للأدب الساخر أيضاً .. دَوْره في المعركة

(دراسة نقدية موجزة لـكتاب "فذلكات انتفاضية")

تأليف: د. محمد بسام يوسف

 

بقلم: محمد الحسناوي*

[email protected]

 

في الكتابة السياسية، كما في الكتابة الأدبية .. ألوان، بعضها جادّ وبعضها ساخر، بعضها بارد وبعضها ساحر.

بين أيدينا مجموعة مقالات، أو قُل خَطَرات، سمّاها كاتبها: الأديب الدكتور محمد بسام يوسف .. فذلكات.

الفَذْلَكَة -كما ورد في القاموس الوسيط- [مُجْمَلُ ما فُصِّلَ وخُلاصَتُهُ].. و[فَذْلَكَ الحِسابَ: أنهاه، وفرغ منه .. وهي منحوتة من قوله : فَذَلِكَ كذا وكذا، إذا أجمل حِسابه].. وهي [لفظة مُحْدَثة]، أي: لم يقلها القدماء الفصحاء.

وهكذا تكون الفذلكة الانتفاضية:

مقالة أو خاطرة تتناول مسألةً من مسائل الانتفاضة الفلسطينية المباركة باختصار.

*     *     *

إنّ بركات الانتفاضة لا تُعَدّ ولا تُحصى، لعلّ منها أن تفجّر قريحة صديقٍ أديبٍ طبيب، لم يتمالك إلا أن يُسهم قلمه في تمجيدها والتواجد معها، ومَنذا الذي لا يتواجد (أي يتعاطف) معها؟.. وهو الصحيح خلافاً للاستعمال الدارج.. (يتواجد تعني يتعاطف، وليس يوجد).

وبمناسبة استعمال الدارج من الألفاظ والعبارات .. يبرع صاحب الفذلكات أيما براعة، في توظيف الأساليب الدارجة، خدمةً لغرض السخرية، التي تحتاج إلى أكبر قسطٍ من التوصيل، والتفاعل مع الجمهور الواسع، والواقع المُعاش، من غير تفريطٍ ولا جَوْرٍ على الأسلوب الفصيح في النتيجة، بل هناك تداول في التوظيف بين الأساليب الدارجة، وأساليب القرآن الكريم والحديث الشريف، ونصوص العربية العالية أيضاً .

*     *     *

ثاني مزايا هذه الفذلكات قِصَر حجمها، تمشياً مع خفّة الدم، وحاجات  العصر، والصحافة السيارة، فمعظمها بحجم صفحةٍ واحدةٍ من قطع ( فولسكاب )، وبعضها -وهو قليل- لا يجاوز الصفحتين.

*     *     *

للعنوانات في هذه الفذلكات شأن واضح، فهي جزء من العملية الساخرة الهادفة في النصّ كله، مثل: (خطيئةُ الأحمقِ بِألف!..) و(سلامٌ حربيّ!..) .. كيف يكون السلام حربياً؟!.. هذا مفتاح أو أحد مفاتيح التعاطي مع هذه الفذلكات، التي تعتمد على: التقاط المفارقات من جهة، وتضخيم العيوب أو السلبيات أو المآخذ أو الملامح من جهةٍ ثانية، وإبراز التقابلات بين الأسود والأبيض من جهةٍ ثالثة، شأن الرسم الكاريكاتوري الناجح.. يضاف إلى ذلك توظيف التشبيه البارع في فن السخرية.

خذ هذا التشبيه مثلاً:

كرة الثلج .. المتّحدة !..

[لم يستطع (الأمين العام للأمم المتحدة).. علينا!.. أن يضبط أعصابه أكثر من أسبوعين!.. فقبل هذين الأسبوعين، لم يُقتَل أكثر من مئة طفلٍ فلسطينيٍ مسلم!.. ولم يُجرَح أكثر من ثلاثة آلاف طفلٍ وامرأةٍ وشيخٍ وشابٍّ !.. فقط!..

(كوفي أنان) كان مَنْسِيّاً في (ثلاّجة الأمم)، منذ آخر اعتداءٍ أميركيٍ على العراق العربي!.. فجأةً تُفتَح الثلاّجة!.. تفتحها (مادلين أولبرايت) على عَجَل، ثم تَركلُ كرة الثلج، التي كانت مخلوقاً يأكل ويشرب، ويتنفّس، ويتكلّم، ويبتسم، ويعبس، ويضبط أعصابه، و.. فتتدحرج الكرة، حتى تستقرّ في بحيرة (البيت الأبيض)، حيث يذوب الثلج، ويظهر المَرْج!.. والمَرْج هو (كوفي أنان)!.. الذي يتسلّم مهمّةً جديدةً، من وزارة خارجية الراعي (النـزيه) لعملية السلام (النووي)!..

يحزم (كوفي أنان) حقائبه.. ويتوجّه على متن أول طائرةٍ، متجهةٍ إلى منطقة الشرق الأوسط.. وتبدأ رحلاته المكّوكيّة المحمومة، بين الدول والأقاليم.. ويصرّح هنا وهناك، تصريحاتٍ كُتِبَت في أروقة وزارة الخارجية الأميركية.. مفادها: [إنّ عمليّة أسْرِ ثلاثة جنودٍ يهود، من الذين كانوا يحرسون أرضاً لبنانيةً محتلّةً.. يُعتَبَر عملاً استفزازيّاً، يهدّد أمن المنطقة]!..

لا تعتبوا على (كوفي أنان).. فقد كان في الثلاّجة قبل ذلك، ولم يسمع بفلسطين، ولا بالشهداء المئة، ولا بالآلاف الثلاثة من الجرحى!.. وهو لم يسمع سابقاً بالقصف الأميركي البريطاني على العراق!.. أما الآن.. فقد قرّر ألاّ يغادر منطقتنا، إلاّ بصحبة الجنود اليهود الثلاثة المأسورين!.. أما أسْرانا في سجون الدولة العبريّة، وبعضهم هناك منذ عشرين سنةً أو أكثر.. فلم يسمع بهم (كوفي)، لأنهم من العرب، ودماؤهم عربية إسلامية!..

هنيئاً للأمم بأمينها الـ (كوفي)!.. وهنيئاً للعالَم بأحد مكاتب وزارة الخارجية الأميركية، الذي اسمه (الجمعية العامة للأمم المتحدة)!.. وهنيئاً للسيد (الكوفي أنان)، الذي أطلقت عليه العجوز (أولبرايت) على ذمّة الراوي الأميركي- اسم: (بيبسي أنان)، وفي روايةٍ أخرى اسم: (كوكا أنان)، الأميركية الأصلية!.. فاحذروا التقليد!.. و(كوفي) عليكم ورحمة الله وبركاته!..]. 

ا.هـ

لعلّكَ لاحظت معي براعة تشبيه الأمين العام بكرة الثلج، سواء في برودة مواقفه تجاه الجراح العربية، أو سكوته الطويل على ما يحدث، وقبل وقوع الجنود اليهود الثلاثة في الأسْر، ثم تحرّكه أو تدحرجه السريع لإنقاذ أولئك الجنود، ولم يكن يتحرك من قبل أمام آلاف الأسرى العرب المسلمين.. هذه واحدة.. والثانية تشبيهه بمثلّجات (البيبسي كولا) أو (الكوكا كولا)، سواء في برودتها وإسعافها للظمآن غير العربي، أو في كونها صناعة أمريكية، وهنا تذكير لطيف بموضوع المقاطعة العربية للبضائع الأمريكية، ولو من وراء.. وراء!.. وهذا هو السرّ الفني الخلاّب في أعلى النصوص الأدبية: (الإيحاء)!.. كل هذا والمفروض في الـ (كوفي) أي: القهوة، أن تكون ساخنةً تغلي!.. وهذه مفارقة.

نحن ما زلنا في دائرة التشبيه الفني:

أما إذا قلّبت النظر في البَهَارات الأخرى، فسوف تصادف أولاً المقابلات التالية:

كوفي أنان ومادلين أولبرايت (رجل وامرأة)، والطريف أنّ المرأة هي التي تدحرج الرجل على علوّ مكانته (أمين عام ..)، هذه مفارقة أيضاً، ثم الموقف من الجرح العربي ومن الطرف المعادي، الجمود والحركة، البرودة والحرارة، السكوت والتصريحات، ثلاثة جنود.. آلاف الأسْرى.. إلخ..

وسوف تصادف السخرية المُرّة، حين تحمل الألفاظ والعبارات.. المعاني معكوسة، كالتهنئة بمعنى التعزية للعرب في خاتمة النص، ومثل تسمية الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنها أحد مكاتب وزارة الخارجية الأمريكية !.. وأخيراً تبلغ السخرية أوجها، حين يطلق الكاتب على الأمين العام للأمم المتحدة، المفروض فيه الحياد، اسماً أو وصفاً أمريكياً، بل صناعةً أمريكيةً مبتذلة، بل مرفوضة مقاطَعة في بلاد العروبة والإسلام، ألا وهو اسم: (بيبسي أنان) أو (كوكا أنان)، وهذه مفارقات حقيقية، وظّفها الكاتب أحسن توظيفٍ وأبرعه.

كل هذه المعطيات الساخرة الهادفة في فذلكةٍ واحدة، أو صفحةٍ واحدةٍ بحجم صفحة (فولسكاب)!..

*     *     *

من المفارقات أيضاً، ما ورد في الفذلكة التاسعة مثلاً، من ترشيح مجرمين حربييّن، عتاةٍ في الجريمة والعدوان.. لنيل جائزة نوبل للسلام!.. مثل ترشيح (شمعون بيريز) [صاحب مجزرة (قانا) الرهيبة في لبنان]، و(آرائيل شارون) [الذي لم يرتكب أكثر من ثلاث أو أربع أو عشر مجازر بشرية، لم يذهب ضحيتها أكثر من عشرين ألف إنسان!.. منها مجزرة ( قبية ) لعام 1953م، ومجزرة (صبرا وشاتيلا) لعام 1982م]، ثم ترشيح (آيهود باراك) الذي [ارتكب العديد من الجرائم والمجازر فقط، مثل الاشتراك في قتل الأسرى المصريين في حرب الخامس من حزيران لعام 1967م، والتمثيل بجثة الفدائية الفلسطينية (دلال المغربي)، والاشتراك في قتل القيادات الفلسطينية قديماً وحديثاً ..]..

مَن يرشّح هؤلاء لجائزة السلام؟.. أنت تسأل هذا السؤال!..

الكاتب يسألك أيضاً بإيحاء: ومَنذا الذي يراهن على عقد اتفاقيات السلام معهم؟!..

المفارقة نفسها في فذلكة: (نساء .. سياسيات!..)، حين يسخر الكاتب من عبقرية (هيلاري كلينتون) [المطعونة بخيانة زوجها الديمقراطي جداً حتى العظم]، ومن (مادلين أولبرايت) [تلك اليهودية العجوز حين تخرج بكامل زينتها، باعتبار أن عمرها لم يتخطّ سنّ المراهقة!..]، ومن ثالثتهن في التحيّز للعدوان الصهيوني: (ملكة السويد) [التي لا تصرّح عادةً أي تصريحٍ سياسيٍ، امتثالاً للدستور السويدي .. ومع ذلك دبّت النخوة في أوصالها، فنطقت الذهب الأصفر، حين قالت: (إنّ القيادة الفلسطينية تستغلّ الأطفال، فتدفع بهم إلى الموت عن طريق مواجهتهم لجيش الدفاع الإسرائيلي بالحجارة، فيضطر الجنود الإسرائيليون " الطيبون " لإطلاق النار عليهم، وقتلهم دفاعاً عن النفس!..)].

*     *     *

بقي أن نتساءل : لماذا كان عدد هذه الفذلكات إحدى وعشرين، لا أكثر ولا أقل؟!.. أجابت على هذا التساؤل جريدة (اللواء) الأردنية، حين نشرت هذه الفذلكات، بأنّ عدد الدول العربية أيضاً إحدى وعشرون!.. وهكذا.. التلميح مرةً أخرى، يُغني عن التصريح!..

      

* أديب سوري يعيش في المنفى