متى ترد الأمواه إلى أنهاره الظمأى؟

قراءة في ديوان انهار ظمأى للشاعر الدكتور صدام فهد الاسدي

د. صدام فهد الأسدي

[email protected]

الأستاذ الدكتور فاخر الياسري-جامعة البصرة كلية التربية

الحمد لله على كل شيء ذي العزة والعلا,ورب العرش العظيم ,والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد(ًص),‘وعلى اهل بيته الطيبين الطاهرين وبعد

الشعر لغة خاصة يبلغها الشاعر بالبحث والتاني والاختيار,فهي له الهدف والوسيلة, وسيلة الرؤية والتجربة والقابلية والقدرة على الاستحضار بشكل تتفجر معه المفردات موحية مثيرة مدهشة ,  تحمل تراثا ضخما من الطاقات الشعورية والتعبيرية نتيجة لتفوقها على اللغة العادية بما تملك من روابط وعلاقات شعرية متداخلة منحتها خصوصية الايحاء, والمتعارف عليه بين النقاد ان الشعر لايصنع من الافكار بل من الكلمات التي توحي بالافكار,والشعر يعيد التوازن الى اهتمامتنا النفسية وانه فن يصنع لنا السعادة

اما مهمة الشاعر فهي رؤية الاشياء كما هي في الواقع وينبغي عليه ان يدرب نفسه على الحالة العقلية المركزة والسيطرة التامة على الذات هي التي تكون مهمة في التعبير الفعلي عن الشيء الذي يرى وعليه فان الشاعر الدكتور صدام الاسدي ألف الشعر فألفه وشغله فانشغل به ,فالشعر كان همه الذي يقلقه وجنيه الذي كان يوسوس في صدره ,, شاعر مرهف الإحساس جياش العاطفة شاعر مخيال يستنطق الواقع فيحيله إلى مشاهد وصور متحركة ,كان يتصرف باللغة فيلاعبها اذ يأتي بمفرداتها على أحسن وجه وأجلى صورة وهو يحسن القول إذا قال والإنشاد اذا جال,كان الشاعر الاسدي يتحرك في دائرة واضحة الحدود تناسب فكره وطاقته التعبيرية وكان بحق شاعرا متبرما ومتمردا ناقدا واقعه المرير انطلاقا من قيمه وأصوله وأخلاقياته ليعطي صورة  جلية للسلوك الاجتماعي المثال والشاعر صاحب تجربة شعرية ملحوظة واضحة المعالم والسمات ,كان همه الأول الإنسان والوطن ,, له نتاج شعري ثر توزع على مجموعات شعرية صدرت له وهاهو منهمك وجاد في جمع قصائده الشعرية اذا يدافعنا بمجموعته الشعرية هذه التي وسمها (انهار ظمأى) فالشاعر باختياره النهر او الانهار عنوانا لمجموعته لابد من انه يستنهض هذا الخفي من الأحاسيس والرؤى والمشاهد المخزونة في عقله الباطن ويعطيها مؤشرات دالة فالنهر ومصادره المياه كالاهوار والبحار والآبار كانت خير عون لكثير من المبدعين اذ وظفوها بوصفها دالات على حركة الحياة ونمو الفعاليات وتطورها ثم أن الأنهار لا تنبعث منها دلالة محددة او واحدة وإنما تشير الى دلالات متعددة ولكنها تنحصر في الظواهر النفسية والاجتماعية والسياسية والجنسية وعليه فالأنهار لها قيم دلالية وهي رمز لأشياء كثيرة فهي رمز لإخصاب الحياة بعد جدبها فهي تمثل تجدد الحياة عبر حركتها وتمثل الولادة وتمثل النقاء والقدسية وبذا فالأنهار تعبر عن حالات إنسانية كبيرة ولكن الشاعر الاسدي وصف انهاره بالظمأى وعليه فالأنهار التي كانت رمزا للخصوبة والحيوية والتجدد والحياة أصبحت بعد هذا التوصيف الذي ارتدته تمثل الجدب وانقطاع الحياة والحرمان والفقدان والمعاناة والقحط

مجموعة الشاعر تشكلت من ثماني عشرة قصيدة توزعت بين القصيدة المقيدة وغير المقيدة ولكن نصيب القصيدة غير المقيدة أوفر واكبر علما ان شاعرنا كان مشغوفا بالقصيدة المقيدة أو العمودية شغفا كبيرا

صاغ الشاعر قصائده بنفس شعري وجيع لفقده أنهاره الملاى الشخيبة التي كانت رمزا للخير والخصوبة والمعدلة والنماء والانبعاث والتجدد والصدق والنظافة والإخلاص والهداية والوفاء ولكنها ظمئت فكان الذي يكون وبذا فالشاعر يخرج نصوصه من واقعه وبيئته حريصا على ان يصغي إلى نبض عصره ومجتمعه وموقفه الجلي من واقعه الذي صوره فأحسن تصويره ويبدو للنظر أن الشاعر في قصائده كان ينزع نزعة إنسانية والنزعة الإنسانية في الشعر تعني إحساس الشاعر بالآم   الإنسان في كل مكان لما يشغله من مشكلات تسيء الى إنسانيته او تبعده عنها فالإنسانية في الأدب او الشعر بشكل خاص لا تعني الشفقة او الحنو او إغاثة الملهوف فحسب بل تعني موقف الشاعر من الهم الإنساني فالأدب في رسالته التزام يفرض على الأديب شاعرا أكان ام ناثرا أن تكون له محاولة جادة بقلمه وروحه في تخفيف معاناة الإنسان من خلال الدعوة الى نصرة الإنسان أخاه الإنسان وتقوية نوازع المحبة والخير والرحمة فيه وأضعاف نوازع الكراهية والحقد تلك النوازع التي إليها ترجع معاناة الإنسان في أكثر صورها بشاعة وأشدها إيلاما فالشعر الإنساني يبدو امتدادا طبيعيا للشعر الديني فكلاهما يتجه إلى الفضيلة المطلقة أي البحث عن حياة امنة لا تدنسها الأحقاد ولا تعصف بها رياح الجور والاستبداد ليعيش كمل إنسان ضمن مجتمعه وشعبه على الأرض التي ينتسب اليها حياة امن وسلام لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يجد على الأرض من يسيء الى إنسانيته فالشاعر الاسدي إنساني النزعة فهو لعمري يؤكد ويركز على القيمة الإنسانية للشعر فالشعر عنده ما قالته المشاعر الصادقة وقد ركز أيضا على الصراع الإنساني بين الخير والشر ولاشك بان لواء الخير يعلو ويرفرف وان خيمة الشر سوف تهوى والشاعر يستعذب العذاب كثيرا ذلك العذاب الذي يخلصه للإنسانية وهو يكره من يخون ويظل يؤكد  نزعته الإنسانية فيصور تشاؤمه وحرمانه فالشاعر يتشاءم في أرضه حتى كره أن يسطر سطرا على أوراقه ليثبت فيه ما يعانيه فهو لا يصدق في تلك الدنيا دنيا أرضه وعيشه التي لا يعلن فيها على وجه الحقيقة  والشاعر يعلن ان الشعر الصادق هو ما خرج من دم الشاعر الصادق الواعي , ونلحظ تشكل الصراع في قصيدة الاسدي صراعا بين الشعر الكاذب والصادق ولاشك في ان الشعر الكاذب مهزوم وان الشعر الصادق ينتصر لصدقه ثم يؤكد أن جيل الخير هو الذي ينتصر وان جيل الشر يهزم ويندحر ويظل الشعر يذكر الإنسان وهمومه وآلامه فهو يبكي لعذاب الفقراء وهو يمسح دمعة طفل ما ذاق عشاء

وهو يفصح  عن ان شعره استحال إلى بكاء ودمع جار وقد احترق في نار مأساة ألامه وآهاته ثم يعلن انتكاسته في رسم آماله وأحلامه التي أصبحت عظما أو عارضا يعترض في فمه ثم ينزع الشاعر في شعره نزعة دينية وهو إقامة العلاقة بين الإنسان وخالقه جل وعلا وما تفرضه هذه العلاقة من تعاليم تجسدت من خلال تعاليم الدين الإسلامي زيادة على الرموز الدينية التي يشير إليها فالشاعر يؤكد  إيمانه بخالقه اولا إذ يردد

الله هذا الخالق العظيم الذي علمنا الحقيقة والسلام

ثم يوشي شعره مضمنا كلامه العزيز من يفعل الخير يلقه ومن يزرع الشر لا يحصد الا الشر وقد شاع في شعر شاعرنا الموز الدينية هذه الرموز التي توحي بما ترمز إليه من معان عميقة موروثة فهو يورد اسم الرسول محمد(ص ويعز شعره بمقولته الصادقة الناصعة (الكلمة الطيبة صدقة)ويورد اسم الزهراء (ع) واسم الإمام علي (ع) أسطورة الأجيال واسم الإمام الحسين(ع) ٌ ويوسم دمه بالمجد للحياة ويذكر اسم الإمام السجاد(ع) وزينب (ع)الثورة والصبر والكفاح وكذلك نرى الشاعر يوظف في شعره بعض أسماء البلاد كالعراق وأسماء المدن لما لها ظلال من الدلالات تكتنفها منها بغداد والبصرة الفيحاء وذي قار وميسان الخ من الشخصيات العربية التراثية

وأقول ان النزعة الإنسانية والدينية التي طفحت في شعر الاسدي حتى استعرت فيه وشب أوارها كانت المحفز الرئيس والدافع النفيس بن يتعلق الشاعر أي تعلق بوطنه وبوطنيته التي جن فيها حتى شغف بها حبا اذ نلحظ  هذا الإحساس بوطنه المرهف متجليا في إثناء شعره فالشاعر يحيا بحياة وطنه وقد أجاد بعمره من اجله فهو لن يهدا له بال ولم تهدا مواجعه وآلامه الا إذا رأى وطنا صحيحا معافى فهو نذر نفسه وشعره فما أروع هذا التعلق وما أروع هذا الحب اللاهب الذي اخذ بمشاعر شاعرنا كل مأخذ

كما تبدى لنظري أن طبيعة الجملة الشعرية في قصائده تخلو من أي بهرجة  او تزويق او تزييني فهي جمل مباشرة تشير إلى قضية الشاعر ومساءلته  التي تشغله من دون ان تفقد قدرتها على الإيحاء واستيعاب المعنى وربما كانت مباشرتها هي ميزتها الاولى اذ استطاع الشاعر ان يلم أشتات ما يرمي إليه بكل كثافة لا تعدم الوضوح وبدقة تشير الى حيوية وكان عنده متسع لمجال الرؤية فلجوء الشاعر الى منحى ضغط الجمل في اضيق حيز استجابته لنوازع النفس المتوترة التي تلجا في التعبير عما في نفسه من اجل ذلك ظل خيال الشاعر محصورا في أداته  اللغوية ذات الجمل المباشرة الموحية وان تشبيهاته واستعاراته احتالت على موضوعا ته في التعبير عنها  وبذا فقد استعان بما يمكن ان أطلق عليه أو اسميه بالدلالة اذ جاءت جملته المباشرة محملة بالدلالات الواسعة الثرية التي تثير القلب والعقل معا من دون ان تفقد شيئا من الاستعارات والتشبيهات والكنايات استعملها انسجاما مع ما تقتضيه ضرورة لغته وتنبيء قصائد الاسدي في غالبها عن تصوير لنوازع سيطرت على انفعالاته وتفكيره التي أحالت موقفه إلى صورته الشعرية من دون ان يلغي صورته الواقعية بل جاءت الصورة الشعرية نافذة الى الواقع موحية به ونافلة القول ان الشاعر كان ينزع نزوعا ذاتيا وإنسانيا واجتماعيا ودينيا ووطنيا ذا نسق تعبيري دقيق ينطلق من خلال استعمال مركز فهو شاعر مرهف كما ألمحت بعيد الرؤية ينطلق من خلال أحاسيسه الداخلية يهتم بشوؤن الإنسان الفردية وما يرتبط بها من شقاوة وسعادة وألوان أخرى من سلوكه الاجتماعي والشاعر عبر عن مشاعره بجرارة قوية وبوضوح كما عبر عما يريد بصورة مباشرة من دون لبس أو مواربة وان اغلب قصائده وجلها تنبيء عن سهولة في التعبير ووضوح الافكارونغمة عذبة لا تخفى على المتذوق أما السهولة فمن ألفاظه المستعملة التي خلت من التعقيد والتنافر والإبهام كما قد عرض أفكاره عرضا سليما متسلسلا إما النغمية فنعني بها هذه الرنة الموسيقية التي صاحبت قصائده فتجعلك تتذوقها من اجل هذه العذوبة اللفظية وهناك نغمة داخلية لعل أهميتها تكمن في كون الشاعر يؤذي مشاعره بلون من ألوان العذابات والآلام والزفرات التي استحوذت عليه

فالشاعر الاسدي غنى أحزانه  وآلامه وعذاباته وجعلها على معظم الشفاه والألسن وتظهر النغمة الحزينة واضحة في معظم قصائد ديوانه والإنسان بطبعه يستلذ الألم والوجع المغنى وما شاعرنا الاسدي الا إنسان عزف أحزانه وآلامه وآماله وإشجانه الذاتية والإنسانية والدينية على قيثارة شعره ولعمري كان الشاعر يلح على عرض أفكاره وطرحها او بثها ولا يريد لها ان تبقى غامضة في سرها كما تتجلى في شعره فكرة الأيمان بالله تعالى والتشبث بال1ذات العلية كما ترى الشاعر متعلقا بذكر الرسول الكريم(ص)وبأهل البيت الأطهار كما تتجلى فكرة الصدق والبحث عن حق الإنسان المضاع فهو كثيرا مايلهج بذكر الانسان الذي كان همه وديدنه الشعري الذي لايفارقه ولا يغادره فهو يصرخ ويصرخ عاليا من اجله

وبعد فقد كان الشاعر الاسدي موفقا في منجزه الشعري هذا فقد أصاب هدفه ومقصده وهو لعمري بنى صرحا شعريا مرموقا يتامله المتأملون ويتمعن به المبدعون

وأتمنى أن ترد الامواه إلى أنهاره الظمأى فتختصب الحياة ويحيا الإنسانوالله اسأل له النجح والتوفيق وله كل تحية وتقدير25 /7/2009