تحول التجربة الشعرية 2
2- تحول التجربة الشعرية:
بين التقسيم الزمني والموضوعاتي (التيماتي)
ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب
جاء في حوار للشاعر محمد بنعمارة في بداية سنوات الثمانين [1] تأكيد الاستنتاج السالف الذكر. ذلك أنه يوضح علاقة تجربته الشعرية بالتطور التاريخي والأحداث المحيطة به:" تجربتي الشعرية انطلقت أواسط الستينات وأثمرت الديوان الأول ( الشمس والبحر والأحزان) 1972 م . ويمثل هذا الديوان مرحلة التعلق بالمقروء الشعري من جهة، خصوصا إنتاج الرومانسية ثم تجربة العلاقة مع الطبيعة والمرأة، ولذلك اتسمت قصائد هذه المرحلة بالغنائية والشفافية والاعتماد على الإيقاع الهادئ والكلمة الهادئة. إلا أن تحولا أفرزته المرحلة الثانية وظهر في قصائد الديوان الثاني ( العشق الأزرق) وهو مشترك مع محمد فريد الرياحي. وكانت قصائد هذا الديوان تمثل القصيدة الذهنية أو ما يمكن تسميته بشعر الفكرة… ولقد عبر( ديوان عناقيد الصمت ) عن هذه المرحلة [التمزق العربي] . غير أن الغنائية التي بدأتُ بها بَدَأَت تطل من جديد في محاولة مزج بين ما هو موضوعي وما هو وجداني ذاتي.
أما المرحلة التي مثلت قطيعة مع المراحل السابقة فتبدأ بصدور ديوان (نشيد الغرباء) الذي شكل قطيعة تامة مع الدواوين السابقة لكونه يمثل أول ديوان في الحركة الشعرية المغربية ينطلق من إعلان إسلامية النص الشعري…
ويأتي ديوان ( مملكة الروح) ليعلن ضمنيا استمرار هذا المنطلق الفكري مع تطوير في خطاب النص الشعري. " [2]
لقد أثبتنا هذا النص ( بتصرف ) رغم طوله، لإبراز تحولات التجربة الشعرية عند محمد بنعمارة ( كما أقرها) [3] . والملاحظ أنه قسمها حسب التصنيف المفصل سابقا في الجدول، إذ أعطى لكل ديوان شعري سمة التجربة الشعرية:
· الديوان الأول : الرومانسية ( الطبيعة والمرأة).
· الديوان الثاني : القصيدة الذهنية.
· الديوان الثالث : المزج بين ما هو موضوعي وما هو وجداني ذاتي.
· الديوان الرابع: الإعلان عن إسلامية النص الشعري.
· الديوان الخامس : استمرارية النسق السابق وتطوير التجربة الشعرية.
يندرج تفحيص المنتوج الشعري ضمن خطة العمل الحالية. وتأطير تحولاته الزمنية ينبئ عن تحول في التجربة الشعرية - كما أكد محمد بنعمارة بنفسه - . هذا التحول يجعل الشاعر يتقمص مجموعة من الأقنعة كي يعبر عن إنتاجه الشعري بصيغ مختلفة. هذا الاختلاف في التعبير ينتمي إلا ما اصطلح عليه سالفا بالتحول الدلالي.
كان مقترحنا الأول منصبا على معرفة الإطار الذي يشتغل فيه أصحاب هذه النظرية، ونحن إذ نقارب المتن الشعري المغربي المعاصر، يحسن بنا أن نلامس تحول مفهوم النص الشعري ( القصيدة) عند محمد بنعمارة، وقد أثار انتباهنا الإكثار من الحديث عن التجربة الشعرية الذاتية في شعره، خاصة في ديوانه الأخير ( في الرياح.. وفي السحابة ) [4] بإعداد منظومة متكاملة حول مفهوم القصيدة وغايتها. لكن يتجه تعبيره في أفق المجاز والاستعارة، باعتبارهما عنصرين أساسين في إبراز التحول الدلالي.
وبانفلات التعبير عن العادي اجتاح اللفظ (القصيدة) مجموعة من الألفاظ والتعابير غير الاعتيادية( وسيأتي الحديث عنها في وقتها).
نعود أدراجنا صوب التحديد الذي أطر به محمد بنعمارة تجربته الشعرية، وقد سبق تأكيد عدم حضور التجربة الشعرية كما نفهمها، باعتبارها تحمل الجديد والخصوصية. وسواء تحقق الانتقال من مجموعة إلى أخرى أم تم التعامل في نفس المجموعة، فالحديث عن التحول يخضع لأسس موضوعية: [5]
أولاها عدم الربط المباشر بين الوضع السياسي والتجربة الشعرية، رغم أن مثل هذه التحولات تساهم في تكوين شخصية المبدع :" ذلك أن التحولات الداخلية لنوعية النص الشعري في المغرب الحديث كانت مصاحبة لتحولات خارجية، جغرافية واجتماعية، لها بالتأكيد تأثير لا يقل وضوحا عن التأثيرات الأخرى في بلورة الظاهرة الشعرية المغربية المعاصرة، واحتضانها لاختيارات جمالية وإيديولوجية تختلف عن اختيارات الحركات الشعرية التي مرت منها القصيدة المغربية القديمة والحديثة." [6]
ثانيها احتمال اجتماع مجموعة من الدواوين داخل إطار التجربة الواحدة، أو نقول تأكيد هذأ الاحتمال، وهذا ما سنبينه.
ثالثها اختفاء الرؤية الشعرية وراء المجاز والاستعارة يبعد النظرة ويشوش على المتلقي، مما يدفعه إلى إعمال الذهن.
من هذا المنطلق سنبحث أولا في مفهوم الشعر والقصيدة الشعرية عند محمد بنعمارة ، مقتفين آثارها باستكناه المضمر، وتأويل الغامض والمختفي. وسنعمد في ذلك إلى تقسيم التجربة الشعرية لمحمد بنعمارة إلى ثلاث مراحل أساسية:
· مرحلة الرومانسية : في ديوانه الأول( الشمس والبحر والأحزان).
· المرحلة الإيديولوجية: في ديوانيه (العشق الأزرق) و ( عناقيد وادي الصمت).
· مرحلة إسلامية النص الشعري والتصوف: في الدواوين المتبقية. (نشيد الغرباء) و ( مملكة الروح) مرحلة القصيدة الإسلامية المحضة، ثم ( السنبلة) و ( في الرياح… وفي السحابة ) باتجاه الشاعر نحو التصوف.
[1] - يجب الإشارة إلى هذا التحديد الزمني كي نبرز المراحل التي استنبطها الشاعر نفسه، وفي هذه الفترة لم يكن تم نشر سوى: الشمس والبحر والأحزان (1972)، والعشق الأزرق ( 1976)، وأناشيد وادي الصمت (1978)، ونشيد الغرباء ( 1981).
[2] - رشيد يحياوي: حوار مع محمد بنعمارة، المجلة العربية ( ثقافية، اجتماعية، جامعة..) تصدر من المملكة العربية السعودية، ربيع الثاني 1410، نونبر 1981، العدد 147، السنة 13، ص- 62.
98 - لنا في هذا التقسيم نظر سنثبته لاحقا، والغرض من هذا التعليل إعطاء نظرة الشاعر ذاته، حتى يمكننا أن نبين دور التجربة الشعرية في تحويل الخطاب الشعري عند الشاعر.
[4] - محمد بنعمارة : في الرياح.. وفي السحابة، منشورات اتحاد كتاب المغرب ، طبعة نونبر 2001.
[5] - لا يمكن الجزم أن كل ديوان يحمل تجربة منفردة، أو مرحلة بذاتها.
[6] - محمد بنيس : ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب ( مقاربة بنيوية تكوينية) المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط- 2 ، 1985، ص- 293 – 294.