علي أحمد باكثير ابتكر الشعر الحر ثم انصرف إلى النثر

علي أحمد باكثير ابتكر الشعر الحر

ثم انصرف إلى النثر

علي أحمد باكثير

 

بقلم: أحمد فضل شبلول

 

يعد الشاعر الكبير علي أحمد باكثير (1328 ـ 1389 هـ) واحداً من أوائل الذين فتحوا الطريق أمام الشعراء الجدد لاستخدام الشعر المرسل عن طريق مسرحية " روميو وجولييت " ثم شعر التفعيلة أو الشعر الحر عن طريق مسرحيته " أخناتون ونفرتيتي " التي كتبها عام 1375 هـ / 1938م.

  وقد بدأت شرارة هذا الشعر في الانطلاق عندما تحدى باكثير أستاذه الإنجليزي الذي كان يدرس له مادة الأدب الإنجليزي بكلية الآداب جامعة الملك فؤاد الأول (جامعة القاهرة فيما بعد) فكان هذا الأستاذ يرى أن اللغة الإنجليزية اختصت بالبراعة في الشعر المرسل وأن الفرنسيين حاولوا محاكاته في لغتهم فكان نجاحهم محدوداً، وأن اللغة العربية لا يمكن أن ينجح فيها هذا اللون من الشعر، فما كان من باكثير إلا أن قال له:

" أما أنه لا وجود له في أدبنا العربي فهذا صحيح، لأن لكل أمة تقاليدها الفنية، وكان من تقاليد الشعر العربي التزام القافية، ولكن ليس ما يحول دون إيجاده في اللغة العربية، فهي لغة طيعة تتسع لكل شكل من أشكال الأدب والشعر" .

فنهره أستاذه وقال له:

-كلام فارغ،

- ثم لجأ باكثير إلى النسخة الإنجليزية من مسرحية " روميو وجولييت " لشكسبير فتخير منها مشهداً فعالجه بالشعر المرسل ثم ترجم المسرحية كلها وتبين له أنه اختار البحور المتحدة التفاعيل التي تستوي تفعيلاتها كالكامل والمتدارك والمتقارب، أما البحور التي اختلفت تفعيلاتها فلم يخترها تلقائياً، وكانت هذه أول تجربة له في الشعر المرسل.(1)

  ولقد وجد باكثير أن هذا اللون من الشعر يصلح أكثر للشعر المسرحي أو المسرح الشعري، فكان اكتشافه لسر البناء بالتفعيلة بمعنى أن تكون وحدة نغمية تتلاحق بتدفق دون نظرة إلى الحيز الذي تشغله (2)، ومن ثم فقد خضعت له تفعيلة المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعولن) أثناء الترجمة (3)، لذا فإن س . موريه صاحب كتاب " حركات التجديد في موسيقى الشعر الحديث " ترجمة سعد مصلوح، يرى أن قصيدة باكثير التي نشرها في مجلة الرسالة عام 1945م بعنوان " نموذج من الشعر المرسل الحر " تعد إحدى تجربتين هامتين لا يمكن إغفالهما، لأنهما دفعتا الشعر الحر خطوة إلى الأمام.

  ولعل القصيدة التي يقصدها س . موريه في قصيدة " يا فرنسا اسمعي " المنشورة في 15/7/1364 هـ ـ 25 يونيو عام 1945م بمجلة الرسالة، والتي يقول باكثير في مقطعها الأول:

عجباً كيف لم تعصف بالدنى زلزلة ؟

كيف لم تهو فوق الورى شهب مرسلة ؟

يا لها مهزلة !

يا لها سوءة مخجلة !

مثلت دورها أمة تدعي ضلّة أنها من كبار الدول.

سلمت للمغيرين أوطانها

لتواري في سوريا وفي لبنان الخجل.

أمة ولت من وجه العدو فراراً

من ضربته الأولى انهارت ككثيب الرمل انهيارا

خاست بمواثيق أحلافها الباسلين

الذين توافوا إلى أرضها منجدين

ثم خرت ساجدة تحت أقدام أعدائها المعتدين (4)

  ويعلن باكثير أنه ليس له فضل ريادة هذا اللون من الشعر، وإنما سبقته محاولات وتجارب في ذلك، ففي اللقاء الذي أجراه فاروق شوشة مع علي أحمد باكثير لتلفزيون الكويت قبيل وفاة باكثير، يقول الرجل:

" هناك محاولات من جميل الزهاوي الشاعر العراقي اقتصر فيها على إرسال البيت من القافية، فالأبيات كما هي في الشعر العربي القديم، إلا أنه أطلقها من القافية وسماها بالشعر المرسل، ثم جاء بعد ذلك الأستاذ محمد فريد أبو حديد ونظم نظماً مختلفاً عن هذا لأنه أرسل البيت من القافية وزاد على ذلك بأن اعتبر البيت الشطر بيتاً (5).

  وعلى الرغم من ريادة باكثير لهذا الشكل من الشعر أو اختراعه له كما يقول كمال النجمي، فإنه لم يتابع نمو التجربة وتطورها على أيدي الشعراء اللاحقين، فعندما سأله فاروق شوشة ـ في اللقاء السابق ذكره ـ عن مستقبل هذا الشعر من خلال دواوين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور أجاب بقوله:

" الواقع أنا قليل القراءة لمثل هؤلاء مع الأسف، لأنني شغلت بأشياء كثيرة، وأنت تعرف أن الوقت ضيق، وكان بودي لو أتابع.

  ولقد حاول عدد كبير من النقاد والأدباء المحدثين أن ينسبوا ريادة الكتابة في هذا الشكل الجديد لكل من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي.. وغيرهم، ولكن يعترف السياب صراحة بريادة باكثير للشعر الحر فيقول:

" إذا تحرينا الواقع وجدنا أن الأستاذ علي أحمد باكثير هو أول من كتب على طريقة الشعر الحر في ترجمته لرواية شكسبير " روميو وجوليت " التي صدرت في كانون الثاني عام 1974م بعد أن ظلت تنتظر النشر عشر سنوات "(6)

ولكن انشغل باكثير بعد ذلك عن الشعر بعامة، ولعل من الأشياء التي انشغل بها اتجاهه لكتابة المسرحية النثرية، فهو يرى أن النثر هو اللغة المثالية للمسرحية مهما كان موضوعها شعرياً (7)، وهو بهذا يعلن عن تخليه تماماً عن الشعر، ومن ثم فإنه لم يشتهر لدى الأجيال التالية له على أنه شاعر، ولكن اشتهر بكونه كاتباً مسرحياً ومؤلفاً روائياً الأمر الذي دعا كلاً من الدكتور عبده بدوي والدكتور محمد أبو بكر حميد إلى الحديث عن علي أحمد باكثير شاعراً، فقدم د. عبده بدوي كتابه "علي أحمد باكثير شاعراً غنائياً " وصدر عن حوليات كلية الآداب جامعة الكويت عام 1400 هـ ـ 1981م، أما د. محمد أبو بكر حميد فيعد من أكثر الناس حرصاً على تراث باكثير الشعري والنثري، ولديه مخطوطات كثيرة لم تر النور بعد ولكن يدفعها للنشر كلما سنحت الفرصة لذلك، وهو على اتصال دائم بعائلة باكثير للحصول على أية مخطوطات أو رسائل أو معلومات عن الرجل وعصره، وهو يرى أن باكثير ظلم كثيراً في أواخر حياته وبعد مماته، يقول د. أبو بكر حميد بعد أن تحدث عن جهود باكثير الأدبية ونجاحه الأدبي الكبير:

" ورغم هذا النجاح والجرأة والجد إلا أن أديبنا قد لقي في السنوات العشر الأخيرة من حياته الكثير من الجحود والنكران حين وجد قوم يشنون حرباً طاحنة عليه، ويصرون على إطفاء نوره من خلال إبعاده عن خشبة المسرح وإغلاق أبواب النشر في وجهه وسحب الأضواء عنه، ثم مهاجمة حفنة من النقاد المأجورين له، إلى جانب تجاهل دوره البناء في تاريخ المسرح العربي ونكران دوره الريادي التجديدي في المسرح الشعري العربي وأثره في تطوير الرواية العربية التاريخية " (8).

  وفي إطار إحياء دور باكثير الأدبي وبخاصة الشعري قام د. أبو بكر حميد بتحقيق وتقديم ديوان باكثير " أزهار الربى في شعر الصبا " وصدرت طبعته الأولى عن الدار اليمنية للنشر والتوزيع عام 1408 هـ (1987م) ووقع في حوالي ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط ، واشتمل على 138 قصيدة من القصائد التي كتبها الشاعر في صباه واثناء وجوده في حضرموت وأندونيسيا، وقد قسم المحقق هذه القصائد إلى الأبواب التالية: باب الأدب، باب الوصف، باب النسيب، باب الإخوانيات، باب الاجتماعيات، باب الرثاء، باب الاستيحاء والتشطير، أيضاً لدى أبي بكر حميد مجموعة ضخمة من القصائد المصورة التي نشرها باكثير في الصحف والمجلات العربية والإسلامية في كل من حضرموت وأندونيسيا وسنغافورة والحجاز ومصر.. وغيرها. وقد قام بترتيبها حسب تاريخ النشر تمهيداً لطباعتها في كتاب مستقل، ويرى أبو بكر حميد أن شعر باكثير المنشور لا يشكل إلا حوالي 30% من مجموع شعره كله الذي لا يزال معظمه مخطوطاً باستثناء ديوان شعره في حضرموت الذي طبع تحت عنوان " أزهار الربى في شعر الصبا " (9)... ويضيف:

" إن شعر باكثير كاملاً من الممكن أن يصنف في دواوين ثلاثة تضم شعره في حضرموت، والحجاز ومصر وبدون هذا العمل لا يمكن الحكم على باكثير شاعراً " (10).

وعلى الرغم من مقولة حميد السابقة فقد حكم د. عبده بدوي على شعر باكثير ووصفه " بصرامة القالب الشعري، والحضور الشديد للتراث العربي والمواريث الإسلامية وشدة الانفعال ـ لا الفعل ـ بالأحداث التي كانت تمر بأمته وبه، وعدم المعاودة والصقل الفني لكثير من الشعر الذي قاله، وعدم التعامل مع العناصر الدرامية في القصيدة، ولكن يبقى له على الرغم من الصمت المضروب عليه. أنه في بعض شعره تجاوز الطريقة الشطرية الخليلية، وتجديد الموشحات وطريقة ما اصطلح عليه في عصره باسم " الشعر المرسل " واسم " مجمع البحور" وذلك حين تعامل بنضج واقتدار مع تفعيلة بحر المتقارب من غير تقيد بعدد من التفعيلات في كل بيت " (11).

  وقد تحدث د. عبده بدوي في كتابه " علي أحمد باكثير شاعراً غنائياً " عن عدة محاور في شعر باكثير منها: الحب (حيث تختلط قضية الحب عنده بقضية الموت) ومصر (ويلاحظ عبده بدوي أن باكثير كان يقوم بعملية توفيق بين المصرية والعروبة، وقد كانت عملية التوفيق هذه وراء أول مسرحية ألفها في مصر، وهي مسرحية " أخناتون ونفرتيتي "، وعلى الرغم من أنه غنى غناءً مشجياً للثورة فإنه لا توجد له مواقف حاسمة في العديد من القضايا السياسية الداخلية في مصر، كما أنه كان على علاقة قوية ووطيدة بأشهر أدباء مصر في عصره.

الشكل الشعري عند باكثير: 

  أيضاً من المحاور التي كتب عنها عبده بدوي: باكثير والعرب (وقد ركز على قضية فلسطين في شعره) وباكثير والإسلام، والأناشيد عند باكثير، وأخيراً قضية الشكل عنده، ولعل هذا المحور الأخير يعد من أهم المحاور التي كتب عنها المؤلف، فالشعر عند باكثير يركز على الجانب السمعي أكثر من الجانب البصري، وهو يعد بهذا امتداداً لمواريث القصيدة العربية، كما يتحقق في هذا الشعر ائتلاف اللفظ مع الوزن بمعنى أن تكون الأسماء والأفعال تامة، وأن يكون كل في مكانه الصحيح في غير اضطرار إلى نقص أو زيادة أو تقديم ما يجب أن يؤخر، و تأخير ما يجب أن يقدم.. وما إلى ذلك، ويميل شعر باكثير بعامة إلى البحور القصيرة، وإلى القافية الجزلة، وإلى المواريث الخاصة بالقصيدة المحكمة، وإن إضافته الحقيقية داخل هذا الشكل تكمن في شعره الذي تسود فيه روح الدراما، واكتشافه أن البحور التي تصلح للشعر الجديد هي التي تتكون من تفعيلة واحدة مكررة كالكامل والرجز والمتقارب والمتدارك والرمل، وبالإضافة إلى هذا فقد أدرك باكثير أن بحر المتدارك يعد أصلح البحور كلها لهذا الضرب من الشعر.

ألف بيت من الكامل:

  إنه لم يفعل ذلك عن عجز في الكتابة من البحور الأخرى، ولكن عن قوة واقتدار وتمكن، وإذا ألقينا نظرة على قصائد ديوان " أزهار الربى في شعر الصبا " فسنجد أنه يحتوي على 138 قصيدة وقعت في حوالي2750 بيتاً شعرياً موزوناً مقفى توزعت على 12بحراً شعرياً كانت النسبة الغالبة فيها لبحر الكامل (التام والمجزوء) الذي جاء منه أكثر من ألف بيت، يليه بحر الطويل الذي جاء منه حوالي 450 بيتاً ثم الخفيف (التام والمجزوء) حوالي 375 بيتاً، فالوافر 345 بيتاً، فالرمل (التام والمجزوء) 185 بيتاً، فالبسيط 110 أبيات (منها أربعة أبيات من مخلع البسيط) فالمتقارب حوالي مائة بيت، فالسريع 45 بيتاً، فالرجز (التام والمجزوء) 40 بيتاً، فالمجتث 40 بيتاً، فالهزج أربعة أبيات، ثم المنسرح بيتان.

  وقد احتوى عدد قليل من القصائد أو المقطوعات على أكثر من بحر واحد مثال على ذلك مقطوعة " حكمة مبتكرة " التي احتوت على سبعة أبيات، وجمعت بين أربعة بحور شعرية، هي: البسيط ومجزوؤه، الرمل والكامل والمجتث، ويقول الشاعر في هذه القصيدة:

لا  تخف سرك من يرجو إذاعته
حـب بـطـن الـمـرء ما iiقد
كــوز مــاء iiورغــيـف
عـبـد الأنـام المال حتى iiإنهم
ومـحـوا مـن الدنيا نقطة ذاله
أن  يـصـبـر الـمـرء iiخير
فــلا تـكـن مـن iiقـضـاء






فـرب سـر إذا أخـفيته iiظهرا
قـالـه  عـلـى خـير iiالخيار
وعـلـى الـدنـيـا الـبـوار
في كسبه ارتكبوا الحرام وجاروا
حـبـاً لـذاك وأصـله ذي نارُ
مـن  أن يـكـون iiجـزوعـا
قــضـاه ربـي iiهـلـوعـاً

  ولعل هذا النوع من التنوع في استخدام البحور الشعرية في أكثر من مقطوعة في فترة مبكرة من عمر الشاعر يشي بالرغبة الكامنة لديه لتجاوز الإطار العروضي التقليدي إلى آفاق أكثر رحابة وسعة، وهو ما وجده في الشعر المسرحي أو المسرح الشعري، ولعل مسرحيات أحمد شوقي الشعرية التي تعرف عليها الشاعر علي أحمد باكثير أثناء وجوده في الحجاز عام 1352 هـ، قد ألهبت حماسه للاتجاه إلى كتابة هذا اللون الأدبي، الذي أخذ يصب فيه همومه الشخصية والوطنية والإسلامية بعد ذلك.

     

الهوامش:

(1)   انظر لقاء فاروق شوشة مع علي أحمد باكثير برنامج (فن وفكر) بالتلفزيون الكويتي عام 1969م والذي أعيد نشره في مجلة " اليمن الجديد " وانظر أيضاً د. عبده بدوي " علي أحمد باكثير شاعراً غنائياً " الكويت: حوليات كلية الآداب ـ الحولية الثانية 1981م (1400 هـ) ص36. وانظر أيضاً د. محمد عبد المنعم خاطر، باكثير والشعر المرسل وباكثير وبداية الشعر الحر، القاهرة: مجلة الكاتب، العددان 201، 206 ديسمبر 1977 مايو 1978م.

(2)   و (3) عبده بدوي، مرجع سابق، ص39.

(4)  محمد أبو بكر حميد، شعر علي أحمد باكثير المنشور في الصحف والمجلات من 1929 إلى 1969م (معد للطباعة) ولعل س. موريه يقصد هنا شكل القصيدة المفردة وليس الشكل المسرحي الذي كتبه باكثير قبل هذا التاريخ.

(5)  لقاء فاروق شوشة السابق. وانظر أيضاً د. عبد المنعم خاطر، المرجع السابق وفيه يقول: " وإنصافاً للحقيقة يجب أن نفرق بين ترجمة " روميو وجوليت " التي لم تبعد كثيراً عن تجارب أبي حديد في ميسون الغجرية وخسرو وشيرين وماكبث، وبين هذه المسرحية التي اعتمدت على التفعيلة الواحدة من بحر الرمل فاعلاتن، ثم أخذت تدور بها في البيت الواحد ست مرات، وقد تنقص عنها ولا تزيد عليها إلا في النادر وإن كانت هذه التفعيلة الواحدة قد تعرضت لكثير من عيوب الخبن والخبل واضطربت اضطراباً صار فيما بعد ويا للأسف سمة من سمات الشعر الحر".

(6)  مجلة الآداب، عدد رقم 6 يونيو 1994، السنة الثانية، باب مناقشات ص 69.

(7)  لقاء فاروق شوشة السابق.

(8)  محمد أبو بكر حميد، ديوان علي أحمد باكثير " أزهار الربى في شعر الصبا "، الدار اليمنية للنشر والتوزيع، ط 1، 1408 هـ (1987م) ص10.

(9)  و(10) انظر مقدمة محمد أبو بكر حميد لشعر علي أحمد باكثير المنشور في الصحف والمجلات من 1929 إلى 1969 (معد للطباعة).

(11) د. عبده بدوي، مرجع سابق، ص7.