قصة "ثورة النساء"

قصة "ثورة النساء"

للكاتب: عبد الودود يوسف(1)

بقلم: محمد حسن بريغش

ينصبُّ اهتمام كثير من النقّاد والدارسين على الأسماء اللامعة المشهورة مهما كانت مستويات إبداعهم، مما يحرم الأدب كثيراً من المواهب، والإبداعات التي لا تحظى بالاهتمام والالتفات. ويكاد يصل الأمر إلى حد الحصار، والتعتيم واقتصار الأضواء على عدد محدود من أصحاب الشهرة، أو الاتجاهات أو المراكز المؤثرة.

والأدب الإسلامي يصيبه من هذا الإجحاف الكثير الكثير، لأنه، فوق الأمر الذي يشترك به مع غيره ممن لم يحظوا بالشهرة، أو الرضى من أصحاب النفوذ، فإنه بالتزامه الإسلام، يجعله خارج دائرة الاهتمام من الذين يمسكون بأزمة التأثير والتوجيه والمراكز الأدبية والثقافية في العالمين: العربي والإسلامي.

ولكن دعاة الأدب الإسلامي مسؤولون عن هذا، مسؤولون لأنهم يحملون عبء الدعوة لهذا الأدب وهم يعرفون غربته، ويعرفون أن عملهم هذا يحتاج إلى صبر وعناء واستمرار، فهم رسل الكلمة الطيبة والأدب النظيف، والإبداع الجيد الأصيل. وهم قبل هذا ينتظرون مرضاة الله، وثوابه، وهذا يكفيهم للطمأنينة، والعزم والصبر، والثقة بما يحمله المستقبل.

                    

كنت دائماً أفتش عن تلك الإبداعات التي تحمل طابعاً مميزاً، وتمثل تجربة متميزة لصاحبها، وتحظى بوضوح التصور، وجلاء الهدف، وجمال الأسلوب والعرض، فإذا ظفرت بشيء من هذا اهتممت به، اهتمام الفرح بظفر مهم، وتحقيق غاية عزيزة. قد يقول عنها بعض المنشغلين بالدراسات المدرسية، والمكَلَفين بالمتابعات الغربية وما على شاكلتها، قد يقولون هذه التجربة ضعيفة، أو فيها كذا وكذا، ولكنني مع ذلك أمضي في عرض هذه التجارب لأنها تحمل سمات أدب جديد متميز، يشق طريقه بثقة، ويطرح تصوره بأصالة، ويسطّر تجربته بطريقته الخاصة، ولا يخشى لوم الغيورين على تقاليد المدارس الفنية الغربية أو غيرهم.

وهذا لعمري هو طريق النجاح الحقيقي للأدب الإسلامي الأصيل.

                    

قصة متميزة في موضوعها، وأسلوبها، لأنها لا تطرح التجربة من تصور إسلامي عادي، أقصد لا تطرح التجربة وهي تدافع عن المجتمع الإسلامي، وتنثر هنا وهناك بعض الإضاءات الإسلامية، أو تصور شيئاً من آثار الإسلام في النفس أو المجتمع على استحياء، بل تنقل التجربة كلها إلى أوروبا، لكي تعرض صورة هذه المجتمعات المادية، التي استعبدتها المصالح والشهوات، ونخر في أعماقها الفساد، وهناك يطرح الإسلام بصورة عملية واقعية، صورة الفطرة التي تثور على الهبوط والزيف، والفساد.

نعم قصة متميزة في نظري هي قصة "ثورة النساء" للكاتب الأديب عبد الودود يوسف(1).

وأحداث القصة تصور حياة فتاة لم تبلغ الخامسة عشرة بعد (سامورا) تعيش في أسرة أوروبية همها المادة والجنس، في عاصمة الثقافة الأوروبية، والدراسات الإنسانية، والحضارة والتقدم (باريس) وهذه الأسرة مكونة من الأب (بيتان) الذي يعيش لملذاته ويرتبط بعشيقته (فرانسوا) وينصرف عن زوجته.

والأم (سانيث) لا يهمها من الدنيا إلا الملذات، ولذلك لا تترك عشيقها (شاتران) بل تظل معه في حياة ماجنة.

والأخ (بورجيه) المادي الرعديد، الذي يبحث عن المال والملذات.

تصاب (سامورا) بجروح خطيرة إثر مشاجرة بين أخيها وبعض الشباب تدخل على أثرها المستشفى، وعند شفائها يتخلى الأبوان عنها، ويهربان كي لا يدفع أحدهما أجرة العلاج، وتضطر (سامورا) للعمل في المستشفى لمدة ثلاثة شهور لكي تسدد ثمن العلاج، وهكذا تنفصل عن الأسرة دون أن يسأل أحد عنها، ومع ذلك تشعر بأنها بدأت تحقق أحلامها "سأبدأ العمل قبل أربع سنين، لكن لا بأس، سأخفف عن أبي وأمي شيئاً من عبئي الثقيل، وتنهدت وراحت تحلم: سأعمل وأكسب المال.. سأشتري شقة وسيارة، وأجد لي زوجاً شهماً، أنجب منه الأولاد، وعندما يولدون سأبذل لهم راحتي وروحي، وسأجعلهم يعيشون في جنات النعيم".

وهكذا ابتدأت العمل بفطرة سليمة، دون معرفة أو خبرة، ظناً منها أن المجتمع سوف يتيح لها أن تحقق ما تريد.. بهذه البساطة، والبراءة والفطرة الإنسانية التي لم تفسدها النظم الشيطانية بعد، تحلم (سامورا)! لقد رفضت معونة إحدى الممرضات التي تعرف ما يدور في رؤوس الرجال، وما يموج به المجتمع، وقالت لها: "أحذرك من العمل.. إنهم الآن يخططون لسهراتك.. سمعتهم بأذني يتندرون".

ولكنها لم تدرك ما ترمي إليه الممرضة، واعتذرت بأن العيش مع أسرتها عذاب مرير، ولكن الممرضة أدركت أن هذه الفتاة غريرة لا تعرف هذا المجتمع فقالت لها: "مهما كان عذابك في بيتك شديداً فعذابك خارجه أشد بكثير"، وبكت الممرضة (سوندا) التي كانت لقيطة، وعملت بالمستشفى لكي تعيش "قد تندهشين إذا قلت لك إنني لا أعرف لي أماً ولا أباً، فأنا لقيطة.. كمعظم العاملات في هذا المشفى".

شريحة اجتماعية تضعها الممرضة أمام هذه الفتاة لكي تحذرها من الوقوع في هذا المنحدر الذي وصلت إليه الممرضة. ولكن (سامورا) التي تجرعت مرارة المعاملة من أبويها أجابت: "أبي وأمي موجودان.. إنني لا أدري ماذا ينفعني وجودهما، لقد تركاني، وذهب كل منهما إلى عشيقه".

وكأن المصير واحد، اللقطاء وغير اللقطاء، هذه صورة المجتمع الغربي الحديث ومع هذه الصورة، فإن نداء الفطرة يبقى أقوى من العذاب، وأقوى من كل المحاذير، ها هي (سوندا) تتمنى أن يكون لها أسرة مهما كان العذاب: "إنك أسعد منا، يا ليت لي أباً، وأماً، وأخاً، قد يسيؤون إليّ، لكن هذا بسيط مقابل أن لا أعرف لي أماً، ولا أباً، ولا أخاً، ولا أختاً".

                    

كل مَنْ في المستشفى من المديرين بدأ يطارد الفتاة الجديدة، أو الصيد الجديد (سامورا). (أندريه) رئيس المشاغل، (جابون) مدير قسم الكي. وكلهم يسعى للإيقاع بها، وظهر التنافس بين الرجلين، وظلت (سوندا) تحذرها من الوقوع في براثن أحدهم، ولكن براءة (سونيا) جعلها لا تعرف ما تخشى منه زميلتها (سوندا)، وبقيت تنظر إلى دعوتهما لها للسهر أنه نوع من الصداقة، ولذلك قالت لها (سوندا): "ألا لعنة الله على هذا المجتمع الذي أجبرك على العمل منذ طفولتك، كان يجب أن تلعبي في بيتك، لا أن تكوني عاملة في أكثر الأعمال تعباً".

وعرفت (سوندا) أن هذه الفتاة لا تعرف حقيقة هذا المجتمع، ولا تعرف ما يخبئ لها الرجال في هذا المجتمع، ولذلك أرادت أن توضح لها أكثر وأكثر وأن تحذرها من الوقوع في الشباك بشكل جلي فقالت لها:

"حبيبتي سامورا.. إياك أن يخدعك الرجال، إنهم لصوص وشياطين وذئاب وأنت صغيرة وحلوة، تعالي لأعطيك هديتي، تعالي تعالي يا حبيبتي" وأعطتها بنطالاً لتلبسه قبل أن تذهب للسهرة التي دعاها إليها (أندريه) وقالت لها بإلحاح وجد: "إياك أن تخلعي البنطال أثناء السهرة" بهذه الطريقة غرست في نفس (سامورا) الفتاة الصغيرة الحذر والخوف من هذا المجتمع الفاسد، ومن هؤلاء الرجال الذين لا ينظرون للنساء إلا بعيون الذئاب المسعورة، الحيوان المفترس.

وأدركت (سامورا) وهي في قصر (أندريه) معنى نصيحة (سوندا) وأصرت على موقفها، ولم يستطع (أندريه) الخبيث بكل مغرياته أن ينال منها شيئاً.

أما (سوندا) فقد عادت ذات يوم وهي تبكي وتنتحب، ولما سألتها (سامورا) عن سبب ذلك قالت لها: "منذ سنين ونحن نجرب بعضنا بعضاً –هي وخطيبها- لقد أعجبني، فهو ذكي ولطيف، وقد حملت منه فأنا الآن في الشهر الثالث، لكنه هددني، إما أن أسقط حملي أو يتركني، إنه لا يريد طفلاً، رجوته خلال الشهر الأخير كثيراً أن يحافظ على الجنين، إنني أحبه، إنه ولدي، أريد ولداً، ولكنه أصر على رأيه وقال: إن تجربتنا لم تنته بعد.. سألني آخر مرة رأيته فيها ماذا ستصنعين بالجنين؟ فلم أجبه. فلما ذهبت لأراه البارحة لم أجده.. ترك لي ورقة يقول لي فيها: "سوندا، انتهت علاقتنا، إن تجربتنا قد فشلت، إنك قد رفضت أن تسمعي طلبي.. وداعاً..!"

صورة أخرى من صور هذا المجتمع، اللهو العابث باسم الخطوبة، اقتناص اللذة، والسعي للممارسة الجنسية بلا مسؤولية، المتعة الحرام مع التنكر للتبعة، المرأة للجنس فقط، للمتعة، فإذا انتهت لفظوها كأي متاع رخيص "يريد أن يستمتع دون مسؤولية حتى يتخلص مني متى شاء" هكذا قالت (سوندا) وهي تبكي لمأساتها الجديدة.

وظلت في حيرة من أمرها: هل تضيف لقيطاً جديداً للمجتمع، ليعاني ما تعانيه من الإذلال والمهانة؟ أم تسقطه مهما كانت تبعات هذا العمل؟

لقد آثرت إجهاض نفسها، وبعد أن شفيت من ذلك، صارت كالنساء الأخريات، لا ترد طلباً، ولا تستنكف عن دعوة حمراء ولكنها في الوقت نفسه لم تنس أبداً أن تحذر (سامورا) وتبث في نفسها الإصرار والثبات على عدم السقوط.

                    

مضت ثلاثة شهور على عمل (سامورا) وقررت أن تغادر المستشفى بعد أن رأت أمها (سانيث) فجأة، وعرفت أن لها علاقة بـ (أندريه) حيث تواعدا على السهر معاً، بعد أن رفضت رجاء ابنتها في تخليصها من هذا العذاب.

وشعرت (سوندا) بفراغ كبير عند وداعها (سامورا) إنها أحبتها لبراءتها وذكائها، وخافت عليها كما تخاف على أختها أو ابنتها، لو كان لها أخت أو ابنة، ولذلك قالت لها وهي تودعها:

"كُتب علينا العذاب يا سامورا، إن مجتمعنا الظالم لا يعرف الرحمة، لا يعرف الحنان، ولا يعرف المرأة إلا للمتعة، يلقي فيها الرجل شهوته، أو خادمة تعمل طوال مدة العمل.

أما أن تكون ابنة محبوبة، فلا. وأما أن تكون زوجة لرجل واحد، فلا، وأما أن تكون أماً ترحم أطفالها، فلا، وأما أن تكون أختاً محترمة، فلا. لكن هؤلاء المجرمين، لا يدركون أن المرأة حين تشقى، فإنها تشقى الأمة كلها، إنها هي التي تلد اللقيط، وهي التي تهمل الابن، وهي التي تسعى خلف العشيق بعيداً عن الزوج، لكنهم لا يريدون أن يفهموا".

هكذا ينقل لنا الكاتب صورة هذا المجتمع المادي، الذي لا يعرف معنى الإنسانية، الذي يعيش وسط ضجيج الآلات، ولمعان الأضواء، وبريق الألوان، مع أنه يدعي التقدّم والحضارة.

ولكن (سامورا) أضحت تدرك حقائق لم تكن تعرفها، لقد عاشت مأساة (سوندا)، ورأت صورة النساء والرجال في المستشفى، وعرفت المكر والخداع، وذاقت مرارة الحرمان من العطف: من أمها وأبيها وأخيها الذين غرقوا في ملذاتهم وماديتهم، حتى تفسخت إنسانيتهم، لذلك أضحت أكثر وعياً، وإصراراً على خطها النظيف، فأجابت (سوندا): "لا ينفع البكاء يا سوندا، يجب أن نغير هذا الوضع أو نموت" "تمتمت سوندا: وكيف نغيّر الوضع يا سامورا؟ الظلام دامس! قاطعتها سامورا: أنا أُعاهدك أن لا أعاشر رجلاً إلا إذا كان زوجاً، وإن تزوجت فسوف أشترط عليه أن أُنجب له أطفالاً، وأن أعمل خارج بيتي ما دام عملي لا يتعس طفلي وزوجي، فإذا سبب لهم إزعاجاً تركت العمل غير آسفة. أريد أن أُصبح أُماً، وأُريد زوجي أن يصبح أباً، وأُريد أن يشبع أطفالي من الحنان".

هذه ثورة الفطرة السليمة التي تمردت على الكبت، والتزييف، والإفساد، وهذه ثورة المرأة التي صغت لنداء فطرتها المركوزة في كل خلية من خلاياها، وهذه ثورة النساء التي يبشّر بها الكاتب في ديار الغرب ديار الحيوانية التي تلبس أزياء الإنسان.

كانت (سامورا) رمز العفة، رمز الفطرة لذلك لبست البنطال حتى تصون عفافها، وتمردت على الرجال، حتى لا تغدو سلعة رخيصة وعاهدت صديقتها على أن تظل وفيّة لهذه المبادئ التي تحرر المرأة من عبث الرجال، وفساد المجتمع.

                    

مضت (سامورا) في هذا الطريق، رأت صورة جديدة من عبث أمها مع عشيقها الجديد (أندريه) وبيتها أصبح داراً للعبث ومستودعاً للخمور، وزادت النقمة على (سامورا) من الرجال الذين أصبحوا يتحدثون عنها، وعن إبائها ويقولون: "إذا أصبح النساء كلهن سامورا فلا متعة ولا شهوات" أما النساء العاملات، فقد زاد إعجابهن بها، وبذكائها ونقائها، فيقلن: "إذا كنّا جميعاً مثل سامورا، فيضطر الرجال للزواج منّا، واحترامنا، سيختفي اللقطاء، وتزول التعاسات من حياة الأبناء والبنات، وسنصبح من أسعد النساء".

وأصبح الناس بين طريقين: طريق الفطرة الإنسانية الكريمة، التي تحترم المرأة والرجل، وتصون المجتمع، وتحب الأبناء، وترعى الأطفال، وتحفظ حقوق الجميع، وتسود العواطف النظيفة، ويتعامل الرجل والمرأة على أساس المسؤولية والتكريم والمحبة.

وإما طريق الغواية، والفساد، والعبث، والمجون..

                    

واستطاعت (سامورا) أن تكسب ثقة كثير من الناس بعد أن شبّ حريق في دار للحضانة، واستطاعت بفدائيتها أن تنقذ الأطفال من الحريق، وغدت بعد ذلك مربية للأطفال في بيت أمها لقاء تقاسم الأرباح بينهما، واستعانت بأخيها ليقود السيارة لقاء أجر محدد، ولكن الجشع الحيواني الذي تعودت عليه الأم دفعها للاتفاق مع ابنها على طرد (سامورا) للاستئثار بأرباح الحضانة مما اضطر (سامورا) للاستعانة بالشرطة لتنفيذ الاتفاق المُبرم مع أمها لمدة ستة شهور، وبعدها، فارقت بيتها، وبدأت تفكر بعمل جديد.

                    

ويعرض الكاتب صورة أخرى من صور هذا المجتمع الهابط، الذي تنعدم فيه الأخلاق والمثل، والإنسانية، وتسود شريعة الشيطان المادية، والشهوة الجنسية، ففي مجال البحث عن عمل جديد، تقرأ (سامورا) وصديقتها (سوندا) إعلاناً عن معهد السكرتيرات، فيتفقن على التقدم إليه، ويعرفن أن هذا المعهد يضع الجمال شرطاً أساسياً لقبول المنتسبات للمعهد، وهذا يمثل فلسفة هذا المجتمع في نظرته للمرأة، أما غير الجميلات، فمسكينات لا يجدن فرصة للحياة، المعاهد لا تقبلهن، والرجال لا يقبلون عليهن وليس أمامهن كي يعشن إلا الأعمال الشاقة طوال العمر، مع الحرمان من كل عاطفة احترام أو حب.

وفي معهد السكرتيرات يتعامل الأساتذة والمسؤولون مع الفتيات، تعامل الرجال في أسواق الرقيق، مواخير الفساد، فهناك حفلة بداية العام، يصافح الأساتذة المقبولات واحدة واحدة، على أصوات الموسيقى، ووسط حلبة الرقص، ويسكرون ويعربدون، ثم ينتحي كل أستاذ بمن أعجبته من فتيات المعهد.

ويندر أن يكون هناك من يشذّ من الرجال عن هذه القاعدة، ما عدا (مسيو سوفان) أستاذ السلوك العملي حيث كان يكره الرقص مع الفتيات، ويقول: يجب أن يكون الأستاذ أباً أسطورياً لتلميذاته وكأنه يمثل جانباً من جوانب الفطرة التي تتأبى على هذا الشذوذ، وتنفر من هذا الهبوط المسف، والسلوك المشين.

وكان (مسيو سوفان) يمثل الجانب المثالي بين زملائه، ولذلك كان يقول لطالباته: إن أهم الصفات التي ينبغي أن تتميز بها (السكرتيرة): "الأدب الجم، مع سرعة التجاوب، ومقاومة كل ضغط، والتمتع بالحرية الكاملة" وأدت نظرته المثالية هذه، وبعده عن صخب زملائه إلى تبادل الإعجاب مع (سامورا) حيث شعر لها بالحب، وبادلته هذا الشعور، وعملت عنده سكرتيرة خاصة له. وتطورت العلاقات بينهما، وكانت تحاوره ويحاورها، وتناقشه، يود الوصول إلى الحقيقة كما تود هي كذلك، ولكنه يرى أن الوصول للحقيقة يكون عن طريق العلم والتجربة، لأنه كان يفتقر إلى العقيدة التي توصله إلى الحقيقة عن طريق الرسل، والوحي. ولهذا ظل يتخبّط في تفكيره، يصيب ويخطئ، يحاول الخروج من أسر المجتمع، ولكنه يفشل بعد حين، ويرنو دائماً إلى الحقيقة التي تبعث الراحة في النفس والعقل، كالوضاءة النيّرة التي تهفو إليها القلوب الحرّة.

وكأي رجل في الغرب كان حبه لسامورا يدفعه لطلب اللقاء معها، ولكنها رفضت ذلك بغير زواج، وعلمت أستاذها كيف تتحول الدروس النظرية إلى واقع عملي.

وفي حفلة انتخاب ملكة جمال المعهد –وهذه صورة أخرى من صور الدعارة والفساد المنظم للحضارة الغربية- صرخت (سامورا) الجميلة: "لا.. لا أريد أن أكون سلعة للعرض، أرفض أن أشترك في حفلة الانتخاب، ولن أخلع بنطالي، ولن أرفع غطاء رأسي".

وزاد إعجاب الفتيات بها، تحركت الفطرة التي تكدست فوقها الأقذار وركام المجتمع الماجن، وزاد إعجاب الدكتور (سوفان) بها أيضاً وطلب من (سامورا) الزواج، فاشترطت لقبول طلبه أن يكون لها ولد، وأن لا يكون لزوجها عشيقة أو عشيقات، وأن تكون له وحده وأن تكون أماً تحمل الحنان لطفلها، ليصبح زوجها أباً يُعطي كل العطف لولده وأن تعمل لكسب المال شريطة ألا يتعارض عملها مع سعادة طفلها وزوجها فإذا تعارض ذلك تركت العمل، وتعهد الزوج بالنفقة.

كانت هذه الشروط قاسية في مجتمع لا يعرف المسؤولية تجاه المرأة، ولا ينظر إليها بغير منظار المتعة الحسيّة، ولذلك رفض الموافقة فقالت له: "لن ترضى لأنك تريد أن تعشق، تريد أن تهمل طفلك، وأن تستمتع بمال زوجك، تريد البيت محطة، تريد لطفلك أن تربيه المربيات والخادمات"

                    

كان حفل معهد السكرتيرات موضع ضجة كبيرة في باريس، لأنه يمثل سوق النخاسة حيث يأتي كبار الشخصيات والأغنياء لاختيار الجميلات، وشراء العشيقات باسم (السكرتيرات) ورأوا جميعاً كيف صرخت هذه الفتاة الجميلة بجرأة وقوة: لا.. لا أُريد أن أكون سلعة للعرض. كان كل واحد من هؤلاء الذئاب يتمنى أن يظفر بها عشيقة، وكل منهم كان يود أن يبذل ما يبذل من المال لشراء موافقتها، ولكنها صفعت هذه الذئاب، فراحت أوساط باريس تتحدث عن هذه الظاهرة الغريبة. الفتيات يتراكضن إلى أحضان الرجال الذين يبذلون لهن المغريات من المال والمتاع، أما (سامورا) فكانت شيئاً آخر..

عملت (سامورا) في مطعم شعبي قرب المستشفى، ورجعت (سوندا) إلى المستشفى لتعمل سكرتيرة في قسم الأديان، وبدأن يوزعن الأوراق المكتوبة على العاملات "عشيقة لا، زوجة نعم" وأصبحت هذه الأوراق كالصيحة المدوية، بين النساء، تتجاوب جميع العاملات معها، ثم زادت صلات (سامورا وسوندا) مع العاملات في المستشفى، وبدأن ينشرن الوعي بينهن، ويدفعنهن للتعاون والتآزر وعدم الاستجابة لشهوات الرجال، وكان أول ثمرات هذه التوعية أن مسيو (جابون) حاول طرد إحدى العاملات لأنها رفضت السهر معه فلم يستطع، لأن زميلاتها وقفن معها، وهددن بترك العمل جميعهن.

وتبدأ المعركة، بين الرجال المستغلين أمثال (أندريه) وبين النساء اللواتي يردن التحرر من عبودية الشهوة والحاجة أمثال (سامورا وسوندا)، واستخدم (أندريه) كل أساليب الخداع والإغراء، وتظاهر بأنه يريد الزواج من (سوندا) وكذلك يفعل غيره، وكانت هذه المحاولات تبدأ بلمسات منعشة بالأيدي، وجلسات خلوية، وغزل خفيف، ثم وعود بالزواج تطرق أوتار القلوب المعذبة والنفوس التي تعاني الحرمان، وتتوق إلى الزوج والطفل والحنان، ثم يصل الذئب إلى فريسته، ويتنكر لكل هذه الوعود.

هذه أساليب الخداع، وصور السقوط للمرأة الغربية، ولكن (سامورا) تظل بوعيها وثقتها صامدة تحذر زميلاتها من هذه الأساليب الخادعة.

                    

ويعرض لنا المؤلف صورة الأسرة التي تمزقت شرّ ممزّق ممثلة بأسرة (سامورا) فأخوها (بورجيه) أصبح غنياً وهو الجبان الرعديد الجاهل، عن طريق خداعه لامرأة لقيطة غنية، خدعها بالزواج بعد أن أوحت له بمالها، ثم ماتت بطريقة ما، وآل المال إليه، وهذه صورة من صور التعامل الإنساني في الغرب باسم القانون والنظام وحقوق الإنسان. ووالدها تطرده أُمها من البيت، وتطرده عشيقته بعد أن أصبح فقيراً، ثم يطرده (بورجيه) ابنه فيخرج بائساً وهو يقول: "ظلمنا أبناءنا، والآن يظلمنا أبناؤنا" ولكن (سامورا) تلتقي به في المطعم الذي تعمل فيه فتأخذه معها إلى البيت، وتشتري له ثياباً جديدة، وتعتني به، فيبكي ندماً وحزناً على ما فرّط في أمسه، ولكن لات حين مندم.

وعلمت (سامورا) ما فعلته أمها وعشيقها بأبيها، وأن هناك قضية في المحكمة بينهما، لذلك ساعدت أباها، حتى استطاع أن يكسب الدعوى، ويحصل على ثمن الأرض التي أرادت زوجته وعشيقها اغتصابها منه، وعندها شعر الأب أنه رب أسرة حقيقية أبناؤها (سامورا، وسوندا، وهامونيه).

أما والدة (سامورا) فقد تنقلت من عشيق لعشيق، حتى وصلت إلى أحضان (أندريه) الذي خدعها، بعد أن زوى جمالها، واستطاع أن ينقل ملكية البيت، ودار الحضانة التي أسستها (سامورا) ثم طردتها أمها منها، وعندها طرد الأم من البيت، وقبل بعد تذلل من الأم أن يقبلها خادمة عنده في البيت بعد أن كانت صاحبة البيت، وعشيقة الرجل.

                    

سارت دعوة (سامورا) بين العاملات في المستشفى، والعاملات الشقيات في الطرقات، من النساء اللواتي لا مال ولا جمال لديهن، ولذلك لا مجال أمامهن، إلا تلك الأعمال الشاقة في الليل أثناء البرد، وسقوط الثلج، في هذه الأجواء القاسية، فيموت منهن مَنْ يموت، ويبقى في العذاب مَنْ يبقى، وكانت الشعارات التي يرفعنها:

"أرفضن العشّاق، واطلبن الأزواج تحيين سعيدات، وتسعدن الأمة كلها".

"أولادكن سعداء، وأزواجكن سعداء، وأنتن سعيدات، والحياة كلها نعيم ومسرة".

وأصبح بعض الرجال يستجيبون لشروط هؤلاء النساء، ويتزوجون منهن ويعيشون في وئام كما فعل (جابون وسوندا).

ونشأت جمعية أنصار المرأة لنشر الكتب التي تدعو لإقناع الرجال والنساء بهذه الأفكار.

ويزيد نشاط (سامورا) ومَنْ معها، كن يخرجن في الليل ليتعرفن على عاملات النظافة، من كبيرات السن البائسات. قالت إحداهن: كنت جميلة في صباي، والعشّاق كثيرون، لكنهم تحولوا إلى غيري عندما كبرت، وكذلك زوجي، أما أولادي فقد آذيتهم، وآذاهم أبوهم للتخلص من نفقاتهم. رميت طفلين فتحولوا إلى لقيطين، والباقون غادروا البيت، أما البنت فقد انتحرت من البؤس والشقاء والضغط النفسي، والباقيان أصبحا (طيار وصاحب مزرعة) يقدمان لي الهدايا في عيد الأم فقط.

صورة من صور الأسر الغربية، والعلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة، وصورة من صور المجتمع الذي بدأت تتزايد فيها نسب اللقطاء والمشردين والمنتحرين والعيادات النفسية، والأمراض الجنسية الخطيرة.

                    

بعد فترة من عمل (سامورا) وزميلاتها، تكاثرت المجموعات النسوية العاملة في صفوف النساء، وأصبحن يحرضن على الإضراب، وينشرن الوعي بينهن عن البؤس والظلم الذي يحيق بهن، لقد كان أكثر العاملات في الليل من القبيحات، أو المسنات أو اللقيطات، ومتوسط ساعات العمل 13 ساعة في اليوم، ومتوسط الأجور دون الحد الأدنى من الحياة المعقولة للفرد الواحد، وكانت أكثر الحالات التي وصلت إليها العاملات ناشئاً من عدم وجود البيت المستقر. وعندما زاد نشاط هذه الدعوة نشأت جمعية تحرير النساء، وسُميت (المحررات المكرمات). وبدأت الجمعية بتوزيع المنشورات، التي تدعو النساء للانتساب إلى الجمعية.

ونتيجة لتضافر الجهود، وتعاون عضوات الجمعية وتكاثرهن، أضربت العاملات في مستشفى (أندريه) وتعطلت المستشفى، وضجّت باريس من هذه الدعوة التي كادت تتحول إلى ثورة، ثم كتب مسيو (جابون) بياناً باسم الجمعية التي أنشأها (أنصار المرأة) قال فيه:

"لماذا نعرّض المرأة للمهانة؟ لماذا نريد المرأة للمتعة؟ إنها كريمة مثلنا، إن ما جرى في مستشفى (أندريه) هو بداية خطيرة تهدد المجتمع بالاضطراب، يجب أن نعطي المرأة حقوقها، ونترك لها حريتها." ثم ظهرت في الشوارع إعلانات كثيرة تقول:

"إن الذين يحرمون المرأة من حقوقها هم الذين يدمرون الأمة، يريدون أبناءً بلا أب، لقيطاً أو يتيماً، والمرأة لا تريد ذلك. يريدون عشيقة يتلهون بها، لا زوجة مكرمة، والمرأة لا تريد ذلك. يريدون للمرأة أن تعمل ليل نهار مقابل أجر قليل، وهذا ظلم. يريدونها عارية ليستمتعوا بها، كما يستمتع الجزارون، وهذا عار وعبودية لن تقبلها المرأة، يا نساء فرنسا إن كنتنَّ كذلك فأعلنَّ رأيكنَّ".

                    

عمّت الفوضى كثيراً في أماكن العمل، النساء يستجبن لنداءات (سامورا) وجمعيتها، ويطالبن بحقوقهن الإنسانية.

الفتيات يرفضن العِشرة الذليلة، عِشرة الحيوانات والساقطات. بعض الشركات يقمن الدعوى ضد (سامورا) فتؤخذ للسجن ثم تحاكم باسم تخريب اقتصاد البلد، فيقولون لها في المحكمة:

"لقد أثرت الفوضى وهددت اقتصاد البلد.

فسألت: وكيف ذلك؟

- العاملات قد تركن عملهن فتوقف الإنتاج، وأنتن تطالبن برفع الأجور، وهذا لا يتحمله الاقتصاد.

فأجابت: الاقتصاد يتحمل مليون لقيط، وشقاء نصف المجتمع من النساء، لكنه لا يتحمل إنصاف المظلومات".

هذه صورة من صور المجتمع الذي لا ينظر لغير المادة والأرقام حتى ضاعت الكرامة الإنسانية، وتهدّمت الأسرة، وفسدت الأخلاق، وأصبحت المظالم صوراً من القانون والتنظيم الحديث الذي يُعدّ الخروج عنه جريمة.

                    

وفي السجن تستغل (سامورا) وقتها للمطالعة، وفي هذا الوقت يزورها أخوها ويعطيها كتاباً عن محمد –صلى الله عليه وسلم- فإذا بها ترى مفاجأة غريبة. إنها تجد بغيتها مما كانت تنشده، وتجد ضالتها التي كمنت في نفسها، وعاشت قلقاً مع فطرتها، وثورة في حياتها، وجدت ذلك كله فيما جاء به هذا الرسول من تعاليم سماوية، فآمنت بمحمد، ورب محمد، وآمنت بهذا الدين الذي يحفظ للمرأة حقها، ويضمن كرامتها، ويصون المجتمع كله.

                    

الأمور تزداد سوءاً واضطراباً، الصراع يشتدّ بين القابضين على النظام في هذا البلد الغربي وبين دعاة إنصاف المرأة وتحريرها من ذل العبودية والامتهان، وفي هذه الأثناء تُقتل (سامورا) وتعم الفوضى، وتبدأ ثورة النساء ضد هذه الحضارة الظالمة.

                    

هذه القصة بفكرتها، وحوادثها طريفة وجديدة، استطاع الكاتب رحمه الله أن يخرج عن إطار القيود التي وضعتها المذاهب الغربية. إنه ينقل المعركة من خلال الفن إلى قلب أوروبا، يصوّر هذه المجتمعات تصويراً واقعياً، وينقل هذه الصور من خلال أحداث، وشخصيات إلى القارئ لكي يعيش مع صورة العصر، ويرى فداحة المأساة التي نعيشها، المأساة التي تتغلف بأغلفة برّاقة، وتقدم لنا بصورة جذّابة وسط الأضواء والأصوات والمثيرات حتى تضللنا فلا نعرف الخير من الشر، فإذا بنا ننقل الأمراض، والمفاسد بدلاً من نقل العلوم والوسائل، فتزداد سوءاً على سوء، وجهلاً على جهل. إن هذه القصة جديرة بأن تكون مناراً لكتّاب القصة المسلمين، لأنها تخرجنا عن المألوف، وتقفز بهذا الفن ليحمل رسالة حقيقية بثقة وقوة. تطوع الأدب للرسالة، ولا تطوّع الرسالة للأدب والقصة، ليست واحدة في هذا المنحى، فلقد سبق للكاتب أن نشر قصة سبقتها بعنوان (كانوا همجاً) وهي تصوّر واقع البشرية من خلال نظرة يتخيل فيها الكاتب مستقبل هذه البشرية حين تقوم الخلافة الراشدة، ويحتكم الناس إلى منهج الله عزّ وجل، فتتحول الحياة إلى جنة فيحاء، تشفي جراحات الناس، وتتقدم العلوم، وتزدهر الفنون، ويحلّ السلام والوئام والتقدّم، ويصبح الناس أحراراً في قمة التقدم، يكتشفون ويخترعون، ولكنهم يظلون عباداً لله يقومون بمسؤولية العبادة الحقيقية.

ألا إن منهجاً جديداً، وغرساً جديداً بدأ يظهر في دنيا الأدب الإسلامي ولكن أين الذين يلتفتون إلى هذي الغراس، وتلك الثمار ليقدموها للناس بدلاً من التسكّع على موائد الآخرين؟

 

(1) كاتب من سورية أخرج مجلة إسلامية للأطفال تحت عنوان (حكايات حارثة) وكتب عدداً من الكتب والقصص للأطفال منها مجموعة عن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها، وله قصتان: الأولى (كانوا همجاً) والثانية هذه، وله آثار أخرى، يظن أنه قتل وهو في السجن.