محمديات وليد الأعظمي المنهج والملامح
محمديات وليد الأعظمي
المنهج والملامح
عبدالله العقيل
|
|
بقلم: الدكتور جابر قميحة |
كان المستشار عبد الله العقيل منصفاً غير مسرف ولا غالٍ حينما كتب عن الشاعر العالم الداعية وليد الأعظمي (1930 – 2004)، ووصفه بأنه "شاعر عاش قضايا أمته الإسلامية في أنحاء الدنيا كلها، وليس مختصاً بقطر دون قطر، فالعراق، والعالم العربي كله، بل والعالم الإسلامي برمته هو شغله الشاغل، فهو يتحدث عن فلسطين وكشمير وقبرص والفلبين والشيشان والجزائر وزنجبار وسائر الأقطار الإسلامية التي نابتها النوب، وأرخى الظلم بكلكله عليها.. فما كان الأعظمي شاعر الدعوة في العراق وحده، بل كان بشعره يتخطى الحدود، ليكون على ألسنة أبناء الحركة الإسلامية الذين أحبوه، وأحبوا شعره، وكان الوقود الذي يشعل الحرائق في القلوب، ليهب ذووها إلى ميادين العز والفخار، وهم ينشدونها مرة ويهتفون بها مرات(1).
مواهب متعددة
ووليد الأعظمي الشاعر الموهوب كان متعدد الجوانب، فقد كان خطاطاً فناناً، ومحققاً بارعاً، وعالماً داعية بالقلم واللسان.
ومؤلفاته تدور حول المحاور الآتية:
أولاً: التاريخ والتراجم: من كتبه:
1 – تاريخ الأعظمية.
2 – أعيان الزمان وجيران النعمان في مقبرة الخيزران.
3 – تراجم خطاطي بغداد المعاصرين.
4 – شاعر الإسلام حسان بن ثابت.
5 – شعراء الرسول.
ثانياً: تراجم أبطال الأنصار: (وكل ترجمة في كتاب مستقل)، ومنها:
1 – حسان بن ثابت.
2 – كعب بن مالك.
3 – عبد الله بن رواحة.
4 – عباد بن بشر.
5 – قتادة بن النعمان.
6 – أبو لبابة.
7 – سعد بن معاذ.
8 – أسيد بن حضير.
9 – أبو طلحة.
10 – حارثة بن النعمان.
11 – عقبة بن عامر.
12 – أبو دجانة.
ثالثاً: تحقيقاته الأدبية، ومنها:
1 – ديوان العشارى.
2 – ديوان الأخرس.
3 – ديوان عبد الرحمن السويدي.
رابعاً: كتب إسلامية في العقيدة والدفاع عن الإسلام، ومنها:
1 – المعجزات المحمدية.
2 – الرسول في قلوب أصحابه.
3 – السيف اليماني في نحر الأصفهاني.
دلالات..
فنحن إذن أمام شخصية ذات عقلية موسوعية تنهل من ثقافات متنوعة، رحيبة الأرجاء، وخصوصاً الثقافات الإسلامية والعربية، وتعتز بالمعطيات الدينية والتراثية السوية: عقيدة، وفكراً، وتاريخاً وشخصيات.
وهو كذلك شخصية "متناسقة" الملامح والتوجهات – إن صح هذا التعبير – بمعنى أن أعماله المنظومة وأعماله المكتوبة كانت انعكاساً أميناً صادقاً لنسيج شخصيته في أبعادها العقلية والنفسية والعقدية والخلقية، فالرجل ينطلق من الإيمان العميق برسالته الأدبية وهو مرتكز على إيمان لا يحد بالله ورسوله ومبادئ الإسلام وقواعده.
وهذا الاتساق الإيماني يعني أنه لا تنافر – بأية حال – بين الجزئيات المكونة لعطائه الفكري والأدبي، بل تأخذ كل جزئية منها مكانها الطبيعي في هذا النسق الممتد.
وليس ثمة تنافر بين هذا "التشكيل الكلي" وطبيعته الشخصية في سلوكياتها، وتفاعلها، وتوجهاتها وتوجيهاتها.
"فقد وقف بجانب الإيمان ضد الكفر، وفي صف المظلومين ضد الظالمين، ومع المستضعفين ضد المستغلين، واستظل في كل ذلك بظلال القرآن الكريم، وراية الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وصحابته الأكرمين والصالحين من جحافل أمته المجاهدين، أو كتائب الدعاة المخلصين(2).
وإذا كان "ورد زوارث" قد عرف الأسلوب بأنه "الشخصية" فالأعظمي يصدق عليه أن نقول: "إن الأدب هو الشخصية"، فقد عاش الواقع وعاش الحياة "ولعه بالواقع والحياة جعله – بحق – شاعر الشعب، وشاعر الإسلام. شاعر الشعب: يشدو له حين يفرح، ويبكي له حين يأسى، ويزأر من أجله حين يُظلم، ويصرخ صراخ الحارس اليقظ إذا أهدرت حقوقه، أو ديس حماه.. وشعبه هم المسلمون في كل مكان عرباً كانوا أو عجماً، بيضاً كانوا أو سوداً، رجالاً كانوا أو نساءً.
وهو أيضاً شاعر الإسلام، وكل شاعر حقيقي للشعب لا بد أن يكون شاعراً للإسلام، فالإسلام هو دين الشعب ومنهجه الذي ارتضاه الله له، وارتضاه هو لنفسه، بمقتضى عقد الإيمان(3).
واتصال وليد الأعظمي، وكونه يعيش ما يقول، وكون ما يقول يملك عليه كل نفسه، يجعله في مصاف الشعراء العقائديين الذين إذا سمعت شعرهم أحسست فيهم كل ذلك، فوليد إذن لا يفصل بين عمله الشعري، ونشاطه السياسي، ولا بين جماليته وجهاده(4).
ومن يعرفه عن كثب يرى في شعره صوراً صادقة له في تواضعه، وبساطته، وإبائه، وحرصه على كرامته الذاتية، والتزامه لحدود إسلامه، وجهاده في سبيل رسالته(5).
دواوينه الشعرية
ولوليد الأعظمي خمسة دواوين جمعت في مجلد واحد، ورتبت كما يأتي:
1 – ديوان الشعاع، ص17.
2 – ديوان الزوابع، ص105.
3 – ديوان أغاني المعركة، ص209.
4 – ديوان نفحات قلب، ص289.
5 – ديوان قصائد وبنود، ص393.
وبلغت صفحات المجلد الذي ضم هذه الدواوين – مع المقدمات – 476 صفحة من القطع الكبير.
شاعر رسالي..
والشاعر وليد – كما ذكرنا من قبل وكما أجمع من قدموا لشعره – كان يؤمن – منذ بداياته الشعرية –بهادفية الشعر ورساليته، فلم يكن هذا الإيمان فجائي الوجود، بل كان انبثاقاً فنياً طبيعياً من قلب مسلم عالم يرى في الشعر وسيلة دعوية بناءة، وجهاداً ميموناً بالكلمة الفعالة الحرة الصادقة، وقد ألح على هذا المعنى عشرات المرات في شعره، فهو يصدِّر ديوانه الشعاع بالأبيات الآتية:
ولست الشاعر وخـير الشعر ما كان فـما ملت إلى ليلى.. | الرخوالـذي يـقنع بالهمس صريح الغاي كالشمس ولا فكرت في قيس(6) |
وفي هذا الفلك تسبح أبياته الآتية:
أعـاهـد الله فـي سر وفي عقلي وقلبي وإخلاصي وتضحيتي ما هزني ذكر "سلمى" للقريض ولا هـذا حـمى الله ما جاوزته أبداً.. | علنألا أمـيـل إلـى يـأس ولا لـلـه فـي أمـل عندي وفي ألم (ريم على القاع بين البان والعلم) ولارتـعـت حواليه ولم أحم(7) | سأم
كما يصدّر ديوانه "أغاني المعركة" بالأبيات الثلاثة الآتية:
لـساني لم ينطق حراماً ولا ولـم أتـلـون كـالـذين تلونوا وحسبي من الشعر الحلال قصائد | هوىوشـعـري لم يضمم كلاماً وزاغـوا وراغـوا خسة وتصيدا نطقت بها تبقى إذا لفني الردى(8) | مفنداً
وأمام هذه الرحابة الشعرية ذات الامتدادات المتنوعة لشعر وليد الأعظمي، لا يستطيع الباحث أن يقدم تقييماً شاملاً لشعر الأعظمي، في هذا الصفحات القلائل وأضعافها، وإيماناً بهذا الواقع نكتفي بوقفة نقدية تقييمية أمام نوع شعري واحد من أنواعه الشعرية، وهو "قصيدة المناسبة"، ومنهج الشاعر في نظمها.
ونعني بقصيدة المناسبة ما كان الدافع إلى نظمها حدث، أو حلول ذكرى حدث تاريخي أو اجتماعي أو فردي.. كان له دوره الفاعل في الأمة، ومسيرتها التاريخية كمعركة معينة، أو ظهور زعيم معين، أو وفاته، أو نزول كارثة كزلزال، أو سيل عارم، أو وباء كالكوليرا مثلاً، وقد تكون المناسبة خاصة كزفاف، أو ميلاد، أو وفاة، ويجد الشاعر في نفسه الباعث الذي يدعوه إلى النظم في هذه المناسبة(9).
ولكني – حتى في حدود هذا النوع – اكتشفت أن كثيراً جداً من شعر الأعظمي منظوم في مناسبات دينية ووطنية وقومية واجتماعية، لذلك – حرصاً على الإيجاز المنتج المطلوب – آثرت – بل اضطررت – إلى أن تكون وقفتي النقدية التقييمية للون من شعر المناسبات، وهو "القصائد المحمدية" التي نظمها الشاعر في مناسبات ذكرى المولد النبوي، وليلة القدر، وبدر، والإسراء والمعراج وغيرها(10).
مع المحمديات
وأهم محمديات وليد الأعظمي، القصائد الآتية (وهي موزعة على دواوينه الخمسة بلا ترتيب زمني، ولكني أعرضها مرتبة زمنياً، فهذا يسهل للدارس التعرف على التطور الفني والموضوعي للشاعر):
1 – وحي الهجرة (1950)، ص137 – 139.
2 – تحية رمضان (حزيران 1953)، ص135، 136.
3 – يوم محمد (أيلول 1954)، ص199، 200.
4 – ليلة الرسول (نيسان 1955)، ص54 - 56.
5 – بدر الكبرى (أيلول 1959)، ص140 – 143.
6 – ليلة القرآن (نيسان 1961)، ص184 – 186.
7 – وحي الإسراء (كانون الأول 1962)، ص244 – 246.
8 – ربيع النبي (تموز 1964)، ص220 – 230.
9 – راية النبي (تشرين الثاني 1964)، ص284.
10 – سيوف محمد (بدر) (شباط 1965)، ص285 – 287.
11 – إمام الأنبياء (حزيران 1966)، ص339 – 341.
12 – يا رسول الجهاد (كانون الثاني 1967)، ص321 – 325.
13 – المولد النبوي الشريف (مارس 1969)، ص450 – 454.
14 – زيارة الرسول (نيسان 1969)، ص455 – 458.
15 – يوم النبي (آذار 1976)، ص 348 – 350.
16 – صدى البردة (آب 2002)، ص438 – 442.
وأمام هذا العطاء الفني الغني الثرار سيكون حديثنا في حدود محور واحد هو:
منهج القصيدة المحمدية وطوابعها العامة
من فضول القول أن نقرر أن شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانت موضع حب المسلمين واعتزازهم، فقد كانوا يحبونه ويقدمونه على النفس والأهل والولد، وكل عزيز وغالٍ مما يملكون، وصدق حسان بن ثابت (رضي الله عنه) إذ قال (مخاطباً الكفار):
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاءُ
وبهذا الحق القوي الصادق شهد عروة ابن مسعود الثقفي مبعوث قريش إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحديبية، إذ عاد إلى قريش وقال:
"يا معشر قريش، إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه، وقد رأيت قوماً لا يسلمونه أبداً"(11).
ويروي لنا التاريخ قصة خبيب بن عدي (رضي الله عنه) الذي أسره الكفار غدراً عند "ماء الرجيع" فلما أوثقوه وهموا بقتله قالوا له:
"ارجع عن الإسلام، ونخلي سبيلك".
فقال: "لا إله إلا الله، والله ما أحب أني رجعت عن الإسلام، وأن لي ما في الأرض جميعاً".
قالوا: "أفتحب أن محمداً في مكانك، وأنت جالس في بيتك؟".
فقال: "والله ما أحب أن يشاك محمد بشوكة، وإني جالس في بيتي"(12).
واستمرت مسيرة الحب هذه على مدى العصور، وإن تلبست هذه العاطفة النبيلة – عن بعض الصوفية بغلو شديد جداً، يتعارض مع جوهر الإسلام، والطبيعة البشرية لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كما نرى في قوله تعالى:
)قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد..(- (الكهف: 110).
وقوله تعالى:
)قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً(- (الإسراء: 93).
وأهم الطوابع والملامح العامة في محمديات الأعظمي:
1 – طول النفس:
وكأني بالشاعر الداعية حرص على أن تتسع كل محمدية من محمدياته لأكبر قدر من القيم الإسلامية والإنسانية التي يؤمن بها، وكثير منها يلح عليه بالتكرار – بأساليب متنوعة – لتأكيد هذه القيم وترسيخها وتجذيرها في نفوس المتلقين، شأن الداعية الصادق مع ربه وضميره الحريص على أن تؤتي كلماته ثمارها التي تنفع المتلقي في دنياه وأخراه.
ويطول نفس الشاعر في قصيدة "صدى البردة" وهي من ثلاثة وسبعين بيتاً (ص483)، وقصيدة "يا رسول الجهاد" وجاءت في 65 بيتاً (ص321)، وقصيدة "ربيع النبي" من ستين بيتاً (ص220)، وقصيدة "بدر الكبرى" وجاءت في 51 بيتاً (ص140)، وقصيدة "وحي الهجرة" من 41 بيتاً (ص137).
وقد يسرف بعض محبي شاعرنا وليد – ونحن جميعاً نحبه – فيطلق اصطلاح "ملحمة" على هذه القصائد الطويلة، أو بعضها، ولكن الأصح والأدق أن توصف بأنها "مطولات شعرية تاريخية"، والمطولة الشعرية – كما يرى الدكتور عز الدين إسماعيل – تعد تطوراً جديداً للملاحم من جهة، وللقصيدة الغنائية من جهة أخرى، بعد أن تركت بدايتها الغنائية الصرف، وتطورت بتطور الحضارة، ودخل فيها العنصر الفكري(13).
وإن كانت مطولات الأعظمي لا تخلو من بعض الطوابع الملحمية، كوجود الشخصية المحورية، وهي شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وبراعة التصوير وجلال الأسلوب(14).
***
2 – التوهج الوجداني:
وشاعرنا الداعية مسكون دائماً بحب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وتراه مسكوناً دائماً بحب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وتراه في محمدياته – من البداية للنهاية – يتلقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو متوهج العاطفة، فياض الوجدان، وخصوصاً في مطالع المحمديات والمطلع قد يطول فيستغرق ثلث أبيات القصيدة المحمدية.
وهدف المطلع – كما هو معروف – تهيئة نفس المتلقي وتفتيحها لتلقي المعروض الشعري بإحساس متفاعل مستجيب، مشاركاً الشاعر معايشته لشخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم).
ومطالع المحمديات تختلف في الشكل الفني في العرض، وهناك ثلاثة أشكال، ولا مزيد:
أ – الشكل الأول: يتمثل في صورة شعرية جمالية كاملة للجو المهيئ للقاء شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والشاعر يقوم هنا بدور "الراوية من الخارج"، كما نرى في مطلع قصيدة "بدر الكبرى" 140.
هـي البدر يمحو نحس ظلمته وزالت دواعي الخوف عن كل خائف ومـاتـت أصـول الشر لما تفتحت | البدركـذاك محت عنا ظلام العدى وولـى عـلـى أعـقابه ذلك العسر عيون مدى آفاقها يرقص النصر(15) | (بدر)
***
ب – والشكل الثاني يتمثل في استخدام أسلوب المناجاة:
ويعتمد هذا الأسلوب على استحضار أو تمثل شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والتحدث إليه مباشرة، وهذه الطريقة أدل على توهج الوجدان، وقوة إحساس الشاعر بالحضور النبوي، كما نرى في مطلع قصيدة "يوم محمد" وقد استهلها الشاعر بالأبيات الآتية، (ص199):
أبـاسـمـك أم باسم الفضيلة ونـورك أم نـور الـعدالة قد بدا.. فـمـنـه ظـلام الظالمين قد انجلى ومن نورك الدنيا استضاءت وأشرقت | أبتديقـصيدي فإني حرت في ذاك يـقـطـع أحـشـاء الظلام المبدد؟ وأيـن ظـلام مـنـه لـم يـتبدد؟ وهـبت عليها منك نفحة سؤدد(16) | سيدي
***
قد تكون المناجاة لا لشخصية الرسول مباشرة، ولكن لرمز ارتبطت به الانتصارات النبوية، والقيم الإسلامية، كما نرى في قصيدة "راية النبي" ص284، وهي راية "العُقاب"، وقد جاءت القصيدة كلها بأسلوب المناجاة، فالشاعر يستهلها بالأدبيات الآتية:
راية المصطفى اخفقي في السماء اخـفـقـي تخفق القلوب حناناً رمـقـتـك العيون من كل أفق مـنـك تـستلهم الزحوف نشيداً | أنـت رمـز الخلود رمز ورجـاء يـفـوق حـدَّ الرجاء وحـبـتك القلوب محض الولاء عـبـقـريـاً يثير روح الفداء | العلاء
ومن القصائد ما يسيطر عليها أسلوب المناجاة أو على أغلب أبياتها كقصيدة "إمام الأنبياء"، ص339.
وأسلوب المناجاة من المحب الذي استغرقه الحب إلى المحبوب يجنح إلى الإطناب والامتداد؛ ففي ذلك متعة للمناجي، أو "تلذذ بالذكر"، كما يقول البلاغيون، ويدل على قوة الشعور والإشعار بقوة الحضور، والمعايشة والاندماج، ومن ثم كان الإطناب والاسترسال أنسب ألوان الأداء في هذا المقام(17).
***
ج – والشكل الثالث: يتمثل في التعامل المباشر بعرض المعطيات القيمية والمثل الإيمانية، وإن تمتع المطلع بملامح جمالية أكثر من بقية القصيدة، كما نرى في قصيدة "وحي الإسراء" ص244، وقد استهلها بقوله:
هـتف الزمان مهللاً هي سر نهضتنا ورمز جهادنا لا شـيء كالإيمان يرفع أمة لا شيء كالإيمان يدفع غافلاً | ومكبراًإن الـعـقـيدة قوة لن وبـهـا تـبلج حقنا وتنورا لـتقوم تلوي الظالم المتجبرا عـن حقه أو عاجزاً متحجراً | تقهرا
3 – القيم أولاً والوقائع ثانياً:
في هذا السياق علينا أن نفرق بين الأنواع الشعرية الآتية:
أ – التاريخ الشعري: هو نوع من الشعر التعليمي، يعرض وقائع وشخصيات تاريخية، صيغت في شكل موزون مقفَّى كأرجوزة ابن عبد ربه التي جاءت في 456 بيتاً، وقد نظمها راصداً فيها غزوات الملك الناصر إلى سنة 322هـ، وقد خلت من أي طابع ملحمي، وتجردت من الخيال والجمال الأسلوبي(18).
ب – الشعر التاريخي: وهو الشعر الذي يأخذ مادته الفكرية من التاريخ: شخصيات ووقائع ومواقف وقيماً، وهو يتفاوت في درجة اقترابه أو ابتعاده من "الشعرية" وجداناً وتصويراً وتعبيراً.
ومن أشهره قصائد ديوان "مجد الإسلام" لأحمد محرم، الذي أطلقوا عليه – خطأ – اسم الإلياذة الإسلامية بعد موت الشاعر، فالديوان في مجموعه لا يمثل ملحمة بمفهومها الدقيق.
ويصدق هذا الحكم على ما سماه عامر البحيري "ملحمة أمير الأنبياء"(19).
ولا كذلك محمديات الأعظمي؛ فهي وإن صدق عليها وصف الشعر التاريخي، تجعل القيم الدعوية والإنسانية عقيدة وخلقاً وسلوكاً وسياسة أظهر وأقوى مضامين القصيدة، أما الوقائع والأحداث فتأتي في المرتبة الثانية، وبتعبير آخر: لا تساق لذاتها لهدف معرفي، ولكن لاستخلاص دلالاتها القيمية، وقيمتها تقاس بما تعكسه من هذه الدلالات حتى لو كانت صغيرة لا تشغل حيزاً واسعاً في الزمان والمكان، وهذا يتسق مع طبيعة شاعرنا الداعية الذي يهمه في المقام الأول أن ينتصر لدينه وينشر دعوته، وينهض بأمته ومجتمعه.
وما كتبناه آنفاً في هذا البحث إنما هو توطئة لاستخلاص القيم الدعوية والإنسانية من محمديات وليد الأعظمي، ونلتقي على هذا الوعد إن شاء الله.
الهوامش:
(*) أذكر القارئ أننا نقصد بالأدباء: الشعراء والكُتَّاب المبدعين في الأعمال القصصية والمسرحية، وما دار في فلكهما، وأقصد باللغويين: النقاد والمتخصصين في علوم اللغة وفقهها، والنحو والبلاغة، وذلك إذا كانت الدعوة إلى الإسلام وقيمه أهم أهدافهم، ولا يصدق ذلك على الفقهاء وعلماء الشريعة، فالدعوة إلى الإسلام وقيمه هي عملهم الأصلي الذي فيه تخصصوا، وآمل أن أكمل المسيرة التي بدأها الدكتور علي عشري زايد (رحمه الله) بدراساته عن الأدباء الدعاة.
(1) من تقديم الأستاذ العقيل لديوان ولدي الأعظمي (الأعمال الشعرية الكاملة) ص9، 10، دار القلم – دمشق ط (1)، 2004م، وننوه هنا بأنه هو الذي قام بطبع هذه الأعمال على نفقته الخاصة، جزاه الله خيراً.
(2) د. محسن عبد الحميد، ص294 من تقديمه لديوان "نفحات قلب" للأعظمي (الأعمال الكاملة).
(3) د. القرضاوي: ص23 من تقديمه لديوان "الشعاع" للأعظمي (أ. ك).
(4) نعمان السامرائي: ص109 من تقديمه لديوان "الزوابع" للأعظمي (أ. ك).
(5) نور الدين الواعظ، ص211 من تقديمه لديوان "أغاني المعركة" للأعظمي (الأعمال الكاملة).
(6) ديوان الشعاع، ص26.
(7) ديوان الزوابع، ص111.
(8) ديوان أغاني المعركة، ص219.
(9) يدرس الطلبة المصريون في السنة النهائية من المرحلة الثانوية " الأدب العربي في العصر التركي" توطئة لدراسة الأدب الحديث، ويستعرض الكتاب المدرسي مظاهر الضعف والانحدار في هذا الأدب، ويذكر أن أهمها "شعر المناسبات"، وهو رأي يدل على سطحية النظر؛ لأن معالجة مناسبة معينة في قصيدة شعرية لا يعيبها، وحتى يكون التقييم صحيحاً يجب النظر إلى القصيدة نظرة شاملة من ناحية العاطفة والتعبير والتصوير، كما أن النقد لا يعترف بأن هناك موضوعات شعرية، وموضوعات غير شعرية، فكل موضوع صالح للشعر يستوي في ذلك عجائب الدنيا السبع، والنملة التائهة، والطين الحقير، فمعيار التقييم إذن ليس "الموضوع"، ولكن معالجته معالجة فنية جمالية.
(10) كانت شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) على مدار التاريخ – موضوعاً لمئات من قصائد المدح، وربما كان أقدمها قصيدة الأعشى – الشاعر الجاهلي، ومطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم المسهَّدا
وقد أدركه الموت وهو في طريقه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لمدحه.
ومن أشهر قصائد المدح قصيدة كعب ابن زهير "بانت سعاد"، وقد عني بها كثير من الشعراء تشطيراً وتخميساً، وشرحاً ومعارضة، ومدائح حسان بن ثابت معروفة مشهورة، ومن أشهر المدائح "بردة البوصيري" (608 – 697هـ)، وممن عارضها: البارودي، وأحمد شوقي، وتوالت قصائد المدح النبوي وما زال لها وجودها وحضورها حتى الآن.
انظر د. زكي مبارك: المدائح النبوية في الأدب، وخصوصاً الصفحات 60، 147، دار الجيل – بيروت: 1992. انظر كذلك للدكتور نبيل سليمان: الاتجاه الإسلامي في الشعر المصري المحافظ، وخصوصاً الصفحات 294 – 298، الهيئة المصرية العامة، القاهرة، 1990م.
(11) السيرة النبوية لابن هشام: 2/ 314، ط(2) 1995م.
(12) المقريزي: إمتاع الأسماع، تحقيق محمود شاكر، 177، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1941م.
(13)انظر في تفصيل هذا الرأي: "الأدب وفنونه" للدكتور عز الدين إسماعيل، 122 – 125 (مكتبة النهضة العربية القاهرة، 1979م).
(14) لمعرفة المزيد عن الملاحم وأنواعها، انظر في "في أًصول الأدب" لأحمد حسن الزيات، 352 – 365، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط (3).
(15) وانظر كذلك مطالع قصيدة "يوم النبي" ص348، و "المولد النبوي الشريف" ص450، وقصيدة "زيارة الرسول" ص455.
(16) وانظر كذلك قصائد : "إمام الأنبياء" ص339، و "راية النبي" ص284، و "سيوف محمد"، ص285.
(17) انظر لسيد قطب: "التصوير الفني في القرآن"، ص94 – 96، دار المعارف، القاهرة: ط (3)، وانظر كذلك ما كتبه في عرضه، وتفسيره، ووقفاته الفنية أمام الآيات 37 – 41 من سورة إبراهيم (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد... يوم يقوم الحساب) في ظلال القرآن جـ4، ص2108 – 2111، دار الشروق بالقاهرة، 1980م.
(18) انظر: العقد الفريد: 4/ 500، وانظر د. شوقي ضيف: دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص46، دار المعارف بالقاهرة، 1985م.
(19) من ص9 إلى ص52 من ديوان عامر، الهيئة العامة، القاهرة 1957م، وتكاد تكون ملخصاً لديوان "مجد الإسلام" وهو من 450 صفحة، مطبعة المدني، القاهرة 1983م.