محمود حسن إسماعيل
محمود حسن إسماعيل
(وقفة نقدية مع شعره وفلسطينياته )
أ.د/
جابر قميحةيعتبر الشاعر المصرى محمود حسن إسماعيل من أشعر شعراء العربية وأشهرهم، وأغزرهم إنتاجًا على مدى قرابة نصف قرن، ابتداء من الثلاثينيات. فمن دواوينه: أغانى الكوخ - هكذا أغنى - الملك - أين المفر - نار وأصفاد - قاب قوسين - لابد - التائهون - صلاة ورفض - هدير البرزخ - صوت من الله - نهر الحقيقة - موسيقى من السر - رياح المغيب. وقد جمعت هذه الدواوين بعد موته فى أربعة مجلدات كبيرة.
وشعره ينطق بالعمق، والاستغراقات الصوفية البعيدة الحادة، والقدرة العجيبة على تركيب غرائب الصور، وتوليد الخيال فى طرافة لم أجد لها مثيلاً فى العربية - فى حدود ما قرأت - وبسبب هذا التفرد فى أفكاره وخيالاته وتهويماته يحتاج شعره - حتى يتمكن المتلقى من فهمه ومعايشته - إلى أكثر من قراءة، زيادة طبعًا على ذائقة متمكنة رفيعة.
وعناوين دواوين الشاعر تعكس إشعاعات من الخيال الوحشى الغريب، والإشارات الصوفية، كالذى نراه فى عناوين قصائده مثل: أحزان الغروب - ثورة الضفادع - الناى الأخضر - لهيب الحرمان - سجينة القصر - أدمع ومآتم - أغانى الرق - عبيد الرياح - جلاد الظلال - حصاد القمر - عاشقة العنكبوت - هدير البرزخ - موسيقى من الإصرار - خيمة البهتان - الأذان الذبيح - لحن من النار - رفض الهزيمة - جبال الصمود.
* * *
وثمة ظاهرة فنية موضوعية تكاد تكون مطردة فى إبداع محمود حسن إسماعيل، وهى تصدير قصائده بقطع رفيعة من النثر، ونكتفى بمثالين فى هذا المقام: الأول تصديره لقصيدة «ظلام» ونصه:
مع الأرض فى ظلمها وظلامها قبل انبثاق النور الأعظم.
ومع أول شعاع تبلجت به سماء العرب
وأشرقت به حقيقة الإنسان
مس جبينه الخاشع للحجر فارتفع لله
وظهره المقوس للطغيان.. فسواه للكرامة
وبصره الضارع للظلم.. فأعلاه للحق
وقيده الصاغر للبطش
فأحاله أجراس حرية..
(من ديوان: نار وأصفاد)
.....................
ويقول فى تصدير قصيدته (المسجد الصابر):
وداست بغايا التائهين فى مصلى الأنبياء
ومرقى عروج محمد إلى السماء
وعاثوا بفجورهم فى ترابه المقدَّس
وتهتكت عراياهم على أعتابه
وهو صابر كظيم...
(فى ذكرى ليلة الإسراء 1388هـ - 1968م، من ديوان: صلاة ورفض).
.....................
وقد يكثف الشاعر التصدير فى سطر أو سطرين كما نرى فى تصديره لقصيدة «الأذان الذبيح»:
«إلى أذان المسجد الأقصى، وهو يهدر من وراء السكون والأغلال».
وفى تصديره لقصيدة «غضبة الثأر»:
«مع كل قطرة من دم كل شهيد عربى... وهى تتوهج لصرخة الفداء وغضبة الثأر».
* * *
وهى ظاهرة فنية موضوعية - كما ألمحت آنفًا - وتحتاج إلى دراسة أكاديمية متأنية، وعلى هذه الشاكلة الشاعر السورى الإسلامى «عمر بهاء الدين الأميرى» الذى يلقب بشاعر الإنسانية المؤمنة. وإن تفوق هو على محمود حسن إسماعيل فى هذه الظاهرة كمًا وكيفًا. مما لا يتسع المقام لشرحه. ومن أهم ما تتسم به هذه الظاهرة عند محمود حسن إسماعيل (ظاهرة تصديره قصائده بقطع من النثر) ما يأتى:
1 - أنها تختلف اختلافًا جوهريًا عن التصديرات التى نجدها عند الآخرين، وهى التصديرات التى لا تتعدى ذكر تاريخ إبداع القصيدة، ومناسبة نظمها. فتصديرات شاعرنا تمثل مدخلاً نفسيًا يكثف جو القصيدة ويقود إليها، وكأنها صدمة كهربية تفتح مشاعره وعقله للآتى.
2 - أن الذاتى منها يبين فى تقطير مكثف يُلمع ويطرح لواعج النفس، ودفقات الوجدان ألمًا وأملاً، وبعض هذه القطع النثرية لا ينقصها إلا الوزن والقافية لتكون شعرًا، وخصوصًا أنها معنويًا ونفسيًا - ترتبط بالعطاء الشعرى ارتباطًا عضويًا. كما نرى فى تصديره لقصيدة «إلى سجينة القصر» من ديوان (هكذا أغنى).
3 - كثيرًا ما يغوص محمود إسماعيل فى صوفية عميقة ذات تهويمات مبهمة قد تعجز القارئ عن متابعته، فلا يملك إلا أن يتوقف عند العتبات. كما نرى فى نثريته التى صدّر بها قصيدته «نشيد الأغلال» من ديوان (أين المفر؟).
وقد يساعد على اطراد هذا الإبهام غرام الشاعر بالخيال المُغرِب، الموغل فى الإغراب، مع توليد صور من صورة، وخلق تركيبة قد تنغلق عن القارئ إلا ببذل جهود ومعاناة قاسية. فهو يصدّر قصيدة «العزلة» بقوله:
وأخْنت على روحه الوحدة...
فنورت له ضبابها
روضة من مقابر الأحلام
(من ديوان: أين المفر؟).
4 - وكثير من تصديرات الشاعر يأخذ صورة توجيهية، أو إهدائية - إن صح هذا التعبير - فهو يستهلها بحرف الجر إلى:
- إلى التى حملت لى الأسلاكُ شدوَها...
........
- إلى سدرة النضال العربى المنيع...
........
- إلى الذين دميت جباهم من السجود...
........
5 - وأحيانًا يستهل الشاعر تصديراته بالمعية، أى الاسم (مع)، مما يوحى بشدة اندماجية الشاعر بموضوعه، وإحساسه به، ومعايشته له:
- مع الأرض الجريحة وهى تتلوى...
........
- مع ناى الربيع، وهى تصغى لنداء الذكرى...
........
- مع إصغاء الشاعر لسحر الطبيعة وجمالها...
ـ ـ ـ
ونأمل أن نكون قد فتحنا الباب للدارسين لمعالجة هذه الظاهرة... ظاهرة تصدير شاعرنا لقصائده بتصديرات نثرية. وثمة ظاهرة لغوية أخرى تنتظر قلم دارس متعمق متأنٍّ، وهى ظاهرة إكثار الشاعر من صيغة «المثنى» فى شعره: الحرمين - مجدافين - شاطئين - ضفتين - وردتين - أذانين - علامتين - مصيرين - روحين - جنتين - سيفين... إلخ.
* * *
ونخلص من كل أولئك إلى ما هو أهم، وأعنى به «فلسطينيات» الشاعر، وهى القصائد التى اقتطفناها من عدد من دواوينه، متناولة بأداء رفيع: فلسطين، وقضيتها، ومتعلقاتها، وما دار على ساحتها من أحداث، ونكبات، وجهاد وإصرار، مع اعتبار خاص للمسجد الأقصى: أول القبلتين وثانى الحرمين.
والقصائد التى أبدعها الشاعر فى هذا المجال تقطع بأنه عاش محبًا عاشقًا صادق الولاء لهذه القضية الإنسانية الإسلامية فى المقام الأول، ثم العربية بعد ذلك، فهى قضية وجود لا حدود، وقضية دين لا قضية طين، وقضية عِرض قبل أن تكون قضية أرض. وقيمة الأرض فى هذا المقام لا ترجع لذاتها المادية، ولكن ترجع إلى ما «حملت» من تراث خالد، ومعطيات دينية ربانية، ووقائع وذكريات تاريخية، وإلا تساوت قيمة الأراضى، وانعدمت الفروق بين الأوطان، وصحّ استبدال أرض بأرض، ووطن بوطن.
وعلى هذه الركائز الدينية قامت «إسرائيل» «أرض الميعاد» كما يسمونها. والتاريخ ينقل لنا أن القوى الاستعمارية والصليبية عرضت على زعماء الصهيونية إنشاء وطن قومى لهم فى إحدى مناطق أفريقيا، فرفضوا رفضًا قاطعًا، وبدءوا فى تنفيذ خطوات المؤامرة حتى أقاموا دولتهم العدوانية فى فلسطين.
فإيماننا «بإسلامية القضية الفلسطينية» ليس منزعًا سياسيًا أو دينيًا عابرًا، ولكنه متلاحم مرتبط ارتباطًا عضويًا متجذرًا بديننا، وفى عقيدتنا. وهو لا ينفى طبعًا ملمح «العروبية»، بل يعضدها ويقويها. على أن المسلم العربى، كالمسلم من أية جنسية، عليه واجب تخليص الوطن السليب، والحفاظ عليه، وإن كانت مسئولية العربى أكبر، وذلك بصفة الجوار أو الملاصقة أو المعايشة من جهة، ولأنه أكثر من مسلمى الأوطان الأخرى تعرضًا لشدائد العدوان الصهيونى، وما يترتب عليها من خسائر مادية. فالفرق إذن فرق درجى - أى فى الدرجة - وليس فرقًا نوعيًا، أو كيفيًا.
ومن يقرأ ما بين أيدينا من فلسطينيات الشاعر سيرى بسهولة إيمان الشاعر بإسلامية القضية. يقطع بذلك مضامين هذه القصائد. ويقطع بذلك «معجمه اللغوى» الذى يتدفق بالألفاظ الدينية والقرآنية مثل:
محمد - المسيح - موسى - أرض النبوات - مهد الشرائع - المرسلين - آية الله - جبريل - الصُّور - المعجزات - الشهداء - ثانى الحرمين - مئذنة - مآذن - محاريب - محراب - الأذان - النور - الصلاة - الترتيل - سمّ الخياط... إلخ.
وبحاسة دينية مرهفة يسبح الشاعر بصوره فى العبق الإسلامى، ففى أول ذكرى للإسراء والمعراج بعد أن دنس الصهاينة الأرض المقدسة يتحدث الشاعر عن هذه الليلة، فيقول فى أبيات من قصيدته (تكبيرة الزحف):
سمعتُ بها غضبَ الأنبياءِ
مزامير ويلٍ عتيٍّ صداهْ
وأبصرْتُ ألواحهم فى الفضاءِ
محاريب تصرخ فيها الصلاة
وتسبيحهُ من ضفاف السماءِ
يصب على الأرض سُخْطَ الإلهْ
ونرى شاعرنا الكبير ينظم مضمون المعروض القرآنى - فى تصوير ابتكارى رائع - عن عقاب الله لليهود بالتيه لما خالفوا عن أمر ربهم وعبدوا العجل، وحرفوا كتابهم، واتبعوا أهواءهم. ففى أبيات من قصيدته (من خطايا التائهين) يقول:
سبحان من فرقهم شعابا
وقدر التّيهَ لهم عقابا
ويل لهم قد عبدوا الترابا
وألّهوا من الحصى أرْبابا
وقدسوا من زيفهِ كتابا
وبعثروا صلاتهم أسرابا
فى كل أرض تنشد المحرابا
وترصدُ الدينارَ أين غابا
ومن ملامح الشاعر التصويرية المطردة: التشخيص وتجسيد المعنويات، والربط بين المعنوى المغيب والحسى المشهود، فمن قصيدته «اللاجئون»:
وينفخ الصور من بوق يُصب به
هولُ العذاب فلا يُبقى ولا يَذَرُ
لعله يقظة الأحرار أرسلها
أذان بعث به قد واعد القدرُ
لعله الصيحةُ الكبرى تدق على
باب الجهاد ليوم أمره عَسِرُ
وفى أعطاف كل أولئك وجدان حيّ متدفق يعيش مع هذا العطاء العظيم، بل يعيش فيه... بل يعيشه.
رحم الله شاعر العربية العظيم.