القرضاوي شاعراً

محمد عبد الشَّافي القُوصِي

(حكاية) حدَّثني العلاَّمة الشيخ القرضاوي- عن طفولته، فقال: (أنا فشلتُ أنْ أكون فلاحاً، ولم أستطع أنْ أكون عاملاً أوْ موظفاً، ومن ناحية التجارة، فأنا طوال حياتي غير محظوظ فيها، فأتذكر أنني لمَّا حصلتُ على مكافأة حفظ القرآن في المدرسة الإلزامية، سلّمتُ الجنيه لعمي، فقالت لي: لك عشر الجاموسة، وانتَ ونصيبك .. ولكن الذي حدث أن الجاموسة لم تحمل في تلك السنة ولم تلد، وقال عمي هذا حظك يا بني، وهي أرزاق من عند الله!

وأذكر أنني قبل ذلك اجتمع عندي من عيدياتي نصف جنيه(خمسون قرشاً) فاقترحتْ عليَّ جدتي لأمي، أن تشتري لي "أوزة بياضة" وهذه تبيض كل عدة أشهر نحو عشر بيضات .. لكنها باضت بيضتيْن ثم توقفت، ودون سبب معروف، ولا يمكن أن ترقد الأوزة على بيضتين، فقالت لي جدتي: هذا حظك يا بني، إنها أرزاق!

 أنا لستُ من المتطيرين والمتشائمين، ولكن يبدو لي من تجاربي وممارساتي في عالم التجارة والمال: أني من قليلي الحظ في هذا المجال، فكل المشروعات التي دخلت فيها أو شاركتُ فيها، قدّر الله لها أن تخسر، وتنتهي بضياع ما وضعتُ فيها من مدخراتي من كسبي ومن كتبي.

فأول مائة جنيه امتلكتها في حياتي كانت من حقوق تأليف أول طبعة من كتابي "الحلال والحرام في الإسلام" وكانت ستين جنيهاً مع أربعين أخرى ادخرتها، وكانت المائة جنيه في ذلك الوقت ثروة، وضعتها تأميناً لقطعة أرض في القاهرة، عن طريق بعض الجمعيات التعاونية، وسلمنا المبلغ بواسطة الجمعية لبنك يسمى "بنك التعاون" وحاولت بعد ذلك أن أستفيد من ذلك بأخذ قطعة أرض، فلم أستطع، ثم حاولت أن أسترد المبلغ فلم أوفّق، وخصوصاً أني سافرت بعد ذلك إلى الخارج، وضاع المبلغ إلى هذا اليوم. ولي تجارب شتى في عالم التجارة لا داعي لذكرها ... كلها باءت بالفشل!

ومع هذا، فإنَّ خير الله عندي كثير، وفضله لا يجحد، ونعمه لا تحصى، وما ضاع مني شيء إلاَّ عوضني الله مثله أو خيراً منه، ولا يدري أحد أين يكون الخير "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون".

* * *

يقول الشيخ/ مصطفى عبد الرازق عن أستاذه الإمام/ محمَّد عبده –رضي الله عنه-: "لوْ أخلص الأستاذ الإمام للشِّعر؛ لأصبح أمير شعراء العربية". ويقول صلاح عبد الصبور في كتابه "ماذا يبقى من هؤلاء"؟ "لوْ أخلد عباس العقَّاد إلى العاطفة، ولم يخلد إلى العقل؛ لصار شاعر العربية الأكبر". ويقول مصطفى الشكعة في تقديمه لديوان "الحياة الأولى للشيخ/ الغزالي": "لوْ استمرَّ محمد الغزالي في كتابة الشِّعر؛ لأصبح من أعظم شعراء العرب". وأنا أقول: "لوْ تفرغ الدكتور القرضاوي للشِّعر؛ لكان شاعر الدنيا"!!

فما هو "الشِّعر"؟ ومَنْ هو الشَّاعِر الذي نراهن عليه؟ وما هي الرسالة المنوطة به؟

 وما هي الصفات التي ينبغي أن تتوافر فيه حتى يكون أهلاً لحمل تَبِعات هذه الرسالة؟!

    (الشِّعر) هو الثورة العارمة على العادات الراكدة، والتقاليد الوافدة، والجهل والخداع والفوضى، وسائر مخلَّفات عصور الاستبداد.

إنه الشِّعر الذي يواجه الحُكَّام الفاسدين ويهجو الجبابرة المُستبدين الذين أفسدوا في البلاد، وأحلُّوا قومهم دار البوار! إنه الشِّعر الذي يتصدّى للأنظمة الديكتاتورية والفاشية.

إنه الشِّعر الذي عبّر عنه الدكتور/ يوسف القرضاوي- في قصيدته "أنا والشِّعِر":

أُريدُ له هجراً فيغلبني حُبِّي وكيف أطيق الصبر عنه وإنما فكمْ شَدَّ من عزمٍ وَبَصَّر من عمى   وأنوي، ولكن لا يطاوعني قلبي أرى الشّعر للوجدان كالماءِ للعُشْبِ وأيقظ من نومٍ، وذلَّلَ من صَعبِ

وبالرغم من أنَّ الشيخ/ القرضاوي- ترك الشِّعر وتفرغ للعمل الإسلامي، إلاَّ أنه مازال يتابع مسيرته، ويشارك في ندواته ومؤتمراته، لأنه يرى الشِّعر ركيزة مهمة من ركائز الدعوة الإسلامية إذا كان للحق وحده، فيقول:

وقفتكَ يا شِعري على الحق وحده وإنْ قال غِرٌّ: ثروتي، قلتُ: دعوتي فَعِشْ كوكباً يا شِعرُ يهدي إلى العُلا   فإنْ لمْ أنلْ إلاّهُ قلتُ لهم: حسبي! وإنْ قال لي: حزبي، أقولُ له: ربي! وينقضُّ رجماً للشياطين كالشُّهُبِ

    قبل أن يكون (القرضاوي) شاعراً وأديباً؛ فهو عالم أزهري، يعد من أبرز الدعاة المعاصرين، وأحد دعاة "الوسطية الإسلامية" التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوازن بين الثوابت والمتغيرات، ولا تنسى الماضي ولا تنعزل عن الحاضر ولا تغفل المستقبل!

 إنه الداعية المجدد، الذي تربو مؤلفاته على مئة وسبعين كتاباً، وقد لاقتْ قبولاً حسناً في العالم العربي والإسلامي، وقد طبع بعضها عشرات المرات، كما تُرجِمَ كثير منها إلى اللغات المختلفة.

هذا عن (القرضاوي الداعية)! فماذا عن (القرضاوي الشَّاعر)؟!

لقد بدأ حياته بكتابة الشِّعر، وَعُرِفَ بين زملائه بالقرضاوي الشَّاعِر!

أجل! إنه واحد من شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث؛ الذين عايشوا الحركة الإسلامية في صميم جهادها وتفاعلوا معها، ورافقوها في طريقها المحفوف بالمكاره والمحن، وله عدة دواوين، أشهرها: ديوان "نفحات ولفحات"، وديوان "المسلمون قادمون".

أمَّا أول محاولة للتأليف عنده، فكانت مسرحية شعرية بعنوان "يوسف الصدِّيق" ترسَّمَ فيها خُطَى أحمد شوقي في "مجنون ليلى" و"مصرع كليوباترا" وكان وقتها طالباً بالمرحلة الثانوية.

 يتميز شِعر "القرضاوي" بأنه شِعر صادق منبثق من الواقع؛ فكرة وتجربة وأسلوباً .. شِعر يحمل معاناة إنسانية من خلال المفاهيم والتصورات الإسلامية .. شِعر يتحدث عن آلام الناس، ويدعو إلى إزالة المظالم، وإصلاح الفساد .. شِعر يتحرك في إطار الإسلام، ويلتزم المنهج الإسلامي .. إنه شِعر دعوة في كل قصيدة من قصائده، بلْ في كل بيت من أبيات القصيدة .. إنه زاد من زاد الدعاة، وأداة تحمل من الطاقات كل عجيب!

    من ميزات شِعره: السلاسة والتدفق، والصدق في الإحساس والتصوير، والأسلوب القصصي، والالتزام بعقيدة التوحيد وبالفكر الإسلامي الذي يبدو الاعتزاز به والانتماء إليه في كل قصيدة من قصائده، فهو يعتقد أن الإسلام حيثما حلَّ ملازم للتحرر والتحرير .. يحرر الأرض من العدوان، والإنسان من الطغيان، وهو السبيل الوحيد لتحرير الأوطان المسلوبة.

القرضاوي شاعر عبقري البيان، صادق العاطفة .. ذو خيال خصب، وموهبة حقيقية، وأداء جميل، وتوفيق كامل ومؤثر في رسم الصور والمشاعر .. تبدو في شِعرهِ سلاسة العرض، وفصاحة الأسلوب، وطول النفس .. وتتجلى فيه روح صاحبه: رجل العلم والفكر والدعوة.

وقد كتب في معظم أغراض الشِّعر ومجالاته، خاصة الجانب الوطني والسياسي، مثل قصيدته في توديع كتائب الأزهر إلى القناة للاشتراك في المعارك التي قادها الشباب ضد الاحتلال الإنجليزي؛ بعنوان "يا أزهر الخير" نظمها سنة 1951 قال فيها:

دع المِّداد وسطِّر بالدم القاني فم المدافع في صدر العداة له ....................................... يا أزهرَ الخيرِ قُدها اليوم عاصفةً   وأسْكِت الفمَ واخْطُب بالفم الثاني من الفصاحة ما يُزري بسحبان ........................................ فإنّما أنتَ من نورٍ ونيران

     وله أشعار في المناسبات الإسلامية، كقصيدته "النونية" في ليلة القدر التي ألقاها في معتقل الطور في رمضان 1369 ه. و"الرائية" في ذكرى الهجرة 1370 ه ومطلعها:

سهِرتُ ليْلي حتى مَلَّني السهرُ وشَفَّني ذِكرُها والصَّبُّ يدّكِرُ

وقصيدته النونية الشهيرة في ذكرى مولد الهدى سنة 1370 ه التي يقول فيها:

قالوا: إلى السجن، قلنا شعبة فُتِحَتْ قالوا: إلى الطور، قلنا الطور مؤتمر فهو المُصلَّى نُربِّي فيه أنفسنا   ليجمعونا بها في الله إخوانا فيه نقرّر ما يخشاه أعدانا وهو المصيف نُقوِّي فيه أبدانا

وقصيدته الرائية الشهيرة، التي نظمها عام 1948 يقول فيها:

يا دعوة الحق قُصِّي ما لقيتِ فكم وكمْ زعيم عدا نحوي لينطحني   يُؤذى الهدى ويُعانُ الباطل البور فعاد من صخرتي والقرن مكسور

ومنها قوله الذي يصف فيه شباب الدعوة الإسلامية:

للغرب هُمْ أجلٌ، للشرق هُمْ أملٌ ظنوا وراء الِّلحَى وَهْناً ودروشةً   للدين نصرٌ وللأوطان تحرير مَهْلاً فخلف اللِّحَى أُسْدٌ مغاوير

لكن، تظل "الملحمة النونية" أوْ "ملحمة الابتلاء" هي أهم وأطول وأشهر قصائد القرضاوي على الإطلاق، فمن أراد أن يعرف مكانة القرضاوي الأدبية ومنزلته الشِّعرية، فليقرأ هذه الملحمة، ففيها تتجلّى ثقافة القرضاوي التاريخية والفقهية واللغوية .. يقول فيها:

ثار القريض بخاطري فدعوني في ساحة "الحربيّ" حسبكَ باسْمِهِ  ما كدتُ أدخل بابه حتى رأتْ في كل شِبْرٍ للعذابِ مناظر فترى العساكر والكلاب معدّة هذي تعضّ بنابها وزميلها ومضتْ عليَّ دقائق وكأنها عجباً! أسجنٌ ذاكَ أمْ هو غابةٌ هذا هو "الحربي" معقل ثورة فيه زبانيةٌ أُعِدُّوا للأذى يتلقفون القادمين كأنهم بالرجل .. بالكرباج .. باليد.. بالعصا أترى أولئك ينتمون لآدمٍ منْ ظنّ قانوناً هناك فإنما  ...................................... يا منْ أجبتَ دعاء نوح "فانتصر" يا منْ أمرتَ الحوت يلفظ يُونساً ياربِّ إنّا مثله في كُرْبةٍ   أُفضي لكم بفجائعي وشجوني من باعثٍ للرّعب قدْ طرحوني عيناي ما لَمْ تحتسبه ظنوني يندي لها -والله- كل جبين للنهش طوع القائد المفتون يعدو عليك بسوطه المسنون مما لقيتُ بهنَّ بضع سنين برزتْ كواسرها جياع بطون؟ تدعو إلى التحرير والتكوين! وتخصَّصوا في فنه الملعون عثروا على كنزٍ لديك ثمين وبكل أسلوب خسيسٍ دونِ أمْ هم ملاعين بنو ملعون؟! قانوننا هو "حمزة البسيوني"!  ......................................... وحملته في فلكك المشحونِ وسترته بشُجيْرة اليقطين فارحمْ عباداً كلهم "ذو النون"!

سلامٌ على القرضاوي شاعراً وأديباً، وسلام على القرضاوي عالماً وفقيها، وسلام على الشيخ القرضاوي إنساناً نبيلاً، ومجاهداً كبيراً، ومصباحاً منيرا ...!