عذاب العانس
بين
خليل قنديل و حيدر قفة
بقلم نعيم الغول
ربما كان موضوع العنوسة بوصفه مشكلة اجتماعية ونفسية من أقل المواضيع التي التفت إليها الروائيون و القصاصون . بل إننا نجد في ملامستهم – إن وجدت – اقتصارا على جانب واحد دون الجوانب الأخرى .ومن المفهوم أن ظاهرة العنوسة هي في جوهرها ظاهرة اجتماعية اقتصادية معقدة للغاية وقد تأخذ في بنيتها الفوقية سمة تقارب قيم النمط الاستهلاكي بحيث أن المرونة الحدية للطلب _ بعبارات اقتصادية – تصبح لا نهائية على الجميلات المتعلمات المنتجات ( في صفقة شاملة ONE PACKAGE ) وتعادل صفر على من حظهن من الجمال و التعليم والإنتاج ( أيضا في صفقة شاملة ) .وعليه فإن الأعمال التي يجب أن تتصدى لهذه المشكلة يفترض أيضا أن تتصدى لهذه المشكلة بشمولية وعمق . لكن السؤال المطروح هو هل هي مهمة الفن و الأدب أم مهمة الباحثين و الدارسين الاجتماعيين ؟ اعتقد أن الجانب الوصفي التحليلي يجب أن يقوم به الباحثون الاجتماعيون ، أما انعكاسات المشكلة وتداعياتها على الذات الفردية ضمن شبكة علاقاتها مع الآخر فهي مهمة المبدع الذي يلتقطها ويعيد إنتاجها عبر أدواته الفنية و مخزونه المعرفي النفسي الاجتماعي.
وفي هذا الإطار ظهر عملان أدبيان طرقا باب المشكلة . لكن أحدهما طرق الباب الذي يطرقه كثير من الكتاب حين يتحدثون عن الحرية والمساواة والحب والتقدم و الصراع الاجتماعي و صراع الأجيال .. الخ.. انه باب الجسد عند المرأة وحاجاته وسعاره المكتوم أحيانا و الناعق أحيانا أخرى . أما الثاني فطرق بابا مختلفا . باب تجاوز الجسد إلى النفس وعذاباتها ، وحاول ملامسة أسباب المشكلة .
العمل الأول هو قصة " العانس " للقاص الاردني خليل قنديل التي ظهرت في مجموعته القصصية الأخيرة " عين تموز" والتي صدرت عن سلسلة الكتب الشهرية التي تصدر عن وزارة الثقافة تحت رقم (6).
العمل الثاني هو قصة ليل العوانس للكاتب الإسلامي حيدر قفة وظهرت في مجموعته القصصية التي تحمل الاسم نفسه وصدرت عام 1990.
في عانس قنديل نحس بسطوة الجسد وإدراك العانس بها منذ الأسطر الأولى ، ونحس بمحاولاتها " الواعية " بتحاشي ضغطه بالهروب من النظر إليه في المرآة لكنه يظل السوط الذي يلهبها ويجبره على التفكير بالأرمل الذي تفاجأ بأنه جاءها ووقف بالباب وهذا الأرمل رغم انه يشكل الحل لازمة الجسد عندها إلا إنها لم تكن مستعدة بعد فتهرب وتدفن وجهها في الوسادة وتفكر في فشلها في الزواج من رجال رشحتهم ليكون أحدهم زوجا لها . وتفكر بالأرمل الذي دست جسدها لتنظر إليه . وتعمل طرقات الأرمل على الباب وهروبها حالة من المواجهة الإجبارية مع الجسد فإما أن ينتصر أو تظل منسحبة . وهنا يتداعى إلى ذهنها وحدتها نتيجة لوفاة والديها وزواج اخوتها الواحد تلو الآخر واضطرارها للبقاء حارسة للذكرى حين تخلى الآخرون عنها وفكروا في أنفسهم .عند هذه النقطة تدرك أن الأجدى عدم تفويت الفرصة فتذهب لمقابلته لكنها بين هروبها منه ومقابلته تستغرق وقتا جعله يقتنع بأنها لا تصلح زوجة له :" نظر إليها بتمعن وقال بصوت لا يخلو من الاحتجاج :" منذ وقت طويل وأنا أنادي ، واضغط على جرس الباب . كل هذا نوم ؟"
وهنا يتحول سبب مجيئه الذي كان يفترض أن يكون ذريعة للرجل كي يتعرف إليها ويتزوجها تحول إلى سبب لإعلان تخليه عن المشروع لتعود إلى جسدها وتتعايش مع نحيبه .
العانس عند خليل قنديل امرأة لها كغيرها حاجة جنسية تعذبها حين لا تلبى وهو بالطبع لا يطرح تلميحا و لا تصريحا شكلا آخر لتلبية هذه الحاجة وإسكات نحيب الجسد غير الزواج الشرعي الحلال وهو هنا يسجل نقطة على يوسف ضمرة في قصة " ستة أجراس وست ليال " حيث تتهيأ الأرملة بكامل جسدها للحظة علاقة جنسية عابرة اقترحها رنين الهاتف ( الذي عبر في لحظة ما عن صراخ جسدها).
في " ليل العوانس " يحدثنا حيدر قفة منذ الأسطر الأولى عن تماس العانس مع لحظات ركونها إلى الفراش، وبدء سطوة الأفكار، و التمنيات و التعب :" أمسيت أكره لحظات النوم ، أفر منها بقلبي ، ابغضها ، أخاف منها" .
تبدأ مشكلة عانس قفة بعد الخامسة والعشرين بعد أن انقطع طالبو الزواج رغم انه لا عيب في جمالها ومهاراتها المنزلية لكنها تعزو الأمر إلى محاولات الناشطات في حقوق المرأة محاربة تعدد الزوجات. وترى أن التعدد يمنع العنوسة ووحدة الأرملة و المطلقة . التعدد يحل مشكلات كثيرة . لكن الناشطة في حقوق المرأة عوراء لا ترى و لا تعبا بمشكلات العوانس والأرامل والمطلقات . و يسخطها أن ما هو مهم عند النشاطات هو لا ان لا يكون هناك تعدد فتقول :" ممنوع التعدد يا مجنونة؟! حتى تزداد مشكلة العوانس .. تعقدي مشكلتي أكثر .. وما له التعدد؟"
ويمضي قفة في سرده _الذي أراه اقرب إلى الاعترافات أو المذكرات اليومية من القصة الفنية لكننا نقول انها قصة تجاوزا _ فيصور العانس امرأة تخدشها عبارات مثل "بائرة " وتحس انها لم تعد موضع ترحيب من اعز صديقاتها التي تخاف منها على زوجها وتتمنى أن تتزوج وترزق بأطفال وتسمع كلمة "ماما" . و يسهب في تصوير قضائها لليالي وهي تبكي حتى تبتل وسادتها وتأخرها في النوم حتى العاشرة صباحا لأن النوم يهجرها ليلا فتقوم وتنشر وسادتها في الشمس لتجف .
الموضوع اذن عند قفة بعيد عن الجسد . الموضوع امرأة ذات إحساس بالحرمان من رجل تحن إلى بيت وأطفال .. إلى تكوين أسرة " ربع رجل خير من أن أعيش بلا رجل .. محرومة من الحنان واحترام المجتمع .. محرومة من الأطفال من كلمة ماما .. كيف يصبح لي طفل بلا زوج ؟!"
ولم يتطرق إلى مشكلة الجسد لأن مشكلة الجسد تحل تلقائيا بحل المشكلة الأساسية التي تمنع الزواج.
لقد نجح خليل قنديل فنيا حين كتب قصة ذات نسيج قصصي متماسك ولغة قصصية تنم عن اقتدار وتمكن من أدواته القصصية قصة ذات دلالات عميقة ضمن سياقاتها الفنية الداخلية . ومع ذلك اخفق حين جعل الحاجة الجنسية محور عذاب العانس . وهذا تسطيح للمشكلة . لقد نسي خليل _ أو لم يهتم _ أن المرأة ليست مجرد أنثى وليست نقطة تقاطع جنسية بينها وبين الرجل . إنها انسانة لها طموح فطري في أن تؤدي أدوارها كاملة غير منقوصة ومنها دور الزوجة _ دور الام _ دور الحبيبة لزوجها _ دور المشاركة في بناء المجتمع من موقع أدوارها المذكورة . ولو ترجمت قصة خليل قنديل إلى لغة اوروبية فلن تثير لديهم جانبا انسانيا حتى ولو بالإيحاء بأنها تعاني حرمانا جنسيا فالحل المطروح عندهم هو التقاط رجل من أي مكان .
في حين أخفق حيدر قفة فنيا فبدلا من أن يقدم قصة قدم كشفا بتفاصيل حياة عانس بلغة تقريرية وبحشو أحداث لا مبرر لها فنيا .وقد خلا هذا الكشف من حدث ومن حبكة ومن وقائع يتطور معها الحدث _ غير الموجود_ ولا حتى خاتمة تعمل كلحظة تنوير أو إضاءة للحدث . لكنه نجح في المقابل في تسليط الضوء على فكرة أن العانس في مجتمعنا امرأة جريحة مهمشة ومحرومة وتعاني من مشكلة من حقها أن يوجد الحل لها .
إنها مشكلة نحيب الروح التواقة إلى الأمومة ،و إلى صدر تسند رأسها إليه ،وان تخرج منتصبة القامة إلى المجتمع لتؤدي دورها كاملا اكثر من كونها مشكلة جسد تطفئ لهيبه ليعود فيستعر.