"كما ينبغي لنهر": رواية لمنهل السراج.

"كما ينبغي لنهر": رواية لمنهل السراج.

منعوها في سورية فنالت جائزة في الشارقة

نبيل سليمان

يحدث أن يوافيك صديق أو صديقة بمخطوطة مستأنساً برأيك. وحين لا تكون ثمة صلة تربطك بصاحب المخطوط أو المخطوطة، تتضاعف المسؤولية. ويحدث أن يكون تواتر ذلك نقمة حين تتكاثر المخطوطات، وتغلظ فيها فجاجة البدايات، ويكون عليك أن تتقّنع بقناع الناصح والخبير، وأنت لا تزال من يحاول أن يتعلم الكتابة منذ عشرات السنين. لكن النقمة تصير نعمة حين تصادفك مخطوطة تجعلك ترقص وتهلل، ويصعب عليك أن تصدق أنها الرواية الأولى لصاحبها أو لصاحبتها.

لقد كانت لي واحدة من تلك النعم النادرة، حين أقرأتني منهل السراج مخطوطة روايتها (كما ينبغي لنهر). وإذا كان رفض الرقابة السورية لطباعتها قد فلقني، فهو لم يفاجأني، كما لم يفاجئني أن الرواية قد فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2002، وهي الجائزة الموقوفة على العمل الأول. وبما أن الجهة المنظمة للجائزة (دائرة الإعلام والثقافة في الشارقة) تصدر الأعمال الفائزة، فقد انقلبت نقمة الرقابة إلى نعمة، وكانت لنا رواية (كما ينبغي لنهر).

"كما ينبغي لنهر" تركز همّها في ذلك المفصل التاريخي الحاسم، في ذلك الصراع الذي تفجر بين السلطة ومعارضتها الإسلامية المسلحة، عبر ما ترسم من حياة شخصيتها المحورية فطمة، ابتداءً بإيقاع اليوم العظيم.

هو ذا يوم كأنما هو يوم الحشر، ترى فيه فطمة المآذن مزرقّة من شدة البرد، وأصوات الداعين للجهاد تتعالى داعية إلى إخراج أبي شامة ورجاله من الحارة، فيخرج الصبيان والشبان تنفيذاً لوصية العم الهارب نذير، وابتغاء وسيلته إلى الجزاء المرتجى "فالمبطون والمطعون وصاحب الهرم والشهيد في الجنة". 

يسلم الشبان هوياتهم لأمهاتهم كيلا يورطوا غيرهم، فهم موقنون بالقتل. ويقتحم رجال أبو شامة الأماكن الغامضة المخيفة، ويغيبون في المتاهات بعدما قطعوا الجسر ودخلوا حارة فطمة على الضفة الثانية للنهر، فيغضب أبو شامة غضباً شديداً ويأمر بتدمير الحارة من الأرض ومن الجو. ويندفع رجاله من حارة القصب إلى حارة الحور وحارة الصفصاف وحارة القلعة وحارة اللاجئين، يهدمون واجهات البيوت ومئذنة جامع أبي رحمون ويقتلون معظم الرجال. 

إنه اليوم العظيم الذي تتعلق به رواية منهل السراج الأولى (كما ينبغي لنهر) والتي منعت الرقابة السورية طباعتها، فتقدمت بها صاحبتها إلى جائزة الشارقة للإبداع العربي وفازت بها عام 2002، ثم أصدرتها دائرة الإعلام والثقافة في الشارقة. ولكن متى كان ذلك اليوم، وأين؟ 

تكتفي الرواية من تعيين فضائها في مدينة ما بحارتين يصل بينهما نهر، مع إشارة عارضة إلى مكتبة المركز الثقافي في المدينة. أما الزمن فتكتفي الرواية من تعيين بدايته بالإشارة إلى الاستعمار الفرنسي، ومن تعيين نهايته بالأنترنيت. وقد يكون للقراءة أن تعيّن الرواية في سورية بعون مما تحفظ فطمة من الأهزوجة التي كان يرددها الأطفال زمن طفولتها: "ديغول خبّرْ دولتك باريس مربط خيلنا". وبالتالي قد تعجّل القراءة إلى تشخيص التقية في لعبة الرواية بالزمان والمكان. لكن الأهم هو أن هذه اللعبة جعلت الرواية تنادي أية مدينة عربية خلال عمر فطمة، مما قبل الاستقلالات إلى الأمس القريب الذي عانق فيه العرب الأنترنيت. وبتجديد أكبر: المدينة التي دمّرها الصراع بين أي (نذير) إسلامي وأي (أبي شامة)، فخرجت بذلك الرواية من ريقة التقية، وعوضت خسارة التعيين بما هو أثمن، إذ بات شعاع الدلالة أشعة دلالات تتراقص في الفضاء العربي عبر عقوده (المجيدة) القليلة المنصرمة. وإلى ذلك خصصت الرواية (تعميمها)، سواء بوفرة من المفردات والتعابير العامية التي شرحتها في الهوامش، أو بوفرة من متناصات الأغاني الشعبية ـ وقد مضت لعبة التناص أيضاً إلى حي بن يقظان ـ وكذلك بالرهان الفني الأكبر للرواية: الوصف الذي لم تفته دقيقة من دقائق الحارة والبيوت والدكاكين والمقبرة والسجن وأشياء الحياة اليومية والطبيعة (النهر والنبات).. كما لم تفته دقيقة من دقائق الروح للجماعة وللأفراد، حيث غدا الوصف استبطاناً رهيفاً لدخائل البشر في الوقائع الكبرى والصغرى، وبخاصة: واقعة اليوم العظيم الذي استباح فيه رجال أبي شامة المدينة، في ذروة الصراع بين السلطة (أبو شامة) وبين التيار الإسلامي الذي يقوده العم نذير. 

بيوم من أيام فطمة في عهد الأنترنيت، افتتحت الرواية وبدأ نبش الماضي الذي يكنزه (الصندوق).  

تقلّب فطمة سبحة الجدة وهوية الأب ومفتاح قبو القبو وصورة لميا المجنونة و.. والأهم: الكيس الذي يحتوي صور العائلة وصور الحبيب الأول. ومنذ هذه البداية إلى ما سيلي من تقليب في الصندوق الذي دارت حوله ووقعت فيه أحداث عديدة وأخبار كثيرة، يصير الاسترجاع مفتاح قصص وحكايات شخصيات الرواية التي تكاد كثرتها توقع في التتويه. ففطمة مسكونة بالماضي على نحو جعل الرواية تنوء بالنوستالجيا وهي تحيي حجر وبشر الحارة المدمرة. ولن تفصل الرواية بين ما تسترجع وبين حاضر فطمة. بل يتوالى سرد الماضي في إهاب الحاضر بلا انقطاع من البداية إلى النهاية. وقد تتباطأ الرواية إلى أن تستوفي قصة أحدهم أو إحداهن. وقد تتشظى الأخبار أو القصص في أكثر من موقع، ويبلغ ذلك أحياناً حد التتويه. غير أن الشخصيات تروح تنبني كأنما بسرية أو بصمت الكتابة، مثلها مثل تاريخ المدينة الفاجع. ومن حين إلى حين ينظم هذا البناء إيقاع فإيقاع. ومن الإيقاعات ما يكون مكثفاً لدلالة أو أكثر، أو ما يبثّ دلالة أو أكثر. فالجرذ الذي ينغص على فطمة منذ البداية، سيتفاقم حضوره إلى أن يجعل فطمة تخاطبه: "والله الزمن زمنك"، وإلى أن يحتضن جهاز التحكم بالتيلفزيون ويخاطبها: "متى تعترفين بأهمية وجودي؟". إنه ما يقرض وجودها، وهو ما سيتعزز بالإيقاع الأكبر الأخير: إصابة فطمة بالسرطان. وإلى ذلك تأتي إيقاعات أصغر كأنما تتولى تنظيم السرد وحسب. فعلى إيقاع طبخة اليبرق ـ مثلاً ـ في البداية التي أطلقها الصندوق، تنتظم استعادة فطمة لنثار، عبر عشرات الصفحات، منه ما سيتركز وينجلي فيما بعد، ومنه ما يغطّي فوراً محطة من محطات فطمة والمدينة، كمحطة الحبيب الأول في المرحلة الثانوية، والذي تعتزم أمه ترك المدينة لأنها من أقارب أبي شامة. ولسوف توالي فطمة لقاء الحبيب امتحاناً لشجاعتها وتحدياً لعمها نذير، بينما الصراع يوشك أن يذرّ قرنه بين هذا العم وبين أبي شامة. ولقد مضى الحبيب إلى ألمانيا، ودعا فطمة إليه، إلا أن فطمة ـ بحسبانه ـ لم تجده قوياً كأصحاب الرسالات، فلم تلب نداءه. أما فطمة فسيقيم فيها هذا الحب، ولن تنسى ذلك الشاب الذي رأته آخر مرة يُدحرج على درج المشفى مضرجاً بالدم.

***

لكل يوم من حاضر فطمة قبل اكتشاف إصابتها بالسرطان وبعده، ما يضيق به اليوم من الماضي، وهي المشغولة حتى الثمالة بتاريخ وتأريخ أحداث الصراع، والتي أنشأها أبوها على كتب التاريخ. هكذا تنهمر الأطياف (الدراسة والبلوغ والأقران..) إذ تزور المقبرة أو تجري التحليلات الطبية أو تُعنى بلميا المجنونة أو تعد الطعام للمؤذن أو تلتقي فارس الرسام والنحات والعاشق الدائم لها... ومن بين ذلك تبرز بخاصة حديقة فطمة التي تتصدى للنباتات الطفيلية وللنمل وللجربوع كما تتصدى للجرذ، مرددة "زرعاتي مثل أيامي"، لكن أيام فطمة تدول كما الحديقة، ليأتي الموت أخيراً عليهما، بعد نخره الطويل منذ نشب الصراع في المدينة، فنشب السؤال: لماذا؟

ذات يوم علل الحبيب الأول الصراع بانتقام أبي شامة للتاريخ. وثمة من علله بقريبة لأبي شامة هي أم الصافي التي أحضرها الجد لتعنى بالعم العاجز. والعم العاجز الذي تزوج الغريبة فتح مدرسة ليهيئ الأولاد كما يريد العم نذير. والعم نذير ـ في تعليل آخر للصراع ـ اعتقد بالمذهب السائد وحمل كفنه على رأسه داعياً لكلمة الحق التي يعتقد. والعم نذير يعود حيناًَ للتراث ويستشهد حيناً بنظرية حديثة، ويجبر من يخالفه على التوبة. وللصراع إذن لبوسه الديني. ولكن ثمة من يرى أن كل ما تقدم أسباب سطحية للصراع، أو أسباب كاذبة، إذ "ربما تواطأ العم نذير مع أبي شامة، وهذا تفسير بعيد، أو ربما كان الأمر سوء تدبير من العم نذير، وهذا تفسير قريب".وهكذا يختلف القول في تعليل الصراع وفي تعليل هرب نذير. على أن الرواية تجلو أخيراً بعض هذا الغموض، عبر مشاهدة فطمة لنذير في التيلفزيون بأناقته الباريسية. وهو إذن قد أدار ظهره في منفاه للمدينة، وإن كان لا يزال يدعي النضال. و"سيختل التوازن إن عاد إلى البلد لسبب ما" كما تذهب فطمة في حوارها الطويل مع فارس، حيث تمضي الإشارة إلى المعارضة الإسلامية في الخارج، وإلى أن نذير وأبا شامة وجهان لعملة واحدة. وهنا قد تبرز مرة أخرى إشكالية الرواية بين التقية وبين التعميم الذي يجعلها تخاطب مصر أو تونس أو سورية أو الجزائر.. غير أن الأمر لا يبدو ذا بال، لأن وكد الرواية هو فيما كان من الصراع وفيما آل إليه، مجسداً في شخصية فطمة التي يوحّد فارس في مناجاته لها بينها وبين المدينة، ليجعلها رمزاً تنوشه الفجاجة والإنشائية، وهي في غنى عن ذلك بفضل بنائها كشخصية روائية لا تنسى. 

***

على أن هذا الامتياز ليس وقفاً على شخصية فطمة وحدها. فالرواية، باختيارها الشخصية الروائية حاملاً لما كان من الصراع وما آل إليه، أبدعت في تكوين كثيرين وكثيرات. فهذه لميا حين داهمها رجال أبي شامة فحملت صغيرها على كتفيها، واحتضنت وسادة بدل ابنتها، وحين اكتشفت على الجسر خديعة الوسادة، رمت الصغير بدلاً منها في النهر، ووجدت نفسها "بدون أعباء، بدون طفيلها، بدون زوجها، ثم بدون عقل" و"كان يا ما كان، كان هناك لميا عاقلة".

لا أحد يعرف من وشى بأبناء الحارة لرجال أبي شامة إلا لميا، لذلك يرتعد الواشون عندما يصادفونها: "ألن تحلّ عنا لميا الهبلة؟". ومن أولاء وحدها لميا تعرف من هو أبو كوفيه الملثم الذي رافق رجال أبي شامة ودلهم على بيوت المارقين وقبض أجره وهرب من انتقام محتمل. لقد عاد أبو كوفية إلى الحارة يحميه رجال أبو شامة. لكن من صاروا يتعاملون مع أولاء لم يتركوا له مطرحاً، بعد ما أمسك أبو شامة الضفتين من القرنين، وكتب كاتبه أنه يعاني من السأم بعد خراب الضفتين.

عن ذلك الخراب تروي فطمة بحث رجال أبي شامة عن عمامة نذير واغتصاب الفتيات وخروج الرجال حاملين الرايات البيضاء وإعدامهم على جدران البيوت والمقابر الجماعية واقتياد الأسرى كباراً وصغاراً يوم الجمعة الذي سيصير كابوساً.. لكأن فطمة تحدث من الجحيم، وسؤالها يوقّع للحديث: "أهذا دمي أم دم أعمامي؟". 

عبر حديث الجحيم تستعيد زواجها من أحد الفلسطينين الذين نزحوا إلى المدينة بعد النكبة. وتستعيد حملها وموت وليدها وطلاقها وموت أبيها ووراثتها لكتبه. ومن ذلك الذي كان إلى ما آلت إليه المدينة بعد سنين، ينشب بشر الرواية جماعات من الأموات والغائبين ـ المخطوفين الذين ليسوا بالأموات ولا بالأحياء، مثلما تنشب الفتيات اللواتي أحرقن علم بلادهن أسفل المنصة التي كنّ يحيينه منها ويرددن النشيد الوطني، فصار هتافهن: "يللاّ برّه أبو شامة".

من بين تلك الجماعات ينجو نزر منهن ومنهم فتقوم بهم وبهنّ الرواية: مطيعة التي اختطف ابنها الطالب في السنة السادسة طب، فأعدت للغائب قبراً تزوره كل خمسين ـ أم الحب الغريبة التي لا يعرف لها أصل ولا فصل، لكنها أم الكبار والصغار التي حبست نفسها عامين بعد غياب الغائبين ـ الحاج عمر الذي أورثه جحيم أبي شامة وسواس البعث: أنْ ليس يبعث حياً يوم الحشر ـ ليلى الجامعية كشقيقتها فطمة، والتي انصرفت إلى مجتمعها المخملي مقرعة شقيقتها: "عيشي فطمة، يعني أبو شامة داري فيك ولاّ شايفك؟". وها هو بخاصة أبو سليم الجربوع الذي أسس جمعية الحمير أو نقابة (حمار ولا عار) ونصّب نفسه على أنه أجحش الجميع، إن اضطر للخروج من مكتبه خلال الدوام كتب بخط جميل (الحمار في الجامع) أو (سأعود أنا الحمار بعد قليل)، بينما عمت الفرحة ببطاقات الحمير التي سيعدم من يضيّعها لأنه يبقى بدون إثبات شخصيته.

بمثل هذه السخرية المريرة ترسم الرواية ما آلت إليه المدينة بعد انتصار أبي شامة. فالأطفال الجدد حمير بالولادة، وأولى الكلمات التي يرددونها هي نشيد الشتيمة. وحين يبلغ واحدهم تهيأ له بطاقة الحمار. وقد بات شرط الانتساب ـ بعدما كبرت الجمعية ـ أن يثبت طالب الانتساب أنه قام بأعمال تؤكد أنه حمار. حتى النهر بات يرسل روائح غريبة، والاغتراب طبع كل حجر غادر مكانه، والجميع لاهٍ عن الجميع، وأهل الحارة باتت لهم فلسفتهم الخاصة، والكبار منهم يلقنون أبناءهم الحذق والقدرة على التملص من التهم التي يمكن أن يقعوا فيها بسبب قرابتهم لنذير.. إلى آخر ما تسلق به الرواية (الجماهير) التي صارت تصفق لأبي شامة بهستريا، عرفاناً بجميل صنائعه، وهو يصرف التعويضات على من يعترف بأن موت من ماتوا كان من وباء نذير، وأن الدفن لم يكن جماعياً على شكل تلال، وإنما كلٌّ في قبره ووجهه إلى القبلة. وإذا كان الأستاذ عاصم قد رفض التعويض فلقي جزاءه مثل كل من رفض، فالآخرون "لمّ كل أخ لحم أخيه، موّتتْ الأمهات أبناءهن وأزواجهن وإخوتهن، وقبضن التعويض الذي رمّمن فيه بعض الجدران (...) في حين ظل في الحارة الكثير من الأرامل اللواتي لم يعرفن إن كن أرامل أم زوجات رجال غائبين لى أجل غير مسمّى".

ربما كانت غاية ما كان أن تروي أم الحب أن فتيات ممن لم يتجاوزن الخمسة عشر عاماً قد ولدن أطفالاً لا يعرفون الآباء، جراء ما كان من اغتصاب رجال أبي شامة لهن. وربما كانت غاية المآل أن تبثّ إذاعة أبي شامة خبر زيارة ابنة أخية المدللة للمدارس وتوزيعها الورود على التلاميذ في الذكرى السنوية لعيد النصر. بل إن غاية ما كان كغاية المآل، لا تفتأ تتعدد لتورث فطمة الكوابيس وهي تذبل على طريق الموت. ولكن ليس قبل أن يعود شقيقها أحمد الذي اختطف صغيراً، فأعادت تسجيله حياً بعد ما كان مسجلاً ميتاً. ولن يلبث أن ينقلب عليها هذا الذي تضيف قصته في السجن فصلاً كابوسياً جديداً من فصول التعذيب. وهكذا يصدق تقدير فارس لخوف فطمة من عودة الغائبين: "سوف يفتحون الجروح وسيختلفون في طريقة رتقها، وأنت ستنزفين من جديد".

مع اقتراب النهاية تطلب فطمة من فارس أن ينحت شاهدة قبرها، وترى نفسها في كابوسٍ غانية، وفي كابوسٍ ترى حفلاً لجمعية الحمار، يطل عليه أبو شامة محييّاً برجله. ويسمح لأحد ما أن يدخل من باب جانبي صغير كأنه باب سري، فإذا بالعم نذير يقف في مجلس أبي شامة الذي يصافحه ويجلسه بجانبه "تحدثا بضع دقائق أمام الحضور الذي كان متشوقاً لمتابعة هذا اللقاء بعد كل هذا الغياب". والمعارضة الإسلامية المسلحة هي إذن صنو الطاغية، وأبو شامة ونذير وجهان لعملة واحدة. غير أن الرواية ترسل في وجه هذا الكابوس الختامي إشارة النقيض عبر شخصية لميس. 

لقد أعاد أبو شامة بناء الحارة، ومن ذلك كان مركز الخلية الذكية للاتصالات الذي تبصق عليه لميا المجنونة كلما قطعت الجسر كما تبصق على النهر الذي ابتلع ابنها يوم وقعت الواقعة، فجنّتْ المرأة.  وفطمة أيضاً تمقت المركز، لأن أبا شامة أقامه بعد فتكه بالحارة. لكن الشابة لميس غير معنية بأبي شامة، وهي تتردد على المركز لترى العالم وتلتقي أصدقاء من جنسيات مختلفة عبر الأنترنيت، كما سيفعل الراوي في رواية خليل صويلح (بريد عاجل) من بعد. ولميس تسأل خالتها فطمة: "لماذا تصرون على أننا جيل غير مسؤول؟ جربي مرة أن تضعي ثقتك بي". إنها  تريد أن تعرف كل شيء، والمركز وسيلتها. وإذ تموت فطمة، تكبر لميس بسرعة وهي تعبر كل صباح الجسر بين ضفتي النهر، تتابع ما يجري حولها. "وفي عينيها الواسعتين تتلامح كل وقت فطمة التي تستلقي بجانب قلعة المدينة، كما ينبغي لنهر..". وبذا تلتف العبارة الأخيرة لتصير عنوان الرواية، بينما تنشبح القراءة وتدمى في هذه الكتابة التي أبدعتها منهل السراج من أمسنا ومن يومنا، وربما من غدنا، والعياذ بالله. 

************************** 

فصل من رواية "كما ينبغي لنهر" 

ناموا جميعاً على حكاية تدور في أحلامهم، كانوا خائفين متوجسين، لم تكن الجدة تقص حكاية إلا و وقع حدث خطير في الأيام التالية، خصوصاً وأن أبا شامة سحب كل رجاله من الحارة في حركة غامضة ومفاجئة. كان انتشارهم في الحارة حتمياً معتاداً، وإن تسبب لأعمام فطمة بالركض عند سماع إطلاق الرصاص، حيث لم ينج من الركض لا الصغير ولا الكبير ولا الشيخ.

كانت فطمة نائمة بين الفرش المتلاصقة، عندما فُتح باب الغرفة في الثالثة ليلاً واقترب العم نذير من أذن الأخ الكبير هامساً أن الأسلحة مطمورة تحت شجرة النخيل في حديقة قبو القبو.

بعد ساعة واحدة أخذ العم نذير ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وضع على كتفي ابنه شالاً صوفياً وسحب زوجته مغادراً بهدوء.

رأت المآذن زرقاء من شدة البرد، أصوات الداعين للجهاد من أجل إخراج أبي شامة ورجاله من الحارة تنفيذاً لوصية نذير الهارب، كانت أصواتاً حارّة، أصوات أطفال رقيقة ضعيفة، تناثرت في كل البيوت، أيقظت النائمين المتآلفين مع صوت أبي رحمون، أيقظتها وأخذتها مثلما أخذتهم.

خلال ساعة اقتحم أبوشامة ورجاله الحارة. تدافعت فطمة مع النساء إلى النوافذ كالعادة، لمراقبة خروج الصبيان من بيوتهم صافقين الأبواب الحديدية، مندفعين بثياب النوم الخفيفة، وبالأخفاف المنزلية ملبين النداء، يحكّون أصابع أقدامهم ببعضها بتأثير " الشمطلص " *والقشب اللعين، فيما تسيل أنوفهم الحمراء ليختلط مخاطهم وعرقهم بقطرات المطر الخفيفة. كانوا يبغون الوسيلة، وسيلة العم نذير، إلى نيل الجزاء المرتجى " فالمبطون والمطعون وصاحب الهدم والشهيد في الجنة "، في الجنة حيث الأسرّة المتقابلة وصحاف الفضة والذهب ولباس السندس، الوجوه نضرة والفضلات تخرج من الأبدان بالتجشؤ كرشح المسك.

كانت أوجه النساء المحاطة بالأغطية البيضاء تبدو وهي ترمق الأبناء والأخوة من النوافذ، مثلثات متشابهة واضعات أطراف الأغطية على أفواههن خوفاً من هروب شهقة أوصرخة، مستلبات لقدر مجهول، مستسلمات لمصير سوف يساهم فيه أولاد لم يتجاوزوا العشرين.

تحمل كل منهن، بمن فيهن فطمة، هويات الشباب بصور وجوههم الفتية وأعمارهم القصيرة حيث تنبهَ الخارجون إلى ضرورة ترك هوياتهم في أيدي أمهاتهم كيلا يورطوا غيرهم فيما أقدموا عليه فقد كانوا متوقعين القتل.

عاد أبوشامة برجاله وأسلحته الحديثة، يلاحقونهم وهم يتراكضون من حارة إلى أخرى، حارة القصب، حارة الحور وحارة الصفصاف، محتمين بجدرانها الضيقة التي تعينهم على الهروب والاختباء.

كانت الأماكن غامضة ومخيفة لرجال أبي شامة. فحين قطعوا الجسر ودخلوا حارة الضفة الثانية، غابوا في متاهاتها، نوافذها وأسطحتها، شرفاتها المتداخلة واسطبلاتها التي تصل مياه النهر إلى حوافها، انحناءاتها وأسرارها العتيقة، كل هذا أغضب أباشامة غضباً شديداً فأمر بتدميرها من الأرض ومن الجو.

أما حارة فطمة، الضفة الأولى والجسر الصغير بينهما، بما فيه الطاحونة وحارسها وحارة اللاجئين، حارة القلعة، وحاملي سلاح نذير ببيجاماتهم الرقيقة، فقد اكتفى بقتل معظم رجالها وهدم واجهات بيوتها ومئذنة جامع أبي رحمون.

من لم ينل من الصبيان الذين خرجوا للقاء أبي شامة، الجزاء المرتجى من الجهاد، عاد ناقماً هارباً خائفاً. كان الحلم هو الجنة أو النصر والسيادة بمسح أبي شامة وأهله من الحارة. رددت أم الحب جملة لم ينسوها: هل يمكن لبيجاماتكم الرقيقة مواجهة بدلاتهم الثقيلة، وعمكم نذير ترككم وغادر بعيداً؟

صدقوها بعد أن حدث الذي حدث، لم يخرج كلُّ الصبيان، لكن من عاد منهم، عاد باكياً على موت أخيه أورفيقه. لجؤوا إلى أحضان أمهاتهم قانطين من رحمة السماء  التي أرسلت كل ما بوسعها من البرد كي يساهم مع الخوف في تيههم. قلق الصبيان لم يطل إذ سرعان ما جاء الملثم أبوالكوفية، الذي كان يرافق رجال أبي شامة، وأشار بإصبع حيادية باردة إلى أبواب من خرجوا، قبض أجره من رجال أبي شامة وولىّ هارباً من انتقام محتمل في يوم ما. إشارات إصبع الملثم، كانت سبباً لكوارث لا تنسى في الحارة، عشرة آلاف؟ لا، بين العشرة آلاف ضحية والأربعين ألف ضحية، مجال كبير والله أعلم.

لم يعتمد رجال أبي شامة على إصبع الملثم، بل تجاوزوها، إذ أن غضب رجال أبي شامة شمل الضفتين والجسر وجميع الشباب والرجال وبعض النساء والأطفال.

نجا منهم العم جميل النسونجي، عبد الحكيم كشاش الحمام، العم أبوسليم الجربوع، المختار، وبضع أسماء قد تكمل عدد أصابع اليدين، منهم أبو فطمة، فارس النحات الذي ستقابله فطمة في هروبها وهي تغسل قدميها مرتجفة من الخوف: أهذا دمي أم دم أعمامي؟ كان يحمل لوحاته المطعونة بحرابهم ويبكي، فتؤنبه: لماذا تبكي  اللوحات؟ إبك الأرواح. نجا العاص، صاحب أهم مكتبة في الحارة: "شومكتبة المركز الثقافي؟ " الحاج عمر الذي سيبدأ كابوسه: لن تبعث يا حاج عمر. الأستاذ عاصم الذي نجا لأنه صادف يوم حصته في مدرسة المدينة القريبة.

صبراً، فلميا بعد ساعات ستصبح لميا المجنونة، تماماً عند الفجر.

باق في تنكة المازوت ليتر أو أقل، موضوعة خلف باب بيتها عند ركن الخطر مع منقل الفحم ووابور الكاز وكل ما تتوقع منه أن يؤذي طفلتها الشقية " سحورة ".

كانت لميا نائمة بعيون نصف مغلقة، ثديها مع طفلها، دفن زوجها رأسه وتنهيدته بين كتفيها خلف ظهرها، طفلتها ابنة الثلاث سنوات نائمة نوماً عجيباً غريباً عند قدميها.

نامت، من تعبها، لميا اليقظة دائماً، كذلك فعل زوجها المريض. لكن الطرق الشديد جعله يقفز من شدة الخوف عن فراشه ليفتح الباب. ركلوا قامته النحيلة، داسوا أرض الدار الإسمنتية السوداء، خطوتان، وجدتهم بشعارهم المعروف" تالولة على صدر كل منهم". سحبت ملاءتها وشدّتها عليها وعلى ابنها المتشبث بثديها. غضبت من الرضيع فرمته فوق ظهرها، لكنه ظل متشبثاً بكتفيها اللتين تحولتا شرفة لمراقبة الغرباء. نخزوا بالحراب الثياب المعلقة، دفعوا بأحذيتهم القاسية خف الطفلة البلاستيكي الأحمر والمقصوصة مقدمته، رفعوا الوسادة التي تحمل رأس الطفلة وفتشوا تحتها،لم يجدوا شيئاً، تركوها، هوى رأس سحورة، لكنها لم تستيقظ. كانت عينا أنس ترقبان كل شيء من شرفته التي هي كتفي أمه المتنقلة، تصعد وتهبط وتلملم وتسوي ما يخربه المقتحمون في بيتها الصغير. في غفلة منها، بسرعة كالحقد، أمسك أحدهم تنكة المازوت المتبقي من خلف باب بيتها وسكبها على كل شيء. أما لميا المأخوذة فقد سحبت وسادة زواجها، بدل سحورة التي لم تستيقظ، رغم كل الصخب، من غفوتها المطمئنة عند قدمي أمها، ولن تسمح لأي سبب بسحب السكينة منها، لكنها تفحمت. أما لميا التي فوجئت في ركضها بحملها الوسادة على صدرها بدل الطفلة. الطفل الصامت "أنس" في يد والوسادة في اليد الأخرى، فقد وقفت على الجسر، وقررت أن ترمي الوسادة التي خدعتها، لكنها بدل أن تفعل ذلك رمت الطفل في النهر تحت القناطر.

هكذا وجدت لميا نفسها بدون أعباء، بدون طفليها، بدون زوجها، ثم بدون عقل.

"لميا، يا لميا، أتذكرين زوجك الفقير حارس إصطبلات الخيول لأغنياء الضفة الثانية، حين كان يوجد خيول، وطفليك، سحّورة بنت الثلاث سنوات وأنس ابن الثلاثة أشهر، أتذكرين أرض دارك الإسمنتية اللامعة المغسولة في عصرونية  الصيف، وبرميل الغسيل الذي كنت تغلين فيه خرق طفلك؟ "

لميا كانت كالنحلة، تقطع الجسر في اليوم الواحد عشرات المرات، تدفع أي باب بدون تكلّف، تضع خفها تحت أول شجرة، وملاءتها فوق أول غصن، تغسل يديها ووجهها ورقبتها، ترتب ما حولها وتلملم بيديها كل ما تجده في طريقها، تسقي الأحواض على عجل، تشوي الباذنجان، تقطف الملوخية، وتقلي البطاطا لعشاء الأطفال المدللين، تهرع إليها دجاجات البيت والأطفال، وإن لم تنتبه لميا إليها. تثرثر مع الجميع، ولا تكف، وإن لم تجد أحداً تثرثر معه، فسوف تغني. قد تجد أمامها صندوق فاكهة، تتناول واحدة تمسحها بثوبها، وتأكلها على تعبها مواصلة ثرثرتها، وعندما تصادف شيئاً مجهولاً، مسجلة حديثة أوآلة كهربائية فإنها تضحك ساخرة من جهلها معتذرة من كل من حولها. لا تسأل أحداً ماذا يحتاج؟ فهي تعرف ما يحتاجه الجميع، ولا أحد يعرف ما تحتاجه لميا، اللهم إلا حاجتها لتأمين حاجاتهم.

احترق البيت، ثم انهار مع بيوت الضفة الثانية، وغاب زوجها مع من غابوا، ورمت الوسادة المتبقية في حضنها. رأت حارس الطاحونة يتحول إلى قط ليلي ورأت حارتها والضفة الثانية كلها ركاماً.

دخلت الملجأ في الضفة الأولى بجانب باب النهر الكبير، هناك كانت النساء مكومات والأطفال صرعى. رأت بطن أم العز المقتولة، يتحرك. كانت على وشك الولادة.

جلست على الأرض ملتصقة برحم المرأة حامل الطفل العنيد، وضعت خدها على البطن ثم أذنها وكفها، كانت حرارتها رغم البرد الشديد والموت تجعل كل شيء يغلي. غنت للبطن المتحرك، نامت دقائق ثم استيقظت، أخذت غطاء صوفياً عن أحد الموتى المكومين حولها، وغطت البطن المتحرك، لكن الحمى شديدة، لا بد أن الطفل قد اختنق في بيته: رحم أمه. ظلت تغطي البطن في بردها وتكشفه في حرّها ثلاثة أيام. كان البطن قد كف تماماً عن الحركة، وكانت لميا قد جنت.

ـ كان يا ما كان، كان هناك لميا عاقلة، وثلاثة أطفال، لا، طفلان وزوج. كان زوجها كالحمَل يرتدي بنطالاً رقيقاً وعريضاً ينظف البيوت الجميلة ويطعم الخيول المتبقية. أطعمت لميا من يديها كل البيوت، كوسا بالبندورة وعرايس زعتر ومغمومة. كانت تحوش الخبيزة بيديها، وتغطي الطفل النائم، تحقن بحقنة الماء الطفل الذي يعاني من الإمساك وتدهن بطنه بالزيت. إن صادفت في سعيها على الجسر الأطفال يسبحون، فسوف تتناولهم، تجفف وجوههم وأعناقهم الرقيقة بطرف ثوبها وتمص الماء من آذانهم، تسوي غرتهم ثم تضربهم على مؤخراتهم مداعبة: "عالبيت" رأساً.

لم تكن تنظر في كفها إن أعطوها مالاً، بل تكتفي بتمتمات خجولة، ولم تكن تطيل الجلوس في بيتها إلا للنوم أومداعبة الحمل، زوجها، طفلها.

لميا المجنونة مازالت تروح وتجيء على الجسر بين الضفتين حاملة صرة، الله وحده يعلم ما بداخلها، تقطع الجسر إلى الضفة التي كانت مملوءة بالبيوت، وأصبحت فارغة إلا من بناء الخلية الذكية، تبصق على لافتة الخلية الذكية وعلى النهر، ثم تعود إلى مصطبة فطمة كي تسترد أنفاسها، تأكل من طعام القطة الموضوع لها أصلاً.

تخيف بجنونها اليوم أبا سليم الجربوع صاحب جمعية الحمار، تخيف المختار وبعض الناس الذين تعرفهم بغريزتها، لا أحد غيرها يعرفهم، منهم أبوالكوفية الذي عاد من سفره بعد  أن أمن حماية رجال أبي شامة له. يرتعدون عندما يصادفونها، يغيرون طريقهم ظانين أنها سترميهم في النهر، يتمتمون: لكل مصيبة نهاية، ألن تحل عنا لميا الهبلة؟ من قال لها أن تنقذ الوسادة بدل ابنتها، وترمي ابنها بدل الوسادة؟ لدينا أولاد نريد أن نربيهم.

ـ من يعمل مع رجال أبي شامة صار يمشي مزهواً يا لميا. لم يبق مطرح لأبي الكوفية أوالملثم بينهم، صاروا يتباهون برؤوس عارية ووجوه صريحة.

              

* احمرار يصيب أصابع القدمين في البرد الشديد يسبب الحكة، ينتج عن إهمال تجفيف القدمين، غالباً يصيب الأطفال