نحو حوار متكافئ
الناقد المغربي عبد الرحيم جيران
يساجل تودوروف في كتابه "إدانة الأدب"
محمد العناز * / المغرب
صدر عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء للناقد الأكاديمي المتميز عبد الرحيم جيران كتاب آخر تحت عنوان " إدانة الأدب "، بعد كتاب " في النظرية السردية"، وهو من القطع المتوسط، ويشتمل على 95 صفحة ليبرهن على مدى قوة التوجه الفكري الذي اختطه لنفسه في التعاطي إلى شؤون الأدب والنقد. يندرج هذا الكتاب في إطار نقد النقد، وهو رد علمي رصين على كتاب تزفطان تودوروف " الأدب مهدد " الذي صدر سنة 2007، بباريس عن دار فلاماريون، والذي خلق ضجة في أوساط النقاد وما زال. ويتكون كتاب " إدانة الأدب" من تمهيد وأربعة فصول وخاتمة. ويلمس القارئ في توزيع الكتاب، من حيث العناوين والمحتويات، نوعا من المحاكاة الساخرة لكتاب توردوروف، ويظهر هذا جليا في العنوان الرئيس الذي يحمله الغلاف " إدانة الأدب "، والذي فيه نوع من اللمز بحيث يضعنا أمام التباس منذ الوهلة الأولى، ويجعلنا نتساءل عمن يدين الأدب. ولا يتضح الأمر إلا بعد قراءة الكتاب، حيث نكتشف أن القضية تتعلق بالسخرية من إدانة تودوروف لصنف من الأدب في مقابل أدب آخر.
يستهدف محتوى الكتاب الكشف عن المغالطات التي وردت في كتاب تودوروف والخلفيات التي تتحكم في إنتاجه، وإصداره في هذه اللحظة، كما يستهدف تنبيه النقد العربي إلى المزالق النظرية والمعرفية التي من الممكن أن تنشأ في حالة تبني التوجه الذي يسعى كتاب توردوروف إلى ترسيخه في الساحة النقدية، وانعكاس ذلك على مفهوم الأدب من حيث هو فعل يهدف إلى المغايرة، والتجديد، ومخالفة الرأي العام. وقد عمل الناقد عبد الرحيم جيران على ربط دعوى تودوروف الجديدة في النظر إلى الأدب بالسياق الفكري العام الذي يتبلور اليوم في فرنسا، حيث ظهر تيار فلسفي شعبوي غايته إنزال المعرفة الفلسفية من مقامها الطبيعي المتميز بالرصانة في صياغة إشكالياتها إلى مقام العموم لتصير في متناول الجميع من غير حرص على شرط الاستعداد النظري والفكري، وبالتالي صارت الفلسفة تعنى بالموضوعات بدلا من الاهتمام بما هو إشكالي، وذلك استجابة من هذا التيار للتحولات الطارئة في مجال الميديا وتكنولوجيا المعلومات، وما تفرضه اليوم من مراعاة أكبر عدد ممكن من الجمهور، بما يترتب على ذلك من خطاب تبسيطي بإمكانه الوصول إلى العامة. هذه هي الخلفية التي يرى الناقد عبد الرحيم جيران أنها تتحكم في إنتاج كتاب توردوروف " الأدب مهدد " والتي لا يفصح عنها صاحبه، وإنما يُظهر فقط ما تسعى إليه من أهداف، ولذلك نجده يلح على مفهوم الناس في مقابل مفهومي الجمهور والعامة. ونكاد نلمس من كتاب "إدانة الأدب " أنه يعتبر توجه تودوروف ردة في المعرفة النقدية إذا ما قورن بالتطور الذي حصل فيها خلال القرن العشرين. ويتجلى ذلك في تعويضه مصطلحات متجاوزة بمصطلحات أخرى من دون أن يتبدل المحتوى، كاستبدال الجماهير بالناس مثلا، كما أنه لا يقتصر على تغيير في المصطلح، بل يمتد إلى بعض القضايا النظرية القديمة في مجال النقد، والتي يحييها تودوروف من دون أن يشير إلى ذلك متلاعبا بالتعبير عنها، مثل الواقعية والتحليل الميكانيكي للأدب. فبدلا من تبني التوجه الواقعي صراحة يتحدث بشيء من التعويم فيدعو إلى صلة الأدب بالواقع، لكن الهدف يظل واحدا.
لم يكتف الناقد عبد الرحيم جيران بمناقشة كتاب تودوروف: "الأدب مهدد " بالكشف عن الخلفية التي تتخفى وراء إنتاجه، وإصداره، بل حاول أن يقيم حوارا معه حول مجموعة من القضايا الإشكالية التي تتعلق بمفهوم الأدب وإنتاجه وتلقيه وفضاءاته وعلاقته بالمعارف الأخرى من تاريخ وفلسفة وفيزياء، فبيَّن حجم التهافت الذي طبع كتاب تودوروف في صياغة مثل هذه القضايا، وبخاصة منها تلك التي تتعلق بكيفية استخدام التاريخ من قبل النص الأدبي، ومدى تعقد العلاقة بينهما، وكيف يحول الأدب التاريخ حينما يتخذه مادة له، أو يستحضر صلته به. وقس على ذلك مسألة المعنى الأدبي، وما تطرحه من إشكالات نظرية وإجرائية. فلا يمكن الحسم في المعنى من دون أخذ البعد الظاهراتي بعين الاعتبار، ومن دون طرح المعنى في علاقته " بالطريقة المخصوصة التي يقول الأدب بها نقص العالم ". فالشكل في الأدب هو الحاسم في تحديد خصوصيته، وتمييزه عن غيره من الخطابات الأخرى، وبالتالي لا يمكن تصور المعنى منفصلا عن الشكل.
كما لم يقتصر كتاب " إدانة الأدب " على هذه القضايا النظرية الصرف التي تتعلق بمفهوم الأدب، بل عمد إلى الكشف عن مغالطات تتعلق بعلاقة الأدب بمحيطه السوسيولوجي. ومن ضمن هذه المغالطات اثنتان هما: الانتساب إلى كليات الآداب، والتشغيل. فالناقد عبد الرحيم جيران يرفض أن تكون طريقة تدريس الأدب هي التي تنفِّر الطلاب من الالتحاق بكلية الآداب، ويرى بأن هذا الحكم فيه من التجني ما لا يقبله العقل؛ ذلك أن مسألة الانتساب إلى مؤسسات التعليم العالي، بفرنسا أو غيرها، ترتبط بظروف سوسيو اقتصادية، وبإنتاج النخبة في علاقته بالتحدرات الاجتماعية. كما أنه يرفض أن تكون طريقة التدريس وسيلة تساعد الطلاب على إيجاد فرص مناسبة للشغل؛ ذلك أن القضاء على البطالة رهين بعوامل اقتصادية محض لا بكيفية تلقين الأدب.
ومما يجعل من كتاب " إدانة الأدب" كتابا ممتعا هو كونه يساجل تودوروف انطلاقا من الثقافة الغربية نفسها مظهرا أوجه الانتقاء التي مارسها كتاب " الأدب مهدد" تجاه كثير من الأعلام التي نظرت لعلم الجمال سواء أفي عصر الأنوار أو ما بعده. ولكي يضمن عبد الرحيم جيران للسجال النقدي طابعه الأكاديمي، وعمقه المعرفي، عمد إلى تحليل بعض النصوص ليبرهن على ما يذهب إليه من مآخذ مثل ما خصصه من قراءة، وإن كانت موجزة، لرواية " دون كيخوطي" لسرفانطيس. هذا فضلا عن تدعيم السجال المعرفي بشواهد من التراث الغربي نفسه لدحض الأطروحة التي يدافع عنها تودوروف في كتابه.
بشكل عام يمكن أن نعتبر إن ما يؤاخذ الأكاديمي عبد الرحيم جيران تودوروف عليه، في نظري، قضيتنان هما: أولا اتخاذه من تدريس الأدب في المدارس الثانوية حجة ليبرهن بها على إفلاس النقد، من دون مراعاة الاختلاف بين مجال التدريس، ومجال إنتاج النقد وفضائه. وثانيا بناء نقد النقد على الرأي الخاص من دون التقيد بشروط المعرفة العقلانية، فضلا عن الاكتفاء بإعطاء الوصايا من دون طرح بديل إجرائي يمكن التلميذ من استنباط المعنى بوصفه الهدف من إنتاج النصوص وتلقيها.
ويعد هذا الكتاب دليلا على ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الناقد العربي والفكر الإنساني، كيفما كان المصدر الآتي منه، وذلك من حيث التمثل والاستخدام. فلقد ألح الناقد عبد الرحيم جيران في مقدمة كتابه " في النظرية السردية " عن طموح يحدده في ضرورة تجاوز لحظة التتلمذ الاستهلاكي التي تتميز بالتبعية للآخر من دون بناء العلاقة معه على ندية مؤسسة على الحوار العلمي الدقيق، وفي ضرورة المرور إلى لحظة الإنتاج والمساهمة في بناء المعرفة الإنسانية، وها هو اليوم يطلع علينا بكتاب يجسد فيه هذا الطموح بنوع من الرصانة والهدوء في بناء طروحاته النقدية بعيدا عن تضخم الأنا، وبعيدا في الوقت نفسه عن عقدة النقص التي ظلت تلازم علاقتنا بكل فكر يأتينا من الضفة الشمالية، مستندا في ذلك إلى الحوار العقلاني المدعم بقوة الحجة والدليل، سلاحه في ذلك الرغبة في فهم الآخر، والإخلاص للمعرفة لا غير.
* باحث وإعلامي من المغرب.