هكذا ظهر جيل صلاح الدين
دراسة نقدية لكتاب:
وهكذا عادت القدس
لمؤلفه الأستاذ الدكتور العلامة ماجد عرسان الكيلاني
د. ماجد عرسان الكيلاني |
د. حسن الربابعة قسم اللغة العربية جامعة مؤتة |
بسم الله الرحمن الرحيم ، باسمه العلي وكفى، والصلاة والسلام على الهادي لخير البشرية ، سيدنا محمد الصفي ، من خلق الله المصطفى ، وعترته الأنقياء وصحبه النجباء ممن ساروا على هديه القويم،فتحوا بمنهجه الحق مشارق الأرض ومغاربها، فلم تكد الشمس تغيب عن خراجهم ، ولا السحب الممطرة عن أصقاعهم ، كان العدل ديدنهم فعزوا ، والعلم منهجهم فسادوا ، لم تأخذهم العزة بالإثم ، عدلوا فامنوا ، واتحدوا فعزوا ، لان قرانهم المنزل على نبيهم واحد ، ورسولهم المرسل للعالمين واحد ، وإلههم من قبل ومن بعد واحد لا شريك له ، مساجدهم يتلى فيها ذكر الله، ويها يوحد جل قدره في علاه ، ولم تكن الحدود التي فصلها الاستعمار على كيفه موجودة ، ولا يطلب من المسلم جواز سفره مرات ومرات للتاكد من هويته وجنسيته ومكان ولادته ، ليعامل على ضوء ذلك إما بإذن الدخول له ، وإما بالسجن أحيانا إن دخل، فكانما كان يتربص به ،وإما بالقتل بعد دخوله ، أو يرد على أهون الحالات على خراذيله من حيث أتى .اللهم اعنا على توحيد امتنا بعد تفرقها ، شان ما فعله صلاح الدين الأيوبي فاعاد للإسلام هيبته ،وحرر الأقصى بعد أسره صليبيا واحدة وتسعين سنة، يا رب الأرباب ومسبب الأسباب،ومجري السحاب ،وهازم الأحزاب يا رباه (ثلاثا) .
أما الأستاذ الدكتور العلامة ماجد عرسان الكيلاني ،ففصل القول في كتابه المذكور بأعلاه ، في طبعته الثانية ، 1430هـ ـ 2009م ،، الصادرة عن دار القلم للنشر والتوزيع ، بيروت ، وانهض كتابه على مقدمة وستة أبواب ،واعتمد على نحو مائة مصدر ومرجع ، في (523) خمسمائة وثلاثة وعشرين صفحة، من القطع الكبير، ذي الثلاثة وعشرين سطرا ، في كل منها.
أما المقدمة فابرز فيها هموم الأمتين العربية والإسلامية اللتين لا نصير لهما في المحافل الدولية ، وليس لهما من ناصر إلا الله وكفى به نصيرا ، وبيَّن فيها المؤامرات بل المكائد الغربية، التي تحدق بنا ـ عربا ومسلمين ـ ، وكثرت الأقوال عن الإرهاب والإرهابيين ، في غلاف مزين للعرب والمسلمين ، ليرتكضوا إلى هذا الشعار من يستطيع من الأمتين إليه، وما قصدهم حقيقة إلا القضاء على الروح الإسلامية المناهضة للذل والعبودية ، وليسوا بمستعدين أن يميزوا بين المدافع عن حقه ،وجهاده لدفع الخصم عن أرضه وعرضه ،وبين المجرم القاتل إنسانا لا ذنب له ، وإلا فكيف تحسب الثورة الأمريكية على الانتداب البريطاني لها إلى أن تحررت منها عام 1778م ، وقد وجه في مقدمته نصحه لفقهاء الأمة وملوكها ورؤسائها ، ولقادة الجماعات الإسلامية وأحزابها، ليتذكروا جميعا سنة الله في العلم والعلماء، وللملوك بالعدل ،وللأحزاب بالإخلاص والصواب ، وللتربويين بتغيير ما بأنفسهم مما يؤسف له ،وللعسكريين بإحياء المدرسة العسكرية الإسلامية بنظرياتها التي من ابرز شعاراتها قول سيف الله لما عزله عمر، وهو في أوج انتصاراته :"لا أقاتل من اجل عمر ، وانما من اجل رب عمر" : ووجهها للمؤرخين ودور الثقافة للعمل على تنقية مجتمعاتهم من التلوث الفكري ، وللاقتصاديين ،للتنين في" اقتصاد الماعون" ، وحذر من اقتصاد السحت والربا ،وقد اهلك من قبلنا الأمم من اهلك ، ودعا إلى الوحدة الإسلامية لإزالة دول الطوائف التي اختلقها المستعمرون على أنقاض الدولة العثمانية ، وأشار إلى حقيقة العلم الغربي الذي لا يبحث عن الرقي الإنساني، بل يبحث عن عناصر القوة اللازمة لإنجاح عملية الصراع الدولي كما قررتها فلسفة داروين " (Social Darwinism )، ومثل البروفيسور الكيلاني على ما يقوله بكتاب تحول القوة (Power Shift)لمؤلفه الفن توفللر،إذ يدعو فيه إلى أن يتكامل فيه عمل الجامعات ومراكز البحوث مع المؤسسات العسكرية والاقتصادية والسياسية ، ومن قاعاتهم المشتركة تبدأ عملية صنع القرار (Opinion Making) ومنه ينتقل صنع القرار إلى دوائر صنع القانون (Law Makingعدم النضجج "لاعتمادهم على غيرهم عقليا ونفسيا ، ووصولهم إلى درجة الانبهار بالغرب ، وفقدانهم الاستقلالية في الفكر والتفكير ،ووصف المرض عند العرب إزاء ذلك وهو مرض "التناقض في سلوك المسلم "بين أقواله وأفعاله، فهو يضيق بالوجود العضوي الغربي المحتل ، ويمارس ضده صنوف الجهاد لإخراجه من أرضه ، وإذا خرج الأجنبي لسبب أو آخر ، رحل العربي أو المسلم إلى ديار الغربي، ليستورد مما عنده من غذاء أو دواء أو ثقافة وتعلم ، ويصير تابعا له ،كانه فينضبع العربي ويمكن أن يقول له من منطقة لا شعوره "يا به يا به " وهو يجره إلى مضبعته ، يمكن أن ينسحب عليه أن يزهو ب"شهادته الكرتونه "التي تفضل الشهادة العربية ، حتى وان المتغرب العربي لا يفهم من معنى شهادته إلا أنها حملته ،ليمتطيها ، والأصل أن يحملها هو نفسه ، وعرض العالم الكيلاني إلى صنوف أخرى من العجز الاستثماري لموارد البيئة وتطويرها ، وعندها لا يتمكن من الانجاز أو المباهاة بما فعله
أما الباب الأول فعنونه ب"التكوين الفكري للمجتمع الإسلامي قبيل الهجمات الصليبية "وقسمه أربعة فصول، عنون الأول ب"مذهبية الفكر الإسلامي والصراع المذهبي بين فيه الطابع المذهبي للفكر الإسلامي والآثار الفكرية والتربوية والاجتماعية والسياسية للصراع المذهبي وبين في الفصل الثاني انقسام الصوفية وانحرافها وعدد منها الملامنية من نحو حمدون القصار الذي يتهم النفس دائما وتلميذه محمد بن منازل الذي جعل من دناءة النفس وتأصل الشر فيها قاعدته الأصلية والحلولية والخارجين على قواعد الشريعة السمحة من نحو الحلاج الذي صلب لأجلها ، وبعض أتباعه أنكر موته بل رفع للسماء ، وذكر الكيلاني انقسامات التصوف السني ، أما في الفصل الثالث فدرس فيه "تحديات الفكر الباطني وفي الفصل الرابع درس"تحديات الفلسفة والفلاسفة كان ذلك في ثلاثين صفحة من كتابه الكبير (43ـ 73).
وأما الباب الثاني فعنونه ب"آثر اضطراب الحياة الفكرية في المجتمعات الإسلامية "وقسمه أربعة فصول متسلسلا هي : الفصل الخامس "فساد الحياة الاقتصادية والسادس عنونه ب"فساد الحية الاجتماعية ، والسابع عنونه ب"الانقسام الساسي والصراع السني الشيعى " والفصل الثامن عنونه ب"ضعف العالم الإسلامي أمام الهجمات الصليبية "وعززه بدراسات ضافية ؟وقد احتل بابه هذا (14) أربع عشرة صفحة (من 81ـ95)
أما الباب الثالث فوسمه ب"المرحلة الأولى لحركة التجديد والإصلاح "وقسمه فصلين هما المحاولات السياسية للإصلاح ودور مدرسة أبي حامد الغزالي في الإصلاح والتجديد ، عرض في الفصل الأول إلى حياة الغزالي ومنهجه في الإصلاح ، ودوره في تشخيص الأمراض الاجتماعية في عصره منها فساد العلماء ، والتعصب المذهبي وآثار ذلك على الأمة ، وجهد الغزالي على إيجاد جيل صالح من العلماء ، ووضعه منهاجا جديدا للتربية والتعليم ،وإحياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ونقده السلاطين الظلمة وتصحيحه التصور السائد عن الدنيا والآخرة ، ودعا للعدالة الاجتماعية ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة .
أما الباب الرابع فعنونه ب"انتشار حركة الإصلاح والتجديد والمدارس الني مثلتها ، وتوقف عند مدرسة سيدنا الشيخ عبد القادر الكيلاني ، وعرض لسيرته ودعوته إلى الإصلاح ووعظه وتصديه للتطرفات الدينية ، ومحاربته الخصومات المذهبية ،والعودة إلى غير المسلمين ومشركة ذريته وأصحابه في حمل الدعوة ونشرها وعرض إلى رابع عشرة مدرسة منها العدوية والسهرورية والجعبرية والحرانية وجاكير الكردية وقد توازعت هذه المدارس في أنحاء شتى من الدولة الإسلامية كما عرض إلى المدرسة البطائحية الرفاعية ودورها في نشر التوحيد ونقد الفقهاء والمتصوفة وما للعقل من تحصيل العلم وغير ذلك من المدارس وعرج االبروفيسور العلامة ماجد الكيلاني إلى دور المرآة المسلمة في حركة التجديد والإصلاح نحو الشيخة الجليلة عائشة بنت محمد البغدادي القادرية والشيخة تاج الدين بنت فضائل التكريتي زوجة عبد الرزاق بن عبد القادر الكيلاني وأم ولده قاضي القضاة نصر بن عبد الرزاق وغيرهما من العالمات الفواضل .وذكر التنسيق بين المدارس وتوحيد مشيخاتها ،وتوقف عند سيدنا الشيخ عبد القادر الكيلاني وذريته في الإصلاح ،ومثل على ذلك بسيدنا الشيخ ربَّاع بن علي بن محمد بن احمد بن نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر الكيلاني الذي انطلق من دمشق مع أبيه الشيخ علي الملقب بالغريب"وطوبى للغرباء "وقد توفاه الله في دير خبية من أعمال حوران كما في شجرة نسب الربابعة ـ أقول خرج الشيخ رباع من دمشق إلى اجديتا القريبة من وادي اليابس ، ليصلح من كان مفسدا اومارقا أو قاطع طريق أو هاربا من عدالة ، فرأوا منه كرامات وعجائب ، فأكرموه ،ووقروه وثابوا إلى رشدهم وزوجوه من بناتهم امرأة من النجادات من بلدة حلاوة فرزقه الله تعالى منها توأمين هما موسى وعيسى ،ومنهما تناسلت عشيرة الربابعة في الأردن وفلسطين وسوريا وليبيا والسودان وغيرها من أصقاع الأرض (136ـ237)
أما الباب الخامس فعنونه ب"الآثار العامة لحركة الإصلاح والتجديد "ودرسه في تسعة فصول منها أخراج امة المهجر يعني الدولة الزنكية وسياستها في الاصطلاح على الطريقة الكيلانية القادرية ،وإعداد الشعب إعدادا إسلاميا وتكامل الجهود التربوية في دور التعليم ومؤسساته بالتوجيه الجماهيري ومنها صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية وتكامل القيادات السياسية والفكرية والتعاون بين مدارس الإصلاح في المدارس الزنكية ووريثها الأيوبية، وازدهار الحياة الاقتصادية وبناء القوات العسكرية والوحدة الإسلامية وتحرير المقدسات الإسلامية ، وابرز دور المرأة المسلمة في الدولتين الزكية والأيوبية ، ودور المدارس في الإصلاح والتجديد .
أما الباب السادس الأخير الموسوم ب"قوانين تاريخية وتطبيقات معاصرة "فاطل العالم الكيلاني عليه من ثلاثة عشر قانونا منها اثر الفكر في صحة المجتمعات ومرضها ومنها فشل محاولات الإصلاح والمراجعة التربوية ومنها اثر الأذكياء في فقه الإصلاح ، ومنها المنهجية والإصلاح ومنها عناصر قوة المجتمعات والفاعلية الإصلاحية ومنها النجاح وتزاوج الإخلاص والصواب ومنها الإصلاح والتدرج والتخصص ومنها عدم الفاعلية وتخريب الإصلاح ومنها المؤسسات التربوية التجديدية وفاعلية الإصلاح ومنها مؤسسة الإدارة والأمن ومنها مؤسسة التربية العسكرية ومنها فترات الازدهار أو الانحطاط ومستوى أداء الأفراد والجماعات ومنها فاعلية دعوات الإصلاح والتجديد ومنها تكامل حلقات السلوك القويم وفاعلية الإصلاح والتجديد ومنها إستراتيجية الإصلاح وقوانين الأمن الجغرافي .
واختتم الأستاذ الدكتور الفذ ماجد عرسان عقلة الكيلاني كتابه المذكور بتفسيره عدة تطبيقات تاريخية منها :أن الجيوش الإسلامية اتخذت من بلاد الشام قاعدة انطلاقها للفتوحات شرقا وغربا، بعد فتوحات بلاد الشام في عهدي الخليفتين الكبيرين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، ومنها أن بلاد الشام لما تفككت هاجمها الصليبيون ، إلى أن تهيأت الظروف المناسبة لنور الدين زنكي ومن بعده صلاح الدين الأيوبي فتوحدت بلاد الشام ومصر فحررا لثاني منهما بيت المقدس بعد معركة حطين الشهيرة عام (583هـ 1187م )، وابرز الكيلاني أسباب غزو الأعادي بلادنا ،وعزاه إلى تفككنا قديما كما هو حديثا بعد أن فككت دول الحلفاء بلاد الشام في معاهدات سايسبيكو ووعد بلفور ، ـ كأنَّ التاريخ يعيد نفسه ـ ولما كانت بلاد الشام ارض حشد ورباط كما قال فيها الرسول الكريم فان في تفتتيها تسهيلا للسيطرة عليها وهذا ما حدث ، ودعا إلى الوحدة وعسى أن تكون ذلك قريبا .
ومن الجدير ذكره أن الأستاذ الدكتور ماجد عرسان الكيلاني ذو تصانيف عديدة بل صاحب كتاب "فلسفة التربية الإسلامية ـ دراسة مقارنة بالفلسفات التربوية المعاصرة "وقد احتصل به البروفسورالكيلاني على جائزة الفارابي العالمية لعام 2008م ، بإشراف منظمة الفارابي للعلوم التربوية واتحاد الجامعات الإسلامية ومنظمة اليونسكو ، وقد تسلم الجائزة من لدن رئيس جمهورية إيران الإسلامية الدكتور محمود احمدي نجاد بحضور معالي وزير المعارف والعلوم والتكنولوجيا ، ورئيس منظمة جائزة الفارابي العالمية ، ونائب رئيس منظمة اليونسكو ، ومساعد رئيس اتحاد الجامعات الإسلامية ، كما في كلمة شكره على مقدمة كتابه المذكور ، والدكتور الكيلاني خريج الجامعة الأمريكية في بيروت في سبعينيات القرن العشرين ودرَّس ردحا من الزمن في الجامعات الأمريكية في أمريكا ، وهو متقن للغة الانجليزية كتابة وقراءة ومحادثة ، وهو مفكر و أديب وشاعر باللغتين العربية والانجليزية وناقد ، وله مشاركات متعددة في رابطة أدباء الشام وهو يتمتع بحافظة قوية ، وعمَُّه محمد عقلة الربابعة أول ضابط أردني عانق دمه ثرى فلسطين في اليوم الثامن عشر من نيسان عام 1948م .ولكاتب هذه السطور إهداء له في كتابه "حرب الأساطيل "المنشور علم 1999م.، ونأمل أن يطلعنا العالم ماجد الكيلاني قريبا على سيرته الذاتية ، لنرى معه فيها آثاره العلمية الزاخرة التي يفاد منها في سبيل الله تعالى ، ولله الحمد والمنة وصلى الله تعالى وسلم على النبي الأمي الذي أكرم العلماء فقال فيهم إنهم ورثة الأنبياء ، و على آله وصحبه مثل ما ذكرت، والحمد لله رب العالمين.