التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة (9)

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

إن العمق الدلالي الذي يتوخاه الشاعر - المتأثر بالتجربة الصوفية - لا ينحصر في المعاني التي حفل بها الشعر العربي القديم والحديث، بل كان ينهل من قرارة نفسه أفق التعبير المجازي الذي يراه ملائما لتجاربه الشخصية، وينظر أيضا في تجارب المتصوفة ، الشعراء وغيرهم من المتصوفة العاجيين.

كما أن:" العمق والرمزية يتصلان بتجربة الصوفي. إذ إن التصوف في حقيقته ينشغل باللب والجوهر. ومن ثمة فإن الصوفي الشاعر ، عميق الدلالة . لأن تجربته تنبني على استكناه الحقائق العميقة ، وإدراكه لتلك الحقائق ، يفوق الإدراك الآلي . ويقوم على رؤية من نوع خاص، خاطفة ، فهو يلمح." [1]

إنها الرؤية التي يحملها الشاعر، ومنها يتدفق مكنونه الشعري كي يعبر بأبهى الصور وأقربها إلى حقائقه الصوفية. ومحمد بنعمارة حين يلجأ إلى مثل هذه الدلالات ، فليعبر عن تجاربه وتحدياته. " فالماء " ليس هو الماء المعروف عندنا الذي يستخدم في الشرب والنظافة ومآرب أخرى، بل يستغله الشاعر في إبراز ملامح الكتابة الشعرية، والتدفق" الكلماتي " ، أي على صعيد الألفاظ والتعابير اللغوية داخل القصيدة الشعرية.

إن تناسل الخطاب الشعري عند محمد بنعمارة يفي بغرض التنبيه إلى ضرورة تتبع تجربته الشعرية من أولها وإلى الديوان الأخير، كي نبرز جوانب من خصوصيات دلالة الماء في شعره. وقد مر بنا في التعريف بالبحر والغيم ودلالاتهما، الجريَ وراءها من خلال نماذج مختارة. لكننا هنا سنعمل على انتقاء مقصود يهدف البحث في ثنائيات التآلف والتضاد في شعره.على أنه في السياق ذاته ، نخطو خطوات بارزة في إبراز جوانب التحولات الدلالية على أساس نمو الدلالة الأصلية، وعدم التعبير بالمتوقع، بقدر الكشف عن المستور.

 والهدف هو القراءة العمودية للقصائد والتنبؤ بما ستحمله الرؤية الشعرية سواء أكان ذلك متواصلا أم منفصلا. بمعنى أن التأويل الذي تحمله دلالة تجربة معينة في مرحلة أولى تنبئ بما سيأتي، بالنظر إلى تطور التجربة الشعرية المستقرأة في الفصول السالفة.

وبما أن الماء يقع ضمن إطار البحر، وصفة من صفات السحاب فتبقى الإشارات التي نود تقديمها تتميما للعناصر المقدمة، وتأكيدا لدور هذا النبع في تشكيل لغة الشعر عند محمد بنعمارة.

v       الماء الطبيعي

-- أعشاب اليأس تموت وتدفن            

ويجف الماء من النبع المسموم [2]  

-- يبحث عن نبع لا يجده

عن جرعة ماء .. تروي عطشه [3]

كلا الحالتين تنم عن الضمإ الذي يكون الماء دواءه، وقد أطلقنا صفة الماء الطبيعي على الماء هنا، لكونه لا زال يعيش في جدوله العادي. فهو الماء الذي يلبي رغبة العطشان، ويسقيه.

معنى هذا أن المقطع الأساس في هذين النموذجين ، لا يحتاجان إلى تأويل، ما دمنا نصل للمغزى المباشر دون عناء . وإن كان من الممكن أن نؤول ، فنعطي دلالات ربما تبعد المعنى عن أصله. لأن المرحلة التي قيلت فيها هي مرحلة طبيعية، رومانسية، لا نجد للتعبير الصوفي حيزا ، وللدلالة الاستعارية مكانا. ونخص الذكر في هذين المقطعين، لأننا نجد بعضا من الصور البلاغية في غيرها.

الماء / الجسد

-- انكسر الماء المترقرق فينا

وانشرح القلب الهارب في سفن المحبوب

ومدت صاحبة الحلم الأخضر سالفها [4]

-- شاخ البحر ومات الماءْ

والغيم تحول طينا [5]

فالماء تحولت دلالته من صفته المعروفة، إلى كونه كائنا حيا، يحيا كما يحيا الكل. ويفنى كما يموت غيره من الكائنات. وبذلك تكون دلالاته قد تحولت عن المألوف. ولن نصل إلى حقيقتها دون أن ننظر إلى سياق تعامل محمد بنعمارة معها. فنمو النص الشعري عنده كما أسلفنا ينطلق من المجهول إلى المعلوم، ومن العام إلى الخاص. ولن نصل إلى الدلالة الحقيقية دون أن ننظر في النسيج الشعري العام.

وهنا نتساءل: ما هو هذا الأمر الذي يعيش به الشاعر كالماء، يفنى ويموت؟

ما القصد بالانكسار؟

v        الماء / اللغة

-- ثم نرى من عاد وأخرج موعده من ماء البحر

وعلمنا لغة المنفى [6]

-- يموت حرفها

فتشرق الجداول التي

مياهها الكلام [7]

معنى هذا أن الماء هو الكلمة المعبرة عن آلام الشاعر وأشجانه. وأن المقصدية ثابتة في هذا المجال، وأن الشاعر أعطى أيقونات دالة على فعل الماء. ولم يكتف بدلالاته الإيحائية دون إرشاد المتلقي. كما أن دراية وعلم القصدية غير الطبيعية ( المتحولة) شرط من شروط دخول بحر التأويل ، وخاصية مهمة في البحث عن الدلالات الحقيقية.

إن القصد من وضع اللفظ في مكان معين في الشعر مبيت عند الشاعر، والقصدية أيضا صورة من صور الشعر المعاصر. وهذا ما جعل محمد مفتاح يؤكد ضرورة التمسك بهذا النوع من الخطاب الشعري الذي يحول الدلالات ويفرز القارئ النموذجي.

يقول :" إن المحدثين والمعاصرين الذين تأثروا بالتيارات السيميائية المعاصرة صاروا < يُـقَصِّدون > اللغة بسبق الإصرار. وهكذا نجد في قصائدهم ، ما يحاكي أصوات الطبيعة ، وحشدا هائلا من أسماء الأعلام المختلفة ذات الدلالات الإيحائية ، وألفاظا عتيقة ضاربة في أعماق التاريخ، أو حديثة آتية من آفاق مختلفة . وهذا التداخل المعجمي يخلق عدة معان فرعية عرضية تقرأ بتشاكلات مختلفة بحسب الوسط الذي دعيت منه الكلمة مما يجعلها مؤشرا كنائيا عليه ، وقد تصبح أيقونا إذا توفرت فيها علاقة المثلية أو المشابهة." [8]

v        الماء / الشعر

-- اخترت وجهك كالزلازل

ينتمي في شكله للحزن ثم يعود يبحث عن مسافته

ويسأل عن بداية موكب الثورة

والغيم بنثر سره

والماء يكتب مرثيات البحر [9]

-- وهل في علاقات تلك القصيدة بدء من الماء

إن الأمومة قد قتلت ثديها

فمات الرضيع [10]

-- لغتي

المنابع

أنجبت ماء الحياة

فكان مجرى [11]

إذا كان الشعر المعاصر يبتكر ذاته الشعرية انطلاقا من اللغة الشعرية الفعالة، فإن محمد بنعمارة استطاع أن يحقق تجربة شعرية متنامية، مشتغلا في إطار حقل دلالي خصب. وقد تمكن من توصيل الدلالة إلى المتلقي لا بالقول المباشر، ولكن بلغة إيحائية. وهذا الأمر لا يصل إلى درجة الإبهام كما عند البعض، ولا يقف عند درجة الشفافية الشعرية التي تغَيَّب فيها الرؤية الشعرية.

 إن الدخول في متاهات المجاز في الشعر ، هو الذي أعطاه صفة التميز عن النثر، ويحافظ على ماء وجهه أمام ظهور أجناس أدبية غير سابقة في الأدب العربي. ولعل الحديث عن التحولات الدلالية أخذنا إلى تقصي مجموعة من المرادفات في حقل الماء وروافده [12] ، وتمثلت أهمية هذا التحديد في :

·  وضع المرادفات الدلالية في إطار مشترك ، تخدمه العلاقات الرابطة بينها ، والكشف عن أوجه الشبه والتناسق.

·  وضع القائمة المفترض كونها حقلا دلاليا يشتغل فيها الشاعر ، وتمكين القارئ من آليات البحث في خصوصياتها .

·  الغوص في بحر الأفكار والتعمق في دلالاته .

·  تجريب الآليات المعتمدة في علم الدلالة كالتأويل الدلالي والحقول الدلالية.

النص الشعري - إذن - هو مجموع الخطابات التي يحملها الشاعر، والنص الشعري لا يبدأ مع بداية القصيدة ، وينتهي مع نهايته ، بل هو الكل المنسجم المؤتلف . لذلك فبعضه يفسر البعض الآخر ، ودلالاته تتنامى مع سير العملية الإبداعية فيه.

وفي ضوء هذه المقاربة النسقية ندخل عالم حقل ثان في شعر محمد بنعمارة.

              

[1] محمد بنعمارة: الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، ص-139.

[2] - محمد بنعمارة: العشق الأزرق، ص- 102.

[3] - نفسه: ص- 111.

[4] - محمد بنعمارة: مملكة الروح، ص- 15.

[5] - محمد بنعمارة: السنبلة، ص- 12.

[6] - محمد بنعمارة: مملكة الروح،ص- 59.

[7] - محمد بنعمارة: السنبلة، ص- 35.

[8] - محمد مفتاح: دينامية النص ، ص- 56.

[9] - محمد بنعمارة: نشيد الغرباء ،ص- 27.

[10] - محمد بنعمارة : السنبلة ، ص- 41- 42.

[11] - محمد بنعمارة : في الرياح .. وفي السحابة ،ص- 9.

[12] - لقد قصدنا بالروافد كل ما يتعلق بمجال الماء ، انطلاقا من تكونه كالغيم ، والسحاب والنهر والبحر وغيرها من الدلالات التي أفرزها الحطاب الشعري الحالي.