القضية الفلسطينية في شعر وليد الأعظمي

القضية الفلسطينية في شعر وليد الأعظمي

الزوابع نموذجاً

بقلم: شمس الدين درمش

يعد وليد الأعظمي (1930-2004م) شاعر القصيدة الإسلامية الأول في العراق كما يقول د. بهجت عبد الغفور الحديثي في كتابه " القصيدة الإسلامية الحديثة وشعراؤها في العراق " في ترجمته له. ص 406. وبذلك يمكن أن تفسر انتشار قصائد الأعظمي في كثير من البلاد العربية والإسلامية، التي كانت تنشد في المناسبات الدينية والحفلات التي تقام إذ إن هذه القصائد تمثل طموح الشباب الإسلامي للصعود نحو المجد والخلاص من وهدة الضعف والذل التي سقطت فيها الأمة.

يقول الحديثي: ".. كثير من شباب فلسطين المجاهدين يحفظون قصائد (وليد الأعظمي)، واتخذوا أبياته شعارات جهادية، وكتبوها على الجدران واللافتات، وكذلك في سوريا واليمن والجزائر والمغرب وباكستان وأندونيسيا.. ص 406 المصدر السابق.

وقد شكلت القضية الفلسطينية جزءاً من الهم الإسلامي العام الذي عاشه وليد الأعظمي طيلة حياته وعبر عنه في دواوينه ومنها ديوان (الزوابع) الذي نظم قصائده بين عامي 1950 و 1960م، كما يقول الأستاذ نعمان عبد الرزاق في تقديمه للديوان، أي أنه كان في العشرينات من عمره، مما يجعلنا نقف أمام قمة شعرية شابة مثله في ذلك مثل الشاعر هاشم الرفاعي. وتأتي قضية فلسطين في ثنايا قصائده، حيث يصور أبعاد القضية والمأساة في الواقع وامتدادها التاريخي، كما يشخص الداء ويصف الدواء.

دورة التاريخ

يرى وليد الأعظمي أن عودة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة لهم دورة تاريخية تقوم على جريان سنة الله في الكون ونتائجها في حياة الشعوب، فالغفلة ضعف، واليقظة قوة، فيقول:

إيـه  فلسطين، للتاريخ iiدورته
نمنا زماناً، وكان الخصم منتبهاً
سرى  إليك رسول الله من iiقدَم


ولـلـحـوادث إيراد iiوإصدار
مـن نام خاب ولم تسعفه أقدار
ولـم  يكن ثَمَّ صاروخ iiوأقمار

وهذه الحكمة كما هي قراءة للتاريخ، هي إشارة إلى الآية القرآنية [ وتلك الأيام نداولها بين الناس ]، ولكنها دورة ودولة مرتبطة بأسبابها (من نام خاب ولم تسعفه أقدار).

وهو إذ يشير إلى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ينقلنا إلى أجواء سورة الإسراء، وما فيها من إشارات إلى دورة التاريخ مع بني إسرائيل خاصة قبل الإسراء وبعدها مما ذكرتها الآيات القرآنية في السورة من إفساد بني إسرائيل في الأرض مرتين وعلوهم علواً كبيراً، وإيقاع العقوبة عليهم من الله سبحانه بوساطة عباد لله أولي بأس شديد في الأولى، ثم في الدورة الثانية (وإن عدتم عدنا).

ومن هذا الوعد القرآني ينطق الشاعر مرة أخرى مؤكداً أن دورة التاريخ لن تتوقف، فيقول:

إيـه  فـلسطين ! للتاريخ iiدورته
إنـا على موعد يا قدس iiفانتظري
جـيـش  تـدرع بالإيمان iiيدفعه
آلـى عـلى نفسه ألا يبل iiصدى
لا عذر للعرب عند الله إن iiسكتوا




ولـلـحـوادث  إيـراد وإصدار
يـأتـيك عند طلوع الفجر iiجرار
لـنـصـرة الحق تأكيد وإصرار
حـتـى تعود إلى أصحابها iiالدار
وبات في القدس من صهيون ديار

وهنا نجد إشارة عجيبة في قوله (آلى على نفسه ألا يبل صدى) إلى قصة جيش طالوت المؤمن في القرآن في قوله تعالى [ إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده..] ومع أن طالوت وجيشه من بني إسرائيل، وربما كان الذين قاتلوهم (جالوت وجنوده) من العرب الكنعانيين حسب الروايات التاريخية !! إلا أن الشاعر هنا ينظر إلى المسيرة الإيمانية التي تشكل قافلة واحدة !! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عاشوراء " نحن أولى بموسى منهم "!!

وهكذا ينذر وليد الأعظمي دولة صهيون في فلسطين بجيش مؤمن صفته معروفة لديهم وهو القلة المؤمنة التي نجحت في اختبار تحمل العطش مع أنهم يخوضون مياه النهر المتدفقة العذبة، وهؤلاء اليهود هم أصحاب السبت الذين سقطوا في الاختبار فقال لهم الله سبحانه وتعالى [ كونوا قردة خاسئين].

من صور المأساة

وقد خلقت المآسي في فلسطين جراء الاستيطان اليهودي الغاصب أوضاعاً محزنة يصفها الشاعر في أكثر من قصيدة، بما يثير في النفس الحزن والشفقة والغضب في آن واحد، يقول في صفحة 58 من قصيدة يا أمة القرآن:

أمـا فـلسطين فسيل دمائها
الـلاجـئون وهذه iiأكواخهم
فـي كل كوخ لوعة ومناحة
ويـتيمة  تلوي إليك بجيدها
وكريمة لعب اليهود بطهرها




لـم ينقطع وعيونها لم iiترقد
كالعار  عن أنظارنا لم iiيبعد
من  طفلة تبكي وشيخ iiمقعد
تشكو  الهوان بحسرة iiوتنهد
وبـها تمتع رائح أو iiمغتدي

ويوضح أثر هذه الصور في نفس الرائي في قصيدة أخرى ص 113 فيقول:

كاد الفؤاد يذوب عند لقائهم       ألماً ومقلة ناظري لم ترفع

ومثل هذه الصور جديدة قديمة ، فهي موجودة في شعرنا العربي القديم منه و المعاصر ، فقد تناول

الشعراء مأساة الأندلس بقصائد كثيرة امتلأت بهذه المعاني والصور الواقعية الأليمة، ومثلها في شعر ابن الرومي في مأساة البصرة، ثم فيما سجله الشعراء في المآسي التي تركتها هجمات المغول والصليبيين على السواء، أما في العصر الحديث فقد أغنى العيان عن الخبر، ولكن الأمر في الخمسينات كان مختلفاً إذ لم تكن وسائل الإعلام المرئية منتشرة، وكان للكلمة المصورة دورها وأثرها.

أسباب المأساة

وإذ سجل الشاعر أن السبب الأول للمأساة (نمنا زماناً وكان الخصم منتبهاً) فقد أسهمت أسباب أخرى في تعميق المأساة وترسيخها في أرض الواقع ومنها تخلي المسلمين عن دينهم وهذا السبب بمثابة شرح للنوم الذي استغرقت فيه الأمة، فيقول الشاعر في قصيدته " حقيقة الرقي " ص 148:

يا للمصيبة قد تركنا ديننا      حتى استخف بديننا شاؤول

ويوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:

لـو أن ديـنك نفذت iiأحكامه
ولـما تخطفت الطغاة iiحقوقنا

لرست لنا فوق الجبال أصول
ولـنـا بـذلـك حجة ودليل

غير أن الشاعر يخصص السبب، ويحمل الأحزاب المتناحرة والمتصارعة بحسب الأهواء والمصالح الشخصية مسؤولية كبيرة في ضياع فلسطين وتردي أوضاع بلادنا عامة فيقول في قصيدته (قالوا زيارة شيخ) ص 120 ـ 121 :

وأنتم يا معشر الأحزاب كيف بكم
مـاذا فـعلتم أجيبونا قد iiانكشفت
خـدعـتـمـونـا بألقاب iiمنمقة
والبعض  يشتم بعضاً دونما سبب
مناهج القوم في الإصلاح iiخاطئة
هـذي فلسطين تدعوهم لنصرتها
لا  خير فيهم لقد ركنت iiعزائمهم






وجـودكـم فـيه للأوطان iiبلواء
أعـمالكم،  ليس بعد اليوم iiإخفاء
قـد تـخدع القلب ألقاب iiوأسماء
يـدعـو  إلـيه كأن القوم iiأعداء
ونـظـرة القوم للإصلاح رعناء
ويصرخ المسجد الأقصى iiوسيناء
وفـي فـلـسـطين أعداء iiألداء

فالفرقة والاختلاف وخطأ المناهج الإصلاحية المستوردة هي الأسباب الرئيسية التي عملت في إضعاف الصف العربي في مواجهة العدو اللدود في أرض فلسطين.

ومن هذا الضعف يبشر الشاعر أملاً في أن تخرج قوة مؤمنة من بغداد الرشيد والمعتصم تسترد من الروم الجدد حق المسلمين السليب فيقول في القصيدة نفسها:

مـهلاً فلسطين في بغداد iiكوكبة
ركـب الأخـوة عين الله iiتكلؤه
يا قدس حسبك صيد لا يؤخرهم
نحن  المغاوير من أحفاد iiحيدرة
لا  بـد من ثورة يا قدس عاتية
حـتـى يفر بنو صهيون iiثانية
ويـرجـعـون إلى آفاقهم iiبدداً






مـن  الـشـبيبة أبطال iiأشداء
ركـب  الجهاد له الإيمان حداء
عن نصرة الحق ترهيب iiوإيذاء
لا زعزعتنا من الأحداث iiأهواء
مـنها تحل على الأعداء iiبأساء
كـمـا  تفر من الرئبال iiجرباء
كـما  إلينا من الآفاق قد iiجاؤوا

نعم أيها الشاعر الأعظمي (للتاريخ دورته) وإنك إذا رحلت ودورة التاريخ ما زالت علينا، وما زالت رحى التاريخ تطحننا طحناً أليماً تدور بشدة على إخواننا في فلسطين.. في الأرض المباركة.. في القدس وأكنافها، وهم صامدون صابرون عطشى.. يأبون أن يرتووا من ماء النهر.. ها قد رحلت عنا بعد خمسين عاماً من قصائدك " الزوابع " والزوابع تلفنا فتكاد تقتلع قلوبنا من صدورنا.. ها قد رحلت عنا وقد دخل أحفاد السبي البابلي إلى بغداد تحت رايات الصليب من كل حدب وصوب تداعت على قصعة المسلمين ينهشونها دون رحمة.. ها قد رحلت والمغاوير من أحفاد حيدرة يقاومون الغزاة في بغداد وليس في القدس فقط..

فرحلت عنا بصمت بعد أن كانت قصائدك تملأ المواكب والمهرجانات والاحتفالات.. رحلت عنا بصمت مع رحيل العام الهجري 1424 هـ . فلك منا الدعاء ومن الله الرحمة والرضوان.