ترهلات غيمة ذابلة

أسطورة الألم والوحشة قراءة نقدية في ديوان

للشاعر الدكتور صدام فهد الأسدي

د. صدام فهد الأسدي

[email protected]

توفيق الشيخ حسين

همسات الصبر والأحزان تولد فينا جرحا ً قاسيا ً لا يشفي ألم الذل والموت .. وبراكين مجنونة تثور وتصرخ ولا حيلة لنا سوى الصمت والقهر .. وغيمة تمطر حزنا ً وهما ً وتحمل ظلما ً غامضا ً يسافر خلف طيات المجهول وحلم يعيش على حافة الفرح ينتظر ضوءا ً جديدا ً بين سطور الألم والوحشة ...

" ترهلات غيمة ذابلة " المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر الدكتور صدام فهد الأسدي وتضم ( 36 ) قصيدة يعبر فيها عن عتمة الأسوار وأحزان ممتدة من البحر إلى البحر مع بقايا العمر وطنين الصمت والآم الإنسان

خلف منفى الموت ..

كل شيء, معتم يخترق السور إليك

كل شيء يفرك البرد  طريقا هانئا إلا يديك  

 في أسطورة سيزيف يتناول " البير كامو " تجربة العبث بين " الأنا " و " العالم " ..

" لقد أفلت العالم منا لأنه أصبح مجددا ً ذاته " فالشاعر يجد في ذاته أمواج متلاطمة من بحر هائج – بحر الأحزان – كلها آهات وعذابات وألما ً حارقا ً ويعمل على إيصال صخرة حزنه إلى رأس الجبل ..

كما حمل سيزيف صخرته وصعد بها إلى أعلى الجبل ثم تعود لتسقط مرة أخرى إلى السفح ويعود يحملها قي اليوم التالي .. وهكذا ...

تعتبر الرموز الأسطورية أكثر استحبابا ً للشعراء .. وكما تقول الشاعرة والناقدة " سلمى الخضراء الجيوسي ":

( وكان إدخال الأسطورة الرمزية بنجاح إلى الشعر انجازا ًحداثيا ً مهما ً يدين إلى السياب بوجوده الأساس ...

فأن العنصر الأسطوري توطد في الشعر ووجد له تعبيرا ً قويا ً عن طريق استعمال الزمن الأسطوري والنماذج العليا .. وفي هذا التجديد الآخر كان السياب هو الرائد الأول )

فذا – عوليس – البطل الميثولوجي يعاني عذابا ً شديدا ً ويجتاز المهالك .. وذا – برموثيوس – المخادع المتمرد والبطل الأسطوري الذي سرق النار لتكون شعلة وهاجة للإبداعات الفنية ورغم اللهب المحمول على كف – ديوجين – فلن نجد ذلك الإنسان ولو بحثنا عنه بمليون مصباح ..

فالشاعر صدام الأسدي يحمل مصباح – ديوجين – ليتعذب مع احاسيسه ويبحث عن الحقيقة وعن القيم الإنسانية  في زمن الصمت العربي  .. في زمن مات فيه الضمير لأن الجرح عميق جدا ً ...

ذي صخرة سيزيف

اتبع سخط الغجر الماشين لذلك الحي

ذا – تموز – القادم من وجه الريح

انبع من سيل الدم وخذ حذرا من عهد الدجال

ذا – عوليس – الواقف مغتربا كيف يطل من الأنفاس لينقذ هذا

الكهف العربي

من الأرتال المصلوبة في أبار النفط

ذا – برموثيوس – اله النار يستوحد ظلا في جبل القفقاس ليأكل

كبد التأريخ

ليفزز صحوة مجبول في اكل الخوف من الشرفات

رغم اللهب المحمول على كف – ديوجنيس – يتعرى المشهد

وينام الظل وحيدا في كبد الشمس

اه – ديوجين – كيف رفضت الناس الناس الناس !

واقعنا العربي المشلول يسير بنا بلا أمل إلى نفق مسدود .. وجرح الزمان لا يشفي لأن الدواء سم ُ في ضمائرنا ..

لم يبق شيئا يواسينا غير الصمت والصبر .. وغير القهر والجوع والموت ..  والى متى نبقى نصفق للطغاة والمغامرين ...

 في واقعنا العربي المشلول

الحكمة قالت – سوف تقول – ( أيام الصبر تطول ) وقالت

للصبر حدود

لا بد بهذي الغابة من مقتول ..

بسمة على شفاه الغرباء تعبت من عواصف الرياح .. بكت من جرح الزمان خمسين عاما ً .. وعزفت لحنا ً حزينا ً

يتسلل وراء الأفق بأعماق مليئة بالآهات والآلام ...

وصداقة  الشعر تمزقها حروفها بين ألسنة النار عندما تستيقظ على نهاية زمن الرحيل ...

قالوا دع اليأس هنا وحرك الأفعال

الصبر قد عاصرني خمسين عاما باحثا عن لحظة المنال

والشعر قد صادقته لكنه يخيب الآمال

والشعر قد حطمني منذ وقفت صانعا حقائق الأقوال

 هذه حياة الشاعر الأسدي .. من بداية العمر وهو يحاكي الواقع المرير .. علاقته بالحزن حميمة كلها دموع وشجن .. مع حب صامت للوطن .. أعوام مضت يحمل فيها جرحه ولا يملك لنفسه غير الألم .. مع عزة النفس لا تعرف المستحيل لآخر العمر .. يكتب شعرا بين سطور الذكريات قبل انطفاء الزمن .. ويدرك عمق المأساة الإنسانية عبر التأريخ الطويل ..

من ومضة الولادة ..

ومسرح الدموع والشجن

ما دق قلبي أبدا

لغير ربي وأبي وأمي والوطن

واشتعلت قصائدي تحارب المنكر والعفن

وسوف أبقى هكذا في عزة النفس وللكفن

اقدح شعري شمعة من قبل أن ينطفئ الزمن

 عاد الشاعر من رحلته ليسجل لنا مأساة العروبة .. مأساة تعشق الألم وتنام على الجرح كلما تحتضن القدس الثكلى وأقصاها الجريح .. أصبحنا في زمن نصرخ فيه بلا صوت .. وتبقى نكسة حزيران مستقرة في الذاكرة العربية .. الا تكفي الدروس والعبر التي تعلمناها من تلك الهزائم يا معشر العرب ..وأصبح السيف العربي جاهزا ً للرقص في أيدي المعتدين ..

مأساتك السوداء كانت منذ سلمت

الغزاة الأرض بل بيت المسيح

وفرشت للأعداء دارك

والعروبة بالخطابة تستريح

كم نكسة مرت بها العرب الكرام ؟

تنسى حزيران القبيح

هل ينفع القول الفصيح

والسيف في كف العروبة قد يطيح ..

 بين جدران الصمت ينبض القلب .. ويسابق الكلمات عند فراق الأحبة .. ويرسم تنهداته الهادئة .. ويذوب في

همسات الخوف ويتنفس الصبر والنار والألم .. عندما يصلب خلف لقمة العيش ويعيش صراعا مع وحوش البشر ..

لي شعر يتنفس في الخوف

أخشى يوما أن يصلب قبلي

لو صلبوا الشعر صلبوا الخبزة في كفي

لي قلب يحسب للأيام ألف حساب

ينبض قبل النبض ويذوب كثيرا عند فراق الأصحاب

فبطاقة اسمي يصلبها التاريخ كما صلب السياب

 وعلى امتداد الديوان تتداعي الذكريات ويتوسع أفق الشاعر ويخلق صلة واسعة بينه وبين العالم .. ويعطي كل لحظة من حياته طعما ً وفهما  ًعميقا ً للحياة .. ويفتح أمام القلب البشري منبعا ً واسعا ً للحزن .. وعلى جمر الكتابة يحترق الصبر وتجف المرافئ ....

 وتبقى صورة الوطن تعيش في ذاكرة الشاعر عبر لغة الحرف وظلال الكلمة .. وكما يقول شاعر الهند الكبير – رابندرانات طاغور - :

" إن الحياة منقضية , وإنها ذابلة وإنها شبيهة بقطرة ندى فوق ورقة لوتس "

فحياة الشاعر الأسدي كلها معاناة وقلق .. ونقاء قلبه كنقاء اللحظة في حالة اغتراب مع ذاته .. ومع كل غيمة وقطرة ندى يصبح الصبر تعويذة تحتل حروف الأبجدية .. وكغيمة الروح تمطر فيض الحنين .. حيث يتجرد  إلا من الحقيقة  تأن في داخله ويلوذ بصمت حزين ...