شرائح النثر بين شاعرين

عمر الأميري ومحمود حسن إسماعيل

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

  كان الشعر قديما هو "ديوان العرب" فيه سجل العرب تاريخهم وأيامهم ن ومفاخرهم ، وعاداتهم وتقاليدهم ، وآمالهم وآلامهم فى سلمهم ، وحربهم ، وفى منشطهم ومكرههم ، فى سرائهم وضرائهم ،ولولا الشعر لسقط من تاريخ العرب الكثير والكثير . لذلك كان ظهور شاعر فى القبيلة يعد حدثاً عظيماًجليلاً تحتفى به القبيلة ، وتعلو فيها أصوات السعادة والأفراح.

  وكان الشعراء القدامى ينشدون أشعارهم ارتباطا بالمناسبات المختلفة مدحاً، أو هجاء، أو فخراً ، أو وصفاً ، وكان الشاعر يرى فيما ينشد الكفاية والغَــَناء فى التلبس بالموقف ،والتعبير عن النفس ؛ لذلك لم يلجئوا إلى التقديم لشعرهم، والتمهيد لوصوله إلى المتلقى بتصديرات نثرية ، كما أن القصيدة الشعرية تمضي شعراً خالصاً لا يقطعها الشاعر بعبارات نثر ، كما لايختمها بكلمات من النثر.

  والذى نراه فى دواوين القدماء من أمثال المتنبى وأبى العلاء ، وابن زيدون من تصديرات نثرية لايتعدى – إن وجد – ذكر مناسبة نظم القصيدة ،أو الموقف الذى أنشدت فيه ، وذلك على سبيل الإشارة ، وأحياناًعلى سبيل الإلماع ، بأسطر لا تتعدى – فى كمها – عدد أصابع اليد الواحدة . وحتى هذه تكون من وضع النساخ بضمير الغائب ، لا لسان الشاعر مثل "ووقف بين يدى الأمير فلان يوم عيد ، فأنشأ يهنؤه بالعيد ..." ، "وبلغه نعى أمه ، وهو فى أسره ببلاد الروم ، فنظم القصيدة التالية ...".

*                *              *

  ولكن التاريخ الأدبى حفظ لنا أسماء أدباء ومفكرين جمعوا فى إبداعهم بين الشعر والنثر ، فيوصف الواحد منهم بأنه " كاتب شاعر" أو "شاعر كاتب" ، وقد يزاد على هذين الوصفين وصف ، أو أوصاف أخرى مثل "فقيه" أو "لغوي" أو "نحوي" ، مع ترتيب هذه الأوصاف ترتيباً تنازلياً يبدأ بالوصف الغالب الذى يشغل أوسع المساحات وأنضرها من إبداع الأديب .

  وفى هذا المدخل ، نعرض لبعض هؤلاء – بإيجاز – من زاوية واحدة هي: جمْع الواحد منهم بين الشعر والنثر في كتاب أو موضوع واحد. ومن هؤلاء الإمام الفقيه ابن حزم الأندلسي في كتابه المشهور "طوق الحمامة فى الألفة والألاف"، وفيه عالج بأسلوب أدبي قصصي تحليلي العواطف الإنسانية من حب ووفاء وتعفف وسلو ، وغيرها معتمداً على مشاهداته ومقروءاته ، وما نقل إليه من أخبار.

  وفى الكتاب نرى ابن حزم الكاتب الشاعر ؛ فكل باب من أبواب الكتاب الثلاثين يضم مابين الشعروالنثر بطريقة تبادلية .و الشعر فى الكتاب هوشعره ،ولا يستشهد بشعر لغيره. وحتى يتبين للقارئ منهجه نعرض – فى إيجاز – لباب من أبواب الكتاب هو "باب الطاعة" ([1]) يستهله ابن حزم بعدة أسطر تبدأ بقوله : " ومن عجيب مايقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه ، وصرفه طباعه قسراً إلى طباع من يحبه ، وترى المرء شرس الخلق ،صعب الشكيمة ... فما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب .. ويعوم فى بحره فتعود الشراسة لياناً ، والصعوبة سهولة ، والمضاء كلالة ، والحمية استسلاماً"

  وبعد هذا الاستهلال النثرى ينتقل مباشرة إلى عالم شعره بناء على ماذكره فى الاستهلال السابق:

وفى ذلك أقول قطعة منها :

فهل للوصال إلينــا معاد              وهل لتصاريف ذا الدهر حدْ

فقدأصبح السيف عبد القضيب          وأضحى الغزال الأسير أسد

  وبعدها يورد نماذج أخرىمن شعره. يتلوها نثر ثم شعر ، ويتكرر ذلك عدة مرات إلى نهاية الباب.

  ونلاحظ على هذا الكتاب مايأتى:

1-                  أن المستوى الفنى للنثر أرفع بكثير من المستوى الفنى للشعر.

2-      يحرص ابن حزم على إيراد شعره بعد كل فكرة أو موقف يعرضه، ولكن كثيراً من هذا الشعر تبدو الرابطة بينه وبين النثر المعروض ضعيفة ، أو مفتعلة.

3-                                      يختلف كم الشعر والنثر من باب إلى باب، ولكن مساحة النثر– بصفة عامة – أوسع وأوفى.

*                *              *

  والمقامات كذلك من أشهر الكتب التى تجمع بين النثر والشعر ، وإن كان النثر له المقام الأول فى هذه المقامات ، وأشهرها :" مقامات الحريرى" (446-510) ، وإن سبقه بمقاماته " بديع الزمان الهمذانى" (358-398). والمقامة تشبه قصة قصيرة تحكى على لسان راوية ، ولها بطلها الذى يتنكر خادعاً الآخرين من أجل الحصول على مال أو نفع مادى ، وغالباً ماينشد شعراً  آخر المقامة بعد كشفه شخصيته الحقيقية ، أو تمكن الراوية من كشفها ([2]) . وإذا كان النثر يغلب على الشعر فى المقامات ، فإن قليلاً من مقامات الحريرى يحتل فيها الشعر مساحة أوسع مما يحتله النثر ([3])

*                *              *

  ولكن النثر فى الكتب السابقة كان هو الأصل والأساس الذى بنى عليه الشعر، والعلاقة بين هذه الكتب والبحث الذى نقدمه لاتبدو إلا فى مجرد الجمع بين الجنسين الأدبيين: النثر والشعر ، ومن ثم لاتصلح هذه الكتب مؤثراً ، أو معيناً للذين صّدروا شعرهم أو خللوه بشرائح نثرية ، لأن الشعر – فى هذا لمقام – هو الأصل والمَعين والأساس.

*                *              *

  وفى هذه الصفحات نقدم هذه الدراسة لموضوع بكر أعتقد أن أحدا لم يتناوله بالبحث من قبل وهو "شرائح النثر فى شعر عمر بهاء الدين الأميرى" . وقد حاولت هذه الدراسة أن تبرز مابين النثر والشعر من صلة ، وطبيعة نثر الأميرى بصفة عامة ، وخصوصاً نثره المستقل الذى لا مكان له فى الشعر . وإلى أى حد يلتقى مع مصطفى صادق الرافعى فى الوجهة الفكرية ، والطابع الفنى العام

  ثم عرضنا لشرائح النثر فى شعر الأميرى : مفهومها ، ومكانها ، وأنواعها ، ومابينها من تفاوت واختلاف ،ومدى الارتباط الفنى والفكرى والشعورى بين هذه الشرائح ، وما عرضت معه من شعر. وأهم الملامح والسمات الفنية لهذه الشرائح. وذيلنا هذه الصفحات برأينا فى توظيف هذه الشرائح مع الشعر ، سواء أكانت تصديراً أم تخليلاً أم ختاماً.

واكتشفنا فى مسيرتنا مع أدب الأميرى أن هذا النثر ولّد – من حيث لا يقصد الأميرى – مايمكن أن نسميه "النثيرة العمرية"، وقد أبنا عن أنواعها ، وملامحها . كما حددنا الملامح الفارقة بنيها وبين لونين آخرين هما الشعر المنثور ،وما يسمى وقصيدة النثر .وخلصت بحيثيات – آمل أن تكون موفقة – أنها لا يمكن أن تنتسب لواحد من هذين اللونين.

  وأخيراً قدمنا موازنة – آمل أن تكون عادلة – بين الأميرى ومحمود حسن إسماعيل الذى عرف بتصديراته النثرية لقصائده ، فى حدود توظيف النثر لحساب الشعر.

*                *              *

  هذا ، وقد سبق لى أن كتبت عدة دراسات نشرت فى مجلات عربية عن " نجيب الكيلانى الشاعر" وقدمت دراسة نوقشت فى مؤتمر الأدب الإسلامى فى خدمة الدعوة " الذى عقد فى القاهرة ( من 24 الى 26 من يونية 1999) عنوانه :  " شعر انجيب الكيلانى بين مقتضيات الرسالة وآفاق التطور ". كما أضع اللمسات الأخيرة فى كتاب بعنوان " نجيب الكيلانى الشاعر والشاعرية " وآمل أن أكون بما قدمت عن نجيب الكيلانى ، ما أنا بصدد تقديمه ، قد غطيت وأغطى جانباً مهماً جداً من جوانب نجيب الكيلانى لم يهتم به أحد وأعنى به شخصية الكيلانى الشعرية وشعره ، وما وجهنى هذه الوجهة إلا ما رأيته من انصراف الدارسين إلى الانشغال بنجيب الكيلانى الروائى القصاص.

  وكذلك ماوجهنى هذه الوجهة إلى دراسة الشرائح النثرية للأميرى إلا ما رأيته من توجه كل الدارسين – فى الأطروحات الجامعية بخاصة – إلى "عمر بهاء الدين الأميرى الشاعر" ولعل ماقدمته وأقدمه عن الكيلانى والأميرى من دراسة الجانب "المهمل" فى فن كل منهما يكون حافزاً للباحثين فى الأدب الإسلامى إلى معالجة الموضوعات التى لم تنل من الاهتمام ما تستحقه لخفائها، أو لتراجعها أمام موضوعات أشد منها توهجاً وظهوراً ، أو لسهولة مأخذها.

وأدعو اله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت فيما قدمت ، إنه نعم المولى ونعم النصير ،،

     (1)

الأمـيرى وشعريـة النـثر

  قد تبدو محاولة التفريق بين الشعر والنثر لوناً من العبث وإهدار الوقت بدعوى أن الفرق معروف ومشهور ؛ فالشعر هو "الكلام المقفى الموزون على سبيل القصد، والقيد الأخير يخرج نحو قوله تعالى :" الذى أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك " – فإنه كلام مقفى موزون، ولكن ليس بشعر ؛ لأن الإتيان به موزوناً ليس على سبيل القصد" ([4]) .  ومن ثم يكون النثر هو : الأداء التعبيرى الذى لا وزن فيه ولا قافية.

  ويبدو هذا التحديد فى ظاهره – واضحاً ، والتقسيم حاسماً ، ولكننا – كما يقول الدكتور حسين نصار  - " لا نجدها على مانظن من وضوح وحسم ؛ فقد جار النثر القديم على الشعر ، فسلبه قافيته ، وسماها سجعاً ، والتزم بها كالشعر عصوراً طويلة ، غير أنه نوع فيها ، ولم يوحدها فى العمل الأدبى الواحد ، كما تفعل القصيدة . ([5])

  وتدخل مسألة التفريق حيز الصعوبة إذا سلمنا بأن الوزن والقافية – وهما عنصر أساسى فى الشعر – لا يعدان كل شئ فيه . وفى هذا المجال يتحدث " حازم القرطاجنى" – ت 684هـ - عن ذلك الحريص على أن يكون من أهل الأدب ... وظن أنه قد سامى الفحول ، وشاركهم – رعونة منه وجهلاً – من حيث ظن أن كل كلام مقفى شعر. وإن مثله فى ذلك مثل أعمى أنس قوماً يلقطون دراً فى موضع تشبه حصباؤه الدر في المقدار والهيئة والملمس ، فوقع فى يده بعض ما يلقطون من ذلك ، فأدرك هيئته ومقداره وملمسه بحاسة لمسه ، فجعل يعني نفسه فى لقط الحصباء على أنها در ، ولم يدر أن ميزة الجوهر وشرفه إنما هو بصفة أخرى غير التى أدرك ... فالمعتبر عنده إجراء الكلام على الوزن، والنفاذ به إلى قافية ، فلا يزيد بما وضعه من ذلك على أن يبدى عن عواره ،ويعرب عن قبيح مذاهبه فى الكلام ،وسوء اختياره  ([6]) .

  فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة عن نظم الشعر بالعروض التى هى ميزانه.ومن اضطرب عليه الذوق لم يستغن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذى لاتكلف معه . ([7])

   ويفصل ابن طباطبا بعد ذلك القول فى الآليات التى يعتد بها الأديب ليكون شاعراً ، ومايجب أن يكون عليه الكلام حتى يكون شعراً ([8])

  وهو ما ألح عليه المرزوقي ، وبسط القول فيه كملامح فارقة للشعر ، وهو ماسماه " عمود الشعر ،وقد حصر هذه الملامح فى سبعة هي":

1-   شرف المعنى وصحته.

2-   جزالة اللفظ واستقامته.

3-   الإصابة في الوصف.

4-   المقاربة في التشبيه.

5-   التحام أجزاء النظم ، والتئامها على تخير من لذيذ الوزن.

6-   مناسبة المستعار منه للمستعار له.

7-   مشاكلة اللفظ للمعنى ، وشدة اقتضاؤهما للقافية حتى لا منافرة بينهما . ([9])

فهذه الخصال هي عمود الشعر عند العرب ، فمن لزمها بحقها ، وبنى شعره عليها فهو المفلق المعظم ، والمحسن المقدم ، ومن لم يجمعها كلها فبقدر مهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان([10]).

أى أن الشعر فى صورته المثلى هو الذى استوفى هذه الخصال السبعة ، وتخليه عن بعضها يقرب الشعر من روح النثر بقدر مساحة هذا التخلي ، كما أن النثر يقترب من روح الشعر بقدر مايتصف به من هذه الخصال. ([11]) وقد أكد حازم القرطاجنى هذا الحكم في عرضه لمعالم الشعرية ([12]) . وقد يتحمس كثير من النقاد وخصوصاً الغربيين – لهذه المقولة ، حتى ذهبوا إلى القول بأنه أصبح من الصعب جداً العثور على تميز موضوعي مقنع بين الشعر والنثر([13]).

ويقدم ابن طباطبا دليلاً عملياً على تميع الفواصل بين الشعر والنثر ، فيذهب إلى أن " من الأشعار أشعارا محكمة متقنه أنيقة الألفاظ ، حكيمة المعاني ،عجيبة التأليف إذا نقضت وجعلت نثراً لم تبطل جودة معانيها ،ولم تفقد جزالة ألفاظها ([14]). ولكن هشاشة الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر لا تعنى صحة ماذهب إليه أدونيس من أن "النثر اليوم يمكن في بعض الحالات أن يعتبر شعراً.." ([15]) . فالشعر شعر والنثر نثر مهما ضعفت الفواصل بينهما  لأنها لن تصل إلى حد الانمحاء الكامل ، والمسألة تبقى مسألة تقارب ومشابهة تزيد وتنقص ، كما ذكرنا آنفاً.

*                *              *

  وتأسيساً على ذلك نكون بصدد "نظم" لا "شعر" إذا ماجعل "الشاعر" – بل المتشاعر " بتعبير أدق – همه الوزن والقافية ،على حساب العناصر الفنية الأخرى. وفي المقابل نصف "النثر" الذى استوفى العناصر الفنية الأخرى بأنه " نثر شعرى "([16])

  وهذه الحقيقة تزداد وضوحاً وتوثقاً إذا ما وقفنا أمام " نثر" عمر بهاء الدين الأميري ، ونعنى به النثر المستقل عن شعره فى مقالات ومحاضرات وكتب . والمعروف أن الأميري كان ذا جوانب متعددة ، فقد كان شاعراً ، وداعية ، وكاتباً وسياسياً ، ومفكراً إسلامياً ، لكن استقراء حياته ، وطروحاته بكل ألوانها يجعل وصف "الشاعرية" هو الوصف الأول الغالب، لا لأنه بدأ شاعراً ينظم الشعر ،وهو فى التاسعة من عمره، وأنه جمع ديوانه الأول وهو فى الثامنة عشرة من عمره ([17]) ، ولا لأن الشعر هو أغزر إنتاجه ، ولا لقدرته الشعرية التى تمكنه من الضرب بسهامه فى مناح شتى ، فيعالج الموضوعات الذاتية ، والمعاناة الخاصة .. آلاماً.. وآمالاً .. محناً.. ومنناً ، والموضوعات السياسية والاجتماعية والإنسانية والإسلامية . ليس لكل أولئك فحسب ، ولكن لأن  " بصمات الشاعر والشاعرية" مطبوعة على طروحاته النثرية من محاضرات وكتب ومقالات ، وأحاديث مذاعة فى مجالات الدين والسياسة والمجتمع ، والنقد والأدب ؛ فالفكرة فى نثره لا تطل إلا من خلال وجدانه ، ولا تظهر إلا في غلالات شفافة آسرة ، بتصوير أخاذ ، وكلمات موحية ، تتتابع فى توافق وتناغم.

ونقدم هذا المثال من سياق حديثه عن عبقرية محمد إقبال والشاعر اليمنى محمد محمود الزبيرى:

  " ... روح العبقري جوهر سماوي ، يشع النور ماضياً لايجور ، ويفيض الطيوب ، ولا يذوب. وما تفاوت قدر العباقرة المبدعين إلا بتفاوت مقدرتهم على الإشعاع المتنامي ، الذى يلبث مالكاً قدرة الإشعاع باستمرار . تنطوى الأيام ، وتمر العصور ، وآثار هؤلاء الأفذاذ تتداولها الأجيال تلو الأجيال ، تطلع عليها ، وتأخذ منها ، حتى إذا ظفرت بها ذات يوم قلوب مستجيبة ومشاعر بالغة الإرهاف ، وجدتها غضة غريضة ، نابضة بالحياة ، كأنها وهى الحاضر العتيد ، وما ذلك إلا لأنها فى الأصل فيض من روح الكون ، وإشراق من أغوار الوجود أدركه العباقرة فى زمانهم ، تمثلوه ، ثم أبدعوه هدياً وحكمة ، أو فناً وشعراً وفكراً ، تغلغلت شعاعات أرواحهم فى ذرات الألفاظ ، فانسجمت مع أحاسيسهم العلوية انسجاماً رائعاً مبدعاً ، وقبست من جوهر الحياة مايمدها أبداً بنبضات لاينتهى منها مدد الحياة ... "([18])

وتغلب عليه طبيعة الشاعر فيختم محاضرته بأبيات  يتحدث فيها بلسان المسلم عن توثب روحه ، وعظمة همته بالإيمان والحرص على الجهاد ، ويتبعها بأبيات سبعة يدعو فيها الشباب إلى الجهاد ، ومواصلة النضال. وفي خاتمتها يقول :

ليل طويل مدلهمٌ  بيـد أن  الديك صاحْ

الصبح موعدهم بكم ستعود تزدهر البطاح

ويهزكم ، ويهز كل الكون " حى عل الفلاح([19])

  وفى مقام حديثه عن بعث الرسول e ، وأثر الإسلام فى الأمة العربية ، يقول:

  " .... وتتالت الأحداث الجسام ، تقلب وجه الأرض ، وتصنع التاريخ العجيب ، وتهندس الإنسانية من جديد ، أسرع من خيال الحاسب ، وتدبير ذوي التفكير ،حتى لكأن الذي كان أعد فى الغيب من أزمان ، ورتب على بصيرة وحسبان، فلما جاء أمر الله تلاحقت جحافل القدر المرصود لتأخذ مكانها في الأرض جحفلاً جحفلاً ، كما رسم لها من قبل " ([20])

فشاعرية التصوير ، وشاعرية التعبير ،وشاعرية التدفق العاطفي ، أى روح الشاعرية في جوهرها الأصيل تطل علينا بارزة واضحة في هذا النثر الشفاف الذى يعالج فكراً دينياً ، وفلسفياً ، وتاريخياً ، لايجد عند كثيرين من المفكرين إلا جفاف التحليل ، وعقلانية الإقناع ، مع إغفال جمالية العرض ، ووجدانية التصوير والتعبير .

*                *              *

  والأميرى فى هذه الطوابع يذكرنا بكاتب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي  في مقالاته ، وحتي ندرك مصداقية هذا الحكم نقدم للقارئ من بعض مقالات الرافعي  القطوف الآتية :

  " ... ثم يشعر بالفجر فى ذلك الغبش عند اختلاط آخر الظلام بأول الضوء شعوراً ندباً ، كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه ليتنضر من يبس ، ويرق من غلظة ، وكأنما جاءوه مع الفجر ليتناول النهار من أيديهم مبدوءا بالرحمة ، مفتتحاً بالجمال ، فإذا كان شاعر النفس التقى فيه النور السماوى بالنور الإنسانى ، فإذا هو يتلألأ فى روحه تحت الفجر ... وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيت الدنيا التى فى الخارج من المسجد ، وبطل باطلها ، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة ، وهذه هى معجزة الروح متى كان الإنسان فى لذة روحه مرتفعاً على طبيعته الأرضية .." ([21])

  وفى مقال له طويل بعنوان "موت الأم " ([22]) ، ومما جاء فيه متحدثاً عن أثر هذا الموت في نفس أكبر الأبناء:

  " ... ثم تطير من عينيه نظرات في الهواء كأنما يحس أن أمه حوله فىالجو ، ولكنه لايراها !! . ثم يرخي عينيه فى إغماضه خفيفة ، كأنما يرجو أن يرى أمه فى طويته ، ولايصدق أنها ماتت ، فإن صوتها حي فى أذنيه لا يزال يسمعه من أمس. ثم يعود إلى وجهه الانكسار والاستسلام ، ويتململ في مجلسه ، فينطلق جسمه كله بهذه الكلمة "يا أمي" . أحس  ولا ريب – أنه قد ضاع في الوجود ، لأن الوجود كان أمه ..."

  وهذا الأسلوب العلوي الراقي لايستغرب من الرافعي الذى شب ومفهوم الأدب لا ينفصل لديه عن مفهوم الدين ، وما العربية في أرفع مستوياتها إلا ثوب أنيق يشف عن أسمى الفضائل الإنسانية ، وأطهر المبادئ الدينية التي جاء بها الإسلام .... فالدين لاينفصل عن الأدب في مرتقاه ، وعلى الأدب أن يرتفع حتى يحلق في أوج الدين.

  وقد يكتب الرافعى عن الوجدانيات العاطفية فى "أوراق الورد" و " رسائل الأحزان" ، فلا يخرج عن هدي الدين في شئ ، لأن الحديث عن العاطفة الشريفة يمت إلى القرآن بنسب أصيل ، وأنت حين تقرأ الغزل العفيف تحس بارتفاع في مشاعرك وسمو في اتجاهك. ([23])

  كانت هذه وجهة الرافعي في نثره ، وهي كذلك وجهته في شعره الذي  كان "شعر المروءة والعزة ، ونشيد المجد والاستقلال ، وترجمان الطهارة والمروءة والشرف ، وذلك ماينطق به قوله:

قلبى يحب وإنما             أخلاقه فيه ودينه

*                *              *

فالأديبان : الرافعي والأميري يسبحان فى أجواء واحدة ، والمعروض عندهما يمثل طروحات روحية نفسية يحكمها منطق الإيمان ، والرؤية الشفافة ، وهو منطق يشد حتى المادي المحسوس إلى أقطار النفس ، فيعالجه بأداء نفسي صوفي ، لا في صورته الموجودة في الخارج ، ولكن في هيئته المستشرفة المنشودة.

      ولكن وجوه التلاقي هذه يجب ألا تنسينا ما بين الرجلين من فروق : فالرافعي أثرى لغة ، وأجزل عبارة ، وأقدر على توليد المعانى والصور ،وتركيب جزئيات الخيال فى اطراد وغلو يقوده إلى الإغراب والغموض أحياناً.

ويتفوق الأميري في نثره بالوضوح والتدفق ،والبعد عن الافتعال والالتواء ، وصفاء العبارة ، وعمق الاستغراق الروحى الصوفى.

*            *              *

ووقفتنا السابقة كانت مع نثر الأميرى – بصفة عامة ، وفي الصفحات التالية لنا وقفات مع الموضوع الأساسي لهذه الدراسة ، وهو : نثره المصاحب للشعر ، أي شرائح النثر فى دواوينه .

              

([1] ) ابن حزم : طوق الحمامة 170-177.

([2] ) انظر جابر قميحة : التقليدية والدرامية فىمقامات الحريرى (51-55).

([3] ) مثل " المقامة الساوية" . مقامات الحريرى 83-89.

([4] )  على بن محمد الجرجانى: التعريفات 140 -  وانظر تفصيلاً فى البيان والتبيين للجاحظ 1/159 ، والعمدة لابن رشيق 1/13

([5] ) د. حسين نصار : فى النثر العربى 7.

([6] ) حازم القرطاجنى : منهاج البلغاء ، وسراج الأدباء 27-28.

([7] ) عيار الشعر 9.

([8] ) انظر السابق 10.

([9] ) المرزوقى (ت 421) فى مقدمته لشرحه : ديوان الحماسة 9.

([10] ) السابق 11.

([11] ) انظر : مناهج البلغاء 293.

([12] ) انظر السابق 119.

([13] ) ارجع إلى : حسن ناظم : مفاهيم الشعرية 83-90.

([14] ) عيار الشعر 13.

([15] ) مقدمة للشرع العربى 130.

([16] ) وهذا التوصيف أدق وأوفى من قولهم " شعر منثور" ، لأنه فى الأصل نثر ، وليس شعراً.

([17] ) انظر: أحمد الجدع وحسنى جرار: شعراء الدعوةالإسلامية فىالعصر الحديث 2/8.

([18] ) عمر الأميرى : إقبال والزبيرى 19.

([19] ) الأميرى : السابق 21.

([20] ) الأميرى : عروبة وإسلام 32.

([21] ) وحى القلم 3/29 ، 31.

([22] ) وحى القلم 2/ 151 – 155.

([23] ) محمد رجب بيومى : مصطفى صادق الرافعى فارس الكلمة 44