما يصفُ آلياتِ الصيد الصامتةَ من قسي ورماح، وبندق وفخاخ وشباكٍ وغيرها. ويصف على نطاق أوسع وسائلَ الصيدِ الصائتةَ من كلابٍ وفهودٍ وصقورِ وعقْابات.
كما يعرضُ هذا الشعر لوصف المصيد من حُمُرِ الوحش والغزلانِ والوعولِ، والحَبَارَى وغيرها. هذا طبعًا غيرُ وصفِ رحلةِ الصيدِ وما فيها من مُعاناةٍ ومقاساة، وما فيها كذلك من متعةٍ واستجمام.
ونلتقي بأصولِ لشعرٍ الطَّرَدِ في العصر الجاهليِّ عند امرئ القيس الذي يصف في معلقته خروجَه قبلَ شروقِ الشمس في رحلة من رحلات الطرد. فيقول:
وَقَدْ أغتَدِي والطيرُ في وكَنَاتها بمنجرد قيد الأوابدِ هيكلِ
مكر مفر مقبل مدبرٍ معًا كجلمودِ صخرٍ حَطَّهُ السيلُ من عَلِ
ويمضي الشاعرُ مفصلاً صفات حصانه، ثم يظهر قطيع من بقر الوحش يدركه الحصان، ويصيد منه الشاعر ما يصيد، ويأتي دورُ الاسترخاء للطبخ والطعام، على حد قول الشاعر:
فظل طهاةُ اللحمِ مِنْ بين منضج صفيفَ شواءٍ، أو قديرٍ مُعَجَّلِ
**********
وابتداءً من العصر الأموي كثر شعر الطَّرَد، واتسعت مجالاتُه، وكثر الشعراءُ الذي اشتهروا بطردياتهم، ومنهم: أبو النجم العجلي، والشمردل اليربوعي وأبو نواس، وعبد الصمد بن المعذل، وعبد الله بن محمد الأنباري الملقب بالناشئِ الأكبر، وأحمدُ بن زيادِ بن أبي كَرِيمة وعبدُ الله بن المعتز.
ونفتح ديوان العرب لنقدم قطوفًا من الطرديات، فمن إحدى طرديات الشاعر أبي النجم الِعجلي، يصف قوس الصياد وسهامَهِ بقوله:
في كفه اليسرى على ميسورها
كبداء قعساء على تأطرها
نبعية قد شد من توتيرها
هتافة تخفض من نذيرها
وفي اليد اليمنى لمستعيرها
شهباء تروي الريش من بعيرها
ويصف الشاعر أبو الشمردل صقرًا من صقور الصيد، وكان صقرًا تنوجيا نسبة إلى قرية تنوج ببلاد فارس فيقول:
قد أغتدى والليل في جلبابه بتوجي صاد في شبابه
فانقض كالجلمود إذ علا به كأنما بالحلق من خضابه
عصفرة الصباغ أو قضابه أو عترة المسك الذي يطلى به
وفي طرديات متعددة لأبي نواس نراه يصف كلاب الصيد وصفا دقيقًا مفصلاً، فهو يصف متونها أي ظهورها الطويلة التي تنساب انسياب الأفاعي، وبراثنها أي أظافرها التي تشبه الأمواس يقول أبو نواس:
لما تبدى الصبحُ من حجابه
كطلعة الأشمط من جلبابه
وانعدل الليلُ إلى مآبه
هجنا بكلب طالما هجنا به
كأن متنيه لدى انسلابه
متنا شجاع لج في انسيابه
كأنما الأظفور في قنابه
موسى صناع رد في نصابه
**********
ولا يترك أبو نواس جارحةً من جوارح كلب الصيد إلا وصفها، ولكنه يهتم اهتمامًا خاصًا بوصف سرعته، وفي الأبيات التالية نرى مصداق ذلك وهو يتحدث عن كلب اسمه "سِرْيَاح" :
ما البرقُ في ذِي عارضً لمَّاحِ
ولا انقضاض الكوكبِ المنصاحِ
ولا انبتاتُ الدلو بالمتاحِ
ولا انسيابُ الحوتِ بالمنداح
حينَ دَنَا من راحةِ السباح
أجد في السرعة من "سرياح"
ويقال إن المعتضد كان مشهورًا بصيده الأسود؛ لذلك مدحه أحد الشعراء ذاهبًا إلى أن صيده للأسود يحققُ هدفين: المتعةَ الذاتية، وتخليصَ الناسِ من شرِّ هذه الأسود الكاسرة. يقول الشاعر:
يا صائدَ الأُسْدِ إنَّ صيدكها لجامع خلتين من رَشدِ
فلذة تجتني ... ومنفعة للسالكين السبل والقعدِ
وأي شيء أجل منفعة من أسد قاسط إلى أسد؟
وأي لص أجل مرزأة من متلف الروح متلف الجسد؟
ويصفُ لنا الشاعر الناشئ الأكبرُ طريقةَ صيد الغزلان بالصقور، فيقول إن قطيعًا منها ظهر لنا، فرفع الصقرُ رأسه، فحللنا عَقْدَ سيوره، وأطلقناه، فاتجه نحو الأولى من القطيع، وحطّ على رأسها، وجعل يلطم وجهها بجناحيه، ويلفهما حول رأسها كما تلف النساء الخُمُر على الوجوه، وصَرَعها في لحظات. فلنستمع إلى ما قاله شعرًا:
فعن لنا من جانب السفح ربربٌ على سنن تستن فيه الجآذرُ
فجلى، وحلت عقدة السير فانتحى لأولها إذ أمكنته الأواخرُ
يحث جناحيه على حر وجهه كما فصلت فوق الخدودِ المعاجرُ
فما تم رجعُ الطرف حتى رأيتها مصرعة تهوي إليها الخناجرُ
ولم تخل بعض الطرديات من فكاهة وطرافة، فابن المعتز يرى أحدَهم يوجِّه بندقة، إلى طيور مائية، ولكنه لا يصيبُ منها طائرًا واحدًا، فوجه حديثه إلى هذا الصياد الخائب قائلاً:
يا ناصرَ اليأسَ عَلَى الرجاءِ رميتَ بالأرضِ إلى السماءِ
ولم تصبْ شيئًا سوَى الهواءِ هَنَّاكَ هذا الرمْى يا ابنَ الماءِ
ومن طرائف ديوان العرب ما أُخِذَ على أحد الأمراء من كثرة خروجه وصحبه إلى الصيد، فدافعَ عن نفسه بأنه وصحبته وأتباعه لا يخرجون للصيد هزلاً ومتعةً، ولكن لأنهم حققوا النصر على أعدائهم، وتوقفت الحروب، فاتخذوا من الصيد فرصة لمواصلة التدرب والمران يقول الأمير الشاعر:
ربما أغدوا إلى الصيد معي فتية هزلهم في الصيد جد
ألفوا الحرب فلما ظفروا فتحاموا أن يعاديهم أحد
واستقام الناسُ طرا لهم فغدوا ليس يرى فيهم أود
وجدوا في الصيد منها شبها فابتغوها في معاناة الطرد
وبهذه الأبيات نأتي إلى نهاية الحلقة وإلى أن نلتقي في حلقة أخرى من ديوان العرب نأمل أن يكون اللقاء على أمل وخير، وحق وحب.