التحولات الدلالية في شعر محمد بنعمارة
(6)
ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب
من بين مقومات التصوف:
الكتابة بالدم، الحديث عن الألوان والحروف، والجوهر المائي الفراشات…
إن الوعي الطبيعي بهذه التحولات وتجلياتها هو الذي فعَّل هذا الإنجاز. وقد تبنى محمد بنعمارة الموقف نفسه في إطار تحليل (الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر) [1]، و( الصوفية في الشعر المغربي المعاصر، المفاهيم والتجليات) [2].
يقول في كتابه الأول:" أما العمق والرمزية فيتصلان بتجربة الصوفي.إذ إن التصوف في حقيقته ينشغل باللب والجوهر. ومن ثمة فإن الصوفي الشاعر عميق في دلالاته. لأن تجربته تنبني على استكناه الحقائق العميقة، وإدراكه لتلك الحقائق، يفوق الإدراك الحسي الآلي.
ويقوم على رؤية من نوع آخر، خاطفة، فهو يلْمَح.ولذلك فهو يرى العميق الذي لا يستطيع التعبير المألوف أن ينقل، فتدفع به الضرورة إلى أن يصطنع الإيحاء والرمز، من أجل أن يقوم بعملية تقريبية لما عاشها تجريبيا." [3]
إن إيمان الشاعر / الصوفي بالدور الذي تلعبه التجربة الشعرية في تحويل الذات إلى مؤشر على القول الشعري، هو الذي جعل محمد بنعمارة يدافع عن رؤيته نظريا من خلال هذا التنظير، وعمليا في شعره.
يقول في قصيدة (في ظلها قد نستريح):
لولاك
أيتها القصيدة
ما كان هذا الكون
نورا
يأتلقْ. [4]
إن ما يسعى الشاعر أن يبثه في هذه الأسطر، كونه ينظر لتجربته الشعرية، ويخترق المألوف - كما قال- ليستشرف المستقبل، عبر كلمته. وهذا الأمر هو الذي دفع أدونيس إلى البحث في تجليات الإبداع في الشعر العربي. ولما وصل إلى التصوف الذي أفاض فيه القول، جعله قريبا من السوريالية الغربية.
يقول:" في هذا الصدد، أفضل كلمة صوفية على ما يرادفها في الغرب، أعني السوريالية. فلكلمة صوفية أصولها وتاريخها في التراث العربي وهي تعني بعد إفراغها من الشوائب التي لحقت بها، استشفاف المجهول، واكتشاف ما يختبئ وراء هذا الستار الكثيف الذي هو الواقع الأليف اليومي." [5]
إن ما اشترطه الشاعر على نفسه، لم يبق حبيس الجانب الموضوعي/ التيماتي، بل استمر مع فنية النص الشعري. وأنتج القصيدة التشكيلية ذات النفس العمودي. تتشكل فيه اللغة بمرادفات وألفاظ منسجمة إيقاعيا، وتعبيريا، ودلاليا. لكن المعنى لا يصل مباشرة، بقدر ما يحتاج إلى تأويل وتفسير.
لقد ظهرت هذه التجربة الشعرية الجديدة بقوة في ديوان محمد بنعمارة الأخير ( في الرياح … وفي السحابة ). يقول في قصيدة تحمل نفس عنوان المجموعة:
كالعباره
حرفها نور من الروح
ومزج
بين ناي، وربابه
وصلاة
ركعتاها
جمرتا عشق وموت
بين رؤيا
وكتابه [6]
إنها القصيدة التي أصبح يكتبها الشاعر، فاتنة لقارئها، ومفتونة بوهج الكلمات. تنهل من الجوهر المائي، من ماء النهر والبحر كلماتها، وتنسج لغتها من دم الكلمات ومن جنان الله. وتأتي الكلمة في نشوة المتهجد في ليل طويل بركوعه وسجوده، وإيحائه ورمزه.
هكذا شكل الشاعر نصه وسّيَر تجربته في إطار الإيقاع الصوفي، وتمت تشكيلته الشعرية بإنجاز القصيدة المتكاملة من حيث المبنى والمعنى. فالنص عنده حروف صوفية وأشجان تزهدية.
والنص كذلك غابة من الكلمات الربانية، رتبها الشاعر في دواخله وزين بها فضاءه. لذا تشكلت العلاقة بين اللفظ والمعنى باعتبارها ربطا منطقيا، لكن المنطق عنده لا يتعلق بما هو موجود في المعاجم من تعريفات، ولكن مقتبس من قبس الروح والاجتهاد الروحي.
ويعد هذا الأمر في علم الدلالة من قبيل الوحدة الدلالية:" الأكثر شمولية وهي المتركبة من وحدات على مستوى الكلمة فنعني بها تلك العبارات التي لا يفهم معناها الكلي." [7]
لكن نقول إن معناها يفهم كما سلفنا الذكر بالنظر إلى النص كلية. فلو قرأنا النص الموالي منفصلا، لما فهمنا المغزى والدلالة الحقيقية.
يقول في قصيدة ( كتاب الألحان):
أنتظر - الآن – الكلمه
تأتي…
في نشوة ليل عباده
تأتي...
بين ركوع وسجودْ
تأتي
كالقطرة تنزل
في بستان ورودْ
تأتي…
تنقل عاصفة الحرف الآتي
مع برق
يسكن
في أحداق رعود.. [8]
إن الشاعر في هذه المرحلة المتسمة بالطابع الصوفي ، لم يغفل - كما هو معهود عليه - تعريف القصيدة. وهو في غالب الأحيان يأتي غامضا، إلا أن السياق الخاص في القصيدة، ولقصائد الديوان عامة ، ولنصوص الشاعر كلية؛ تفتته وتبعد غريبه.
ليس تحرير المعنى في النص السالف تعبيرا عقما، لا ينتج الدلالة كما قد يعتقد البعض، ولكن الكسر والإيهام سبيلان لتحويل الدلالة عبر المجاز والاستعارة. فالشاعر ينتظر الكلمة ، والكلمة استعارة للفظ القصيدة، والقرينة الآتية تحمل الدلالة الحقيقية الموجودة في النص كما هي (مبعثرة) في سائر النصوص. هذا ما يتحقق فعلا عبر اللغة المكثفة التي ينسج بها الشاعر نصوصه. فغدا :" محمد بنعمارة... مفتونا بنشوى الروح.. وشق جدار الذات.. وكسر أبواب الجسد والدخول إلى مملكة الروح.. فتجد القصيدة الشعرية سحرا.. وطربا يدق في أعماق النفس.. القصيدة تجلياتها عاشق صوفي يترنح انجذابا انخطافا. في الفضاء العلوي الشاهق. " [9]
إن أول عقبة توضع أمانا ونحن نقرأ القصيدة الشعرية لمحمد بنعمارة هو الغموض الذي أسلفنا الحديث عنه. لكن هذا الغموض لا يلبث أن يزول بالقراءة المتأنية والمسترسلة لشعره، كما أن معرفة تشكيل الاستعارة التي ينسج بها تعابيره يخلصنا من هذا التكثيف اللغوي المستعصي.
وهو حين يتحدث عن القصيدة ينبع - في هذه المرحلة خاصة- من رؤية صوفية، يقول في قصيدة ( كالغيم الممطر في ذاكرتي):
بين يديها يجثم حرف صوفي
ــ أعطتك وصيتها
وانسابت في الذاكرة معانيها
ـــ لك فيما بين النهرين مكان
فأرسم وقع خطاك… [10]
تركــــــــــيب
يحق لنا بعد هذه الجولة الخاطفة حول إنتاج النص الشعري عند محمد بنعمارة، أن نؤكد بعض النتائج التي توصلنا إليها. وكما أن السير العادي للنص الشعري ينمو ويترعرع في ظل الثقافة والملكوت الشاعري، فإن التغير أو التطور الثقافي ينتج معه تحول في إنتاج الدلالة. وقد سبق في الفصل الأول الحسم في قضية التطور اللغوي والتحول الدلالي.
وسبيل التحول في دراستنا قريب من الذات الشاعرة، قريب من سلطتها وليونتها في تشكيل النص. ذلك أن الشاعر يرمي من ورائها الخروج من جو المأساة وأشجان الحزن، كما مع شاعرنا محمد بنعمارة. يول محمد إقبال عروي في (جمالية الأدب الإسلامي):" تتداخل المأساة عند الشاعر المغربي محمد بنعمارة بين النفسي والاجتماعي، ويرتدي شخصية الأمة المثخنة بالجراح، فيتذوق مرارة الانهيار الذي سيتحول حتما إلى أمل في النصر المنشود." [11]
من خلال هذه الإطلالة، نستطيع الوصول إلى أهم التجارب التي قدمنا عنها بعض النماذج سالفا. وأهم ما يمكن أن يستنتج هو الصياغة اللغوية التي يبني بها محمد بنعمارة قصائده، وذلك عبر تحقيب تجربته الشعرية إلى ثلاثة مراحل،
اتسمت المرحلة الأخيرة بتحولات دلالية بارزة. بدأت مع (مملكة الروح) وانتهت في ( في الرياح .. وفي السحابة )، والشاعر يعيش فيها رحلة التصوف.
وفي ضوء هذه الاعتبارات كان الحديث عن القصيدة هو الطاغي على عملنا وذلك لعلتين:
·اهتمام الشاعر بهذا الجانب، إلى درجة يمكن القول إن شعره لا يخلو من حديث حولها.
·اعتبار الحديث عن النص الشعري عند محمد بنعمارة سمة كبرى في بناء صرح التجربة الشعرية.
على هذا الأساس كان التعامل مع النصوص الشعرية مبنيا على استقبال النصوص ذات الصبغة التعريفية بالنص الشعري والمتعلقة بشكل التجربة. وقد تمت الاستفادة من القسم النظري بشكل مباشر، إذ تناولنا النصوص من جانب تحولاتها في الدلالة من جهة، ثم تعاملنا معها بالتفسير والتأويل، واستنطاق باقي النصوص السائرة في السياق ذاته.
من هنا كان تعامل محمد بنعمارة مع الواقع من أجل استنطاقه واستشفاف المستقبل. واستطاع أن يبلغ درجة التعبير عن شعره بشعره، وهو في ذلك ينبنى موقف المعرف بتجربته الشعرية، ويترك الفرصة للمتلقي بعد ذلك الوقوف عند الجوانب التعبيرية والجمالية. ويسعى أيضا إلى تطوير لغته الشعرية، وإكسابها سمات التحول الدلالي.
يقول عبد الله راجع في حديث له عن أسس اللغة الشعرية وبعدها عن المألوف النثري:" إن شرعية انحراف لغة الشعر عن لغة الكلام العادي وعن لغة النثر هي التي تحدد في المجال الدلالي شعرية القصيدة، وتمنحها بعدها المتميز ونكهتها الخاصة، فالشعر يشغل دائما تلك المساحة التي تفصل بين النثر والهذيان ومن هنا كانت خصوصيته وكان سر تأثيره." [12] يقول محمد بنعمارة في قصيدته ( لا أكتب إلا بدمي):
كلماتي…
ليست خارج ذاتي…
لا أكتب إلا بدمي
أو ما تلهمه صلواتي
لست الفارس
لكن الشعر – حصان
تركبه شطحاتي [13]
فالشعر بصورة خاصة، لغته ليست كلغات باقي الأجناس الأخرى. والتعامل مع الصيغ البلاغية من أهم سمات التحول في شكله. لذا كان للدلالات سمة التحول من الأصل إلى الفرع سبيلا لتحقيق مبدإ الأفضلية. واستمر الوضع كذلك مع محمد بنعمارة الذي انتبه إلى خصوصية الاتجاه الصوفي في الشعر، فنهل من ريحانه، والشعر:" لا يقدر أن يحقق قيمته الفنية إذا استمرت الدوال بالارتباط بالمدلولات الشائعة المعروفة لدى الجمهور لارتباطها بالأصول الثابتة السابقة التكوين، فالشعر ليس ممارسة تمثيلية للأفكار، بل ممارسة حية للغة." [14]
من هذا المنطلق كان التعامل أيضا مع الأشكال التعبيرية المجازية من جهة تمسكها بالموضوع المؤكد في المرحلة المدروسة. وتميز التحليل باستعراض النصوص من خلال ثلاثية بيرس الممثل، والموضوع، والمؤول. لكن اشتغالنا لم يعلق بالمصطلحات ذاتها، بل كان من جانب التطبيق العملي. وخلصنا إلى ثلاثية النص ، والشكل المتحول دلاليا وتأويله باعتماد السياق والقرينة.
خطاب الشاعر إذن صورة لنظرته، ولرؤيته الشخصية تجاه الكون والحياة والفن.
جاء في مقدمة ديوان (مملكة الروح):" إن الشعر العربي الحديث، وعلى أيدي "رواد" من كل موجاته المجتمعة في هذا العدد على الأقل، أصبح قادرا على أن يصوغ - أيضا - لغته الخاصة الشعورية والتعبيرية من فاروق شوشة و… ومحمد بنعمارة و… تتجلى لغات (أو ربما لغة) تعبيرية وشعورية " جديدة" لا بد من تنظيرها، لغة لا " تستعير" الكثير من أي لغات التراث، ولكنها لا تنفصل عنه، مستقلة وغير تابعة.." [15]
المفهوم الأساس الذي خلصنا إليه في هذه المرحلة الأولية من نمو النص الشعري، تحدث بصورة ضمنية من جراء التداول المتحول للغة الشعر. واللغة الشعرية كونها تتميز بعدم الثبات والتحول الدائم، وبصف خاصة حين نكون أمام شاعر تطورت لغته من مرحلة لأخرى،. وعلى هذا نستمتع نحن بنوع من اللذة النصية حين نقرأ القصيدة التي تسري في الاتجاه المعاكس، وتتجه قراءتنا الثانية في محاولة إعادة إنتاجه من زاوية القارئ النموذجي عند امبرطو إيكو.
[1] - محمد بنعمارة: الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط-1، 2001.( أطروحة لنيل دبلوم الدراسات العليا)
[2]- محمد بنعمارة:الصوفية في الشعر المغربي المعاصر، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدارالبيضاء، ط- 1، 2000، ( أطروحة لنيل شهادة الدكتورة).
[3] - محمد بنعمارة: الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر، ص- 139-140.
[4] - محمد بنعمارة" في الرياح… وفي السحابة، منشورات اتحاد كتاب المغرب، مطبعة فضالة، ط- 1، 2001، ص- 6.
[5] - أدونيس: الثابت والمتحول، بحث في الاتباع والإبداع عند العرب، ج/3، صدمة الحداثة، دار العودة، بيروت، ط-4، 1983، ص- 203.
[6] - محمد بنعمارة: في الرياح .. وفي السحابة، ص- 59.
[7]- أحمد مختار عمر: علم الدلالة، ص- 33.
[8] - محمد بنعمارة: في الرياح .. وفي السحابة، ص- 61-62.
[9] - علي عبد الفتاح: الصعاليك ينفجرون بالغناء، ( كتابات نقدية في الإبداع الشعري العربي للشباب )،سلسلة طبعة الجماهير، ط- 1، القاهرة، 1987، ص- 215.
[10] - محمد بنعمارة: السنبلة، ص- 63.
[11]- محمد إقبال عروي: جمالية الأدب الإسلامي، المكتبة السلفية، البيضاء، ط- 1، 1986، ص- 59-60.
[12] - عبد الله راجع: القصيدة المغربية المعاصرة، ص- 95.
[13] - محمد بنعمارة: في الرياح.. وفي السحابة، ص- 51.
[14] - أسيمة درويش: تحرير المعنى، دراسة نقدية في ديوان أدونيس ( الكتاب 1) ، دار الآداب، بيروت، 1997، ص- 46.
[15] - من افتتاحية مجلة إبداع القاهرية، رجب 1405/ أبريل 1985، عن ديوان ( مملكة الروح) ، ص- 5.