تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 74

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 74

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " أَسْرارُ الْبَلاغَةِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِعارَةَ فِي الْحَقيقَةِ هِيَ هذَا الضَّرْبُ ( الاستعارة المفيدة ) دونَ الْأَوَّلِ ( غير المفيدة ) ، وَهِيَ أَمَدُّ مَيْدانًا ، وَأَشَدُّ افْتِنانًا ، وَأَكْثَرُ جَرَيانًا ، وَأَعْجَبُ حُسْنًا وَإِحْسانًا ، وَأَوْسَعُ سَعَةً ، وَأَبْعَدُ غَوْرًا ، وَأَذْهَبُ نَجْدًا فِي الصِّناعَةِ وَغَوْرًا ، مِنْ أَنْ تُجْمَعَ شُعَبُها وَشُعوبُها ، وَتُحْصَرَ فُنونُها وَضُروبُها - نَعَمْ - وَأَسْحَرُ سِحْرًا ، وَأَمْلَأُ بِكُلِّ ما يَمْلَأُ صَدْرًا ، وَيُمْتِعُ عَقْلًا ، وَيُؤْنِسُ نَفْسًا ، وَيُوَفِّرُ أُنْسًا ، وَأَهْدى إِلى أَنْ تُهْدِيَ إِلَيْكَ أَبَدًا عَذارى قَدْ تُخُيِّرَ لَهَا الْجمالُ ، وَعُنِيَ بِهَا الْكَمالُ - وَأَنْ تُخْرِجَ لَكَ مِنْ بَحْرِها جَواهِرَ إِنْ باهَتْهَا الْجَواهِرُ مَدَّتْ فِي الشَّرَفِ وَالْفَضيلَةِ باعًا لا يَقْصُرُ ، وَأَبْدَتْ مِنَ الْأَوْصافِ الْجَليلَةِ مَحاسِنَ لا تُنْكَرُ ، وَرَدَّتْ تِلْكَ بِصُفْرَةِ الْخَجَلِ ، وَوَكَلَتْها إِلى نِسْبَتِها مِنَ الْحَجَرِ - وَأَنْ تُثيرَ مِنْ مَعْدِنِها تِبْرًا لَمْ تَرَ مِثْلَه ، ثُمَّ تَصوغَ فيها صِياغاتٍ تُعَطِّلُ الْحُليَّ ، وَتُريكَ الْحَلْيَ الْحَقيقيَّ - وَأَنْ تَأْتِيَكَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِعَقائِلَ يَأْنَسُ إِلَيْهَا الدّينُ وَالدُّنْيا ، وَفَضائِلَ لَها مِنَ الشَّرَفِ الرُّتْبَةُ الْعُلْيا ، وَهِيَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ الصِّفَةُ عَلى حَقيقَةِ حالِها ، وَتَسْتَوْفِيَ جُمْلَةَ جَمالِها . وَمِنَ الْفَضيلَةِ الْجامِعَةِ فيها أَنَّها تُبْرِزُ هذَا الْبَيانَ أَبَدًا في صورَةٍ مُسْتَجَدَّةٍ تَزيدُ قَدْرَه نُبْلًا ، وَتوجِبُ لَه بَعْدَ الْفَضْلِ فَضْلًا ، وَإِنَّك لَتَجِدُ اللَّفْظَةَ الْواحِدَةَ قَدِ اكْتَسَبَتْ بِها فَوائِدَ ، حَتّى تَراها مُكَرَّرَةً في مَواضِعَ ، وَلَها في كُلِّ واحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَواضِعِ شَأْنٌ مُفْرَدٌ ، وَشَرَفٌ مُنْفَرِدٌ ، وَفَضيلَةٌ مَرْموقَةٌ ، وَخِلابَةٌ مَوْموقَةٌ . وَمِنْ خَصائِصِهَا الَّتي تُذْكَرُ بِها ، وَهِيَ عُنْوانُ مَناقِبِها - أَنَّها تُعْطيكَ الْكَثيرَ مِنَ الْمَعاني بِالْيَسيرِ مِنَ اللَّفْظِ ، حَتّى تُخْرِجَ مِنَ الصَّدَفَةِ الْواحِدَةِ عِدَّةً مِنَ الدُرَرِ - وَتَجْنِيَ مِنَ الْغُصْنِ الْواحِدِ أَنْواعًا مِنَ الثَّمَرِ . وَإِذا تَأَمَّلْتَ أَقْسامَ الصَّنْعَةِ الَّتي بِها يَكونُ الْكَلامُ في حَدِّ الْبَلاغَةِ ، وَمَعَها يَسْتَحِقُ وَصْفَ الْبَراعَةِ - وَجَدْتَها تَفْتَقِرُ إِلى أَنْ تُعيرَها حُلاها ، وَتَقْصُرُ عَنْ أَنْ تُنازِعَها مَداها - وَصادَفْتَها نُجومًا هِيَ بَدْرُها ، وَرَوْضًا هِيَ زَهْرُها ، وَعَرائِسَ ما لَمْ تُعِرْها حَلْيَها فَهِيَ عَواطِلُ ، وَكَواعِبَ ما لَمْ تُحَسِّنْها فَلَيْسَ لَها فِي الْحُسْنِ حَظٌّ كامِلٌ - فَإِنَّكَ لَتَرَى الْجَمادَ حَيًّا ناطِقًا ، وَالْأَعْجَمَ فَصيحًا ، وَالْأَجْسامَ الْخُرْسَ مُبينَةً ، وَالْمَعانِيَ الْخَفيَّةَ بادِيَةً جَليَّةً ، وَإِذا نَظَرْتَ في أَمْرِ الْمَقاييسِ وَجَدْتَها وَلا ناصِرَ لَها أَعَزُّ مِنْها ، وَلا رَوْنَقَ لَها ما لَمْ تَزِنْها ، وَتَجِدُ التَّشْبيهاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ غَيْرَ مُعْجِبَةٍ ما لَمْ تَكُنْها . إِنْ شِئْتَ أَرَتْكَ الْمَعانِيَ اللَّطيفَةَ الَّتي هِيَ مِنْ خَبايَا الْعَقْلِ ، كَأَنَّها قَدْ جُسِّمَتْ حَتّى رَأَتْهَا الْعُيونُ ، وَإِنْ شِئْتَ لَطَّفَتِ الْأَوْصافَ الْجِسْمانيَّةَ ، حَتّى تَعودَ روحانيَّةً لا تَنالُها إِلَّا الظُّنونُ .

درج أستاذنا على أن يقدم بين يدي المسألة ، كلمة عامة في ذوقه لها ، تكاد تكون من باب التفسبير الروحي ، تختصر كتبا فيها من الفلسفة العقلية ! ولن يرتقي أحد في علم شيء ، حتى يستطيع أن يتخيله مثلما يتخيل سيدنا مسائله . ولكن طبيعة الهمج الهامج من الدارسين ، أغلب على كل علم من طبيعة متذوقيه ، وأنفر إلى طمس الملامح من تأملها !

ثم ها سيدنا ذا ، يستنفر جَدَّه السعيد ( حظه ) ، ويمضي يُفَجِّر بالسجع التعابير تفجيرا ؛ فليس غير اللهاث في تحصيل معانيه ! وكُلُّ ساجِعٍ كذلك وَما سَجَعَ !

ثمت ينبغي في تشكيل كلمة مثل " الدُرَرِ " ، أن توضع على ما بعد اللام الشمسية شَدَّة فوقها الحركة ، هكذا : الدُّرَرِ ؛ إذ الشدة لأول المدغمين المنقلب عن لام أل ، والحركة لآخرهما .

 

حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّه قالَ : أَتَيْتُ الْجُمَحيَّ أَسْتَشيرُه فِي امْرَأَةٍ أَرَدْتُ التَّزَوُّجَ بِها ، فَقالَ : أَقصيرَةٌ أَمْ غَيْرُ قَصيرَةٍ ؟ قالَ : فَلَمْ أَفْهَمْ ذلِكَ ! فَقالَ لي : كَأَنَّكَ لَمْ تَفْهَمْ ما قُلْتُ ! إِنّي لَأَعْرِفُ في عَيْنِ الرَّجُلِ إِذا عَرَفَ ، وَأَعْرِفُ فيها إِذا أَنْكَرَ ، وَأَعْرِفُ إِذا لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يُنْكِرْ : أَمّا إِذا عَرَفَ فَإِنَّها تَخاوَصُ ، وَإِذا لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يُنْكِرْ فَإِنَّها تَسْجو ، وَإِذا أَنْكَرَ فَإِنَّها تَجْحَظُ ! أَرَدْتُ بِقَوْلي : قَصيرَةٌ ، أَيْ هِيَ قَصيرَةُ النَّسَبِ - هكذا وكأن الصواب أهي قصيرة النسب - تُعْرَفُ بِأَبيها وَجَدِّها !

إنها لإحدى مسائل البرمجة اللغوية العصبية ، التي هي الآن علم النفس الحديث ! لكنها لم تجد مكانها من العلم ، حتى ظهرت هذه البرمجة ، وما أكثر ما ذُكرت الفكرة وهُجرت ، حتى يحين حينها ؛ فتنسلك في موضعها من نظام الأفكار الجديد !

قَدْ وَقَفْنا عَلَى الدِّيارِ وَفِي الرَّكْبِ حَرِيِبٌ مِنَ الْغَرامِ وَمُثْري

أما كسرة راء " حَرِيِبٌ " فمما لا أرسمه ، وإنما أردت أن أتوسل برسمها هنا إلى ذكر أنني مستغن دائما عن شَكْلَةِ الحَرَكة في كل متبوع بمَدّ - وأما كسرة يائه فخطأ صراح لم أذاكر فيه أستاذنا .

ثم أما رسم ياء " مُثْري " المنقوص كلمةَ قافية ، فهي التي نبهني أستاذنا على أن علماءنا يرسمونها مرة ، ولا يرسمونها مرة .

إِذا قُلْتَ : رَأَيْتُ أَسَدًا ، تُريدُ رَجُلًا - فَالْوَصْفُ الْجامِعُ بَيْنَهُما هُوَ الشَّجاعَةُ ، وَهِيَ عَلى حَقيقَتِها مَوْجودَةٌ فِي الْإِنْسانِ ، وَإِنَّما يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَه وَبَيْنَ السَّبُعِ الَّذِي اسْتَعَرْتَ اسْمَه لَه فيها ، مِنْ جِهَةِ الْقوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ ، وَرُبَّمَا ادُّعِيَ لِبَعْضِ الْكُماةِ وَالْبُهَمِ مُساواةُ الْأَسَدِ في حَقيقَةِ الشَّجاعَةِ الَّتي عَمودُ صورَتِهَا انْتِفاءُ الْمَخافَةِ عَنِ الْقَلْبِ حَتّى لا تُخامِرَه وَتُفَرِّقَ خَواطِرَه وَتُحَلِّلَ عَزيمَتَه فِي الْإِقْدامِ عَلَى الَّذي يُباطِشُه وَيُريدُ قَهْرَه ، وَرُبَّما كَفَّ الشُّجاعُ عَنِ الْإِقْدامِ عَلَى الْعَدوِّ ، لا لِخَوْفٍ يَمْلِكُ قَلْبَه وَيَسْلُبُه قُواهُ ، وَلكِنْ كَما يَكُفُّ الْمَنْهيُّ عَنِ الْفِعْلِ ، لا تَخونُه في تَعاطيهِ قوَّةٌ ؛ وَذلِكَ أَنَّ الْعاقِلَ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ مَنْهيٌّ عَنْ أَنْ يُهْلِكَ نَفْسَه ؛ أَتَرى أَنَّ الْبَطَلَّ الْكَميَّ إِذا عَدِمَ سِلاحًا يُقاتِلُ بِه ، فَلَمْ يَنْهَضْ إِلَى الْعَدوِّ - كانَ فاقِدًا شَجاعَتَه وَبَأْسَه ، وَمُتَبَرِّئًا مِنَ النَّجْدَةِ الَّتي يُعْرَفُ بِها !

تمثل لي الآن مثال سيدنا البراء بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه ! - صاحب رسول الله - صلى الله عليه ، وسلم ! - الذي كان أجرأ في الحق على الحقيقة من الأسد ، حتى حذر سيدُنا عمر - رضي الله عنه ! - من إمارته ، عُمّالَه على الأمصار ، قائلا : " لا تُؤَمِّرُوا الْبَراءَ عَلى جَيْشٍ ؛ فَإِنَّني أَخافُ أَنْ يُهْلِكَ الْمُسْلِمينَ بِتَقَدُّمِه " ! - ثم حتى سميت له ابني الكبير " بَراء " ؛ عسى أن تتشابه الأفعال كما تشابهت الأسماء ! - ثمت حتى قلت قصيدتي " صَوْلَة الْبَراء " ، في كرامته - رضي الله عنه ! - يوم حديقة الموت ، فلَحَّنَ منها خالد العبري تلميذي العماني النجيب ، ما غَنّاه بعض تلامذته ، على مسامع سماحة الشيخ أحمد الخليلي مفتي عمان ، فكأنه استحسن الكلام ؛ فقد سأل عن صاحبه !

ثم من شجون اسم سيدنا البَراء - رضي الله عنه ! - أنني اتخذت شعاري العلمي والفني ، قول الحق - سبحانه ، وتعالى ! - : " إِنَّني بَراءٌ مِمّا تَعْبُدونَ " ، وكأنما مَثَّل لي معناه ؛ ففهمت ما لم أكن أفهم ، ورأيت ما لم أكن أرى ، حتى سميت بالكلمة القرآنية ، كتابي الغالي ( بَراء ) ، ثم انتويت قديما أن أسمي بـ" بَراءٌ الْغائِبُ " ، الجمعيةَ الثقافية التي أدعو فيها إلى نمط من الفن ونمط من العلم  ، مفتقدَيْنِ - على رغم مَنْ سخر مِنْ معنى الإمام الغائب ، الذي في هذا الاسم !

عَلى هذِهِ الطَّريقَةِ ( الشبه العقلي في الاستعارة ) ، جَرى تَمْثيلُ النَّحْوِ في قَوْلِهِمْ : النَّحْوُ فِي الْكَلامِ كَالْمِلْحِ فِي الطَّعامِ ؛ إِذِ الْمَعْنى أَنَّ الْكَلامَ لا يَسْتَقيمُ وَلا تَحْصُلُ مَنافِعُهُ الَّتي هِيَ الدَّلالاتُ عَلَى الْمَقاصِدِ ، إِلّا بِمُراعاةِ أَحْكامِ النَّحْوِ فيهِ ، مِنَ الْإِعْرابِ وَالتَّرْتيبِ الْخاصِّ ، كَما لا يُجْدِي الطَّعامُ وَلا تَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ الْمَطْلوبَةُ مِنْهُ ، وَهِيَ التَّغْذِيَةُ - ما لَمْ يُصْلَحْ بِالْمِلْحِ . فَأَمّا ما يَتَخَيَّلونَه مِنْ أَنَّ مَعْنى ذلِكَ أَنَّ الْقَليلَ مِنَ النَّحْوِ يُغْني ، وَأَنَّ الْكَثيرَ مِنْهُ يُفْسِدُ الْكَلامَ كَما يُفْسِدُ الْمِلْحُ الطَّعامَ إِذا كَثُرَ فيهِ - فَتَحْريفٌ ، وَقَوْلٌ بِما لا يَتَحَصَّلُ عَلَى الْبَحْثِ ؛ وَذلِكَ أَنَّه لا يُتَصَوَّرُ الزِّيادَةُ وَالنُّقْصانُ في جَرَيانِ أَحْكامِ النَّحْوِ فِي الْكَلامِ ؛ أَلا تَرى أَنَّه إِذا كانَ مِنْ حُكْمِه في قَوْلِنا : كانَ زَيْدٌ ذاهِبًا ، أَنْ يُرْفَعَ الِاسْمُ وَيُنْصَبَ الْخَبَرُ - لَمْ يَخْلُ هذَا الْحُكْمُ مِنْ أَنْ يوجَدَ أَوْ لا يوجَدَ ؛ فَإِنْ وُجِدَ فَقَدْ حَصَلَ النَّحْوُ فِي الْكَلامِ ، وَعَدَلَ مِزاجَه بِه ، وَنُفِيَ عَنْهُ الْفَسادُ - هكذا وكأن الصواب إما عَدَلَ مِزاجَه بِه وَنَفى عَنْهُ الْفَسادَ أو عُدْلَ مِزاجُه بِه وَنُفِيَ عَنْهُ الْفَسادُ - وَأَنْ يَكونَ كَالطَّعامِ الَّذي لا يَغْذُو الْبَدَنَ - هكذا والعبارة قلقة - وَإِنْ لَمْ يوجَدْ فيه فَهُوَ فاسِدٌ كائِنٌ بِمَنْزِلَةِ طَعامٍ لَمْ يُصْلَحْ بِالْمِلْحِ ، فَسامِعُه لا يَنْتَفِعُ بِه ، بَلْ يَسْتَضِرُّ لِوُقوعِه في عَمْياءَ وَهُجومِ الْوَحْشَةِ عَلَيْهِ ، كَما يوجِبُهُ الْكَلامُ الْفاسِدُ الْعاري مِنَ الْفائِدَةِ . وَلَيْسَ بَيْنَ هاتَيْنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ واسِطَةٌ يَكونُ اسْتِعْمالُ النَّحْوِ فيها مَذْمومًا . وَهكَذَا الْقَوْلُ في كُلِّ كَلامٍ ؛ وَذلِكَ أَنَّ إِصْلاحَ الْكَلامِ الْأَوَّلِ بِإِجْرائِه عَلى حُكْمِ النَّحْوِ ، لا يُغْني عَنْه فِي الْكَلامِ الثّاني واَلثّالِثِ ، حَتّى يُتَوَهَّمَ أَنَّ حُصولَ النَّحْوِ في جُمْلَةٍ واحِدَةٍ مِنْ قَصيدَةٍ أَوْ رِسالَةٍ يُصْلِحُ سائِرَ الْجُمَلِ ، وَحَتّى يَكونَ إِفْرادُ كُلِّ جُمْلَةٍ بِحُكْمِها مِنْهُ تَكْريرًا لَه وَتَكْثيرًا لِأَجْزائِه ، فَيَكونَ مَثَلُه مَثَلَ زِيادَةِ أَجْزاءِ الْمِلْحِ عَلى قَدْرِ الْكِفايَةِ . وَكَذلِكَ لا يُتَصَوَّرُ في قَوْلِنا : كانَ زَيْدٌ مُنْطَلِقًا ، أَنْ يَتَكَرَّرَ هذَا الْحُكْمُ وَيَتَكَثَّرَ عَلى هذَا الْكَلامِ ، فَيَصيرَ النَّحْوُ كَذلِكَ مَوْصوفًا بِأَنَّ لَه كَثيرًا هُوَ مَذْمومٌ ، وَأَنَّ الْمَحْمودَ مِنْهُ الْقَليلُ . وَإِنَّما وِزانُه فِي الْكَلامِ وِزانُ وُقوفِ لِسانِ الْميزانِ حَتّى يُنْبِئَ عَنْ مُساواةِ ما في إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ ما فِي الْأُخْرى ؛ فَكَما لا يُتَصَوَّرُ في تِلْكَ الصَّفَةِ زِيادَةٌ وَنُقْصانٌ ، حَتّى يَكونَ كَثيرُها مَذْمومًا وَقَليلُها مَحْمودًا ، كَذلِكَ الْحُكْمُ فِي الصِّفَةِ الَّتي تَحْصُلُ لِلْكَلامِ بِإِجْرائِه عَلى حُكْمِ النَّحْوِ وَوَزْنِه بِميزانٍ - هكذا وكأن المراد : بِميزانِه - فَقَوْلُ أَبي بَكْرٍ الْخَوارِزْميِّ :

وَالْبُغْضُ عِنْدي كَثْرَةُ الْإِعْراب

كَلامٌ لا يُحْصَلُ مِنْهُ عَلى طائِلٍ ، لِأَنَّ الْإِعْرابَ لا يَقَعُ فيهِ كَثْرَةٌ وَقِلَّةٌ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْكَلامَ الْواحِدَ وَالْجُمْلَةَ الْواحِدَةَ ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْجُمَلَ الْكَثيرَةَ ، وَجَعَلْنا إِعْرابَ هذِهِ الْجُمْلَةِ مَضْمومًا إِلى إِعْرابِ تِلْكَ ، فَهِيَ الْكَثْرَةُ الَّتي لا بُدَّ مِنْها ، وَلا صَلاحَ مَعَ تَرْكِها ، وَالْخَليقُ بِالْبُغْضِ مَنْ ذَمَّها - وَإِنْ كانَ أَرادَ نَحْوَ قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ :

وَما مِثْلُه فِي النَاسِ إِلّا مُمَلَّكًا أَبو أُمِّه حَيٌّ أَبوهُ يُقارِبُهْ

وَما كانَ مِنَ الْكَلامِ مُعَقَّدًا مَوْضوعًا عَلَى التَّأْويلاتِ الْمُتَكَلَّفَةِ ، فَلَيْسَ ذلِكَ بِكَثْرَةٍ وَزِيادَةٍ فِي الْإِعْرابِ ، بَلْ هُوَ بِأَنْ يَكونَ نَقْصًا لَه وَنَقْضًا ، أَوْلى ، لِأَنَّ الْإِعْرابَ هُوَ أَنْ يُعْرِبَ الْمُتَكَلِّمُ عَمّا في نَفْسِه وَيُبَيِّنَه وَيُوَضِّحَ الْغَرَضَ وَيَكْشِفَ اللَّبْسَ ، وَالْواضِعُ كَلامَه عَلَى الْمُجازَفَةِ فِي التَّقْديمِ وَالتَّأْخيرِ ، زائِلٌ عَنِ الْإِعْرابِ ، زائِغٌ عَنِ الصَّوابِ ، مُتَعَرِّضٌ لِلتَّلْبيس ِوَالتَّعْمِيَةِ ؛ فَكَيْفَ يَكونُ ذلِكَ كَثْرَةً فِي الْإِعْرابِ ! إِنَّما هُوَ كَثْرَةُ عَناءٍ عَلى مَنْ رامَ أَنْ يَرُدَّه إِلَى الْإِعْرابِ ، لا كَثْرَةُ إِعْرابٍ !

خطر لي أن يكون النحو في هذه العبارة ( النَّحْوُ فِي الْكَلامِ كَالْمِلْحِ فِي الطَّعامِ ) ، هو الإعراب بمعنى اختلاف علامات أواخر الكلم ؛ فإن من الخطباء من يبالغ بالوقف بالتحريك دلالة على فطانته - وإلا فإن النحو هو عصب الكلام وعموده وملاكه ونظامه !

ثم إنه ربما سمع المُتَثاقِفُ هذه العبارة من نحوي يعرف مراميها ، فوجهها غير وجهتها ، وأولها غير تـأويلها ؛ فكان ما كان مما حَذِرَه سيدنا ، وحَذَّرَه !

ثمت إذا اقتضت وجوه أبيات المعاني التأويلية المختلفة ، ما يلائمها من وجوه الإعراب - وفي القرآن مثل ذلك - أفلا تجوز في الإعراب عندئذ صفتا الكثرة أو القلة ؟ أما بيت الفرزدق فقد أوَّلْتُ صنيعه به من قبل بما يناسب مقامه الفني العالي ، ولو لم يجز فيه ما أولته ، لأفسده تكلف صاحبه ، ثم تكلف معربه ، حالا على حال ، ولا يقع التكلف في تَعْبير أو تَعْريب - وهذا اسمه عند بعض أهله - إلا شانه !

ثمت أحب أن نبه على أن أمثال سيدنا من كبار علمائنا وكتابنا ، يُذَكِّرون الفعلَ لفاعله ونائبه المؤنثين بالتاء ، إذا كان أيٌّ منهما مصدرا ، كما في قوله هنا : " لا يُتَصَوَّرُ الزِّيادَةُ " ، على أصل معنى الحدث الذي في كل مصدر .