موقف الدولة العثمانية من المسرح العربي

وجد المسرح العربي في مصر منذ العصر المملوكي على يد الشاعر المصري محمد بن دانيال ، وكان هذا الشاعر يؤلف مسرحياته ويشارك في تمثيلها ، وقد كتب مسرحية " طيف الخيال " الاجتماعية لينقد بها عادة الغش في الزواج ، وكانت زاخرة بالحركة والحياة ، إلا أن هذا الفن الأدبي لم يلق رواجا في الأوساط الأدبية على ما يبدو ، وظل مسرحا شعبيا يمثل في البيوت ، وقد شاهد السائح الدانمركي في رحلته إلى مصر عام 1780م فرقة تمثيلية في مصر ، ولم يك يتوقع هذا في العصر العثماني ،ولما ولي محمد علي باشا مصر افتتح مسرحا مثل فيه الأجانب ، ثم ازداد عدد المسارح ووضعت له قوانين ضابطة تصل أحيانا إلى عقوبة السجن إن تعدى المسؤول عنه قواعد الأخلاق العامة في المجتمع .

 وعندما رحل مارون النقاش إلى إيطاليا واطلع على المسرح الغربي عاد إلى لبنان وكتب مسرحيته البخيل على غرار" البخيل لموليير" ، ومثلها في 1847م في بيروت ،وأعلن أن غايته من نشر هذا الفن تهذيب الأخلاق ونشر الفضيلة ، ولذلك وافقت الدولة العثمانية على إنشاء مسرحه ولم تتعرض له ، بل حضر مسرحياته كبار رجال الدولة في بيروت وولاتها والقناصل الأجنبية فيها ، وربما تأثر به أبو خليل القباني ،أو تأثرهذا بالمسرح التركي ،إذ كان أبواه تركيين من مدينة قونية ، فأدخل المسرح إلى دمشق ، وكذلك حصل يعقوب صنوع وخليل النقاش على إذن بالتمثيل في مصر .... وهكذا عاد المسرح العربي إلى الظهور في العهد العثماني في كل من بيروت ودمشق والقاهرة ، وبدأ التمثيل فيه على مرأى من الولاة العثمانيين .

 ولكن هؤلاء المسرحيين أخلوا بالشروط التي كانت الدولة العثمانية قد شرطتها عليهم ، إذ مثل مارون النقاش مسرحية " هارون الرشيد وجعفر " فجعل هذه الشخصية العظيمة زير نساء ، ونقل من مغامرات " ألف ليلة وليلة " ما شوه به صورة هذا الخليفة الذي كان يحج سنة ويغزو سنة ، والذي كان قد قضى على غطرسة الإمبراطور البيزنطي "نقفور" بعدما تعدى على حقوق المسلمين إذ انتصر عليه في معركة هرقلة ، كما كرر مارون النقاش عرض هذه المسرحية ، ومثلها أيضا يعقوب صنوع وهو يهودي مصري ، كما سخر هذا من تعدد الزوجات في الإسلام ، وندد بحكم الخديوي إسماعيل فأوقف مسرحه ، فلما جاء سليم خليل النقاش إلى مصر سمح له بإنشاء مسرح شريطة المحافظة على القواعد الصحيحة وترك كل ما يخل بالآداب العامة ، ولكنه كعمه مثل مسرحية " هارون الرشيد أو أبو الحسن المغفل " فشوه بذلك صورة هذا الخليفة العباسي الراشد فأوقف مسرحه بعد سنة واحدة .

 أما في دمشق فقد مثل أبو خليل القباني مسرحيات متعددة في ذلك العهد من أمثال " ناكر الجميل ، والشاه محمود ، فشجعه الوالي العثماني فيها على إنشاء مسرح له ، ولكنه أدخل العنصر النسائي فيه ، إذ كان يمثل في فرقته المكونة من اثني عشر شخصية أربعة نسوة ، ثم كرر خطأ الآخرين فمثل " هارون الرشيد أو أبو الحسن المغفل " فأبلغ أحد العلماء الأمر للسلطان العثماني فأمر بإغلاق المسرح ، وكان ذلك في 1884م .

 ويقول د. محمد يوسف نجم معلقا على ذلك " فقام الشيوخ الرجعيون وقعدوا لظهور هارون الرشيد على المسرح على شكل أبي الحسن المغفل ، ورفعوا الاحتجاج إلى الدولة العثمانية " فمنع من التمثيل .

 وهنا يبدو الأمر واضحا وضوح الشمس ، فالدولة العثمانية لم تمنع المسرح وإنما كان تشويه صورة عظمائنا السبب في المنع، والدليل على هذا أن الدولة سمحت بالتمثيل في بيروت ودمشق ومصر ، ولكنها كأي سلطة رسمية تضع قوانين ضابطة ، وهذا أمر بدهي ، وأرى أنه ليس من قبيل المصادفة أن يركز هؤلاء على هذه الشخصية التاريخية الفذة ... .

 و قد سمح للقباني بعد ما رحل إلى مصر أن يؤسس مسرحا له فيها، فعرض " أنس الجليس ، وعنترة ، ومجنون ليلى ، "ولم يعترض عليه أحد ، ولكنه لما مزج المسرح بالرقص والغناء أحرق مسرحه ، ولعل ذلك كان من الشعب حفاظا على الأعراض أن تنتهك ، وقد عوض له السلطان عبد الحميد الثاني ما أنفقه على المسرح وأعاده إلى دمشق وخصص له راتبا يكفيه وأسرته إلى أن مات بعد أن ترك التمثيل .

 ثم افتتح سلامة حجازي مسرحا، وكذلك أنشأ كل من إسكندر فرح وسليمان القرداحي ويوسف الخياط ، ومثل على مسارحهم مسرحيات متعددة ، ولكن هؤلاء تطرفوا تطرف من سبقهم فمثلوا في الإسكندرية مسرحية " هارون الرشيد أو غرام الملوك " ، و "هارون الرشيد أو أبو الحسن المغفل " ، كما مثل يوسف الخياط وهو يهودي مسرحية " الظلوم " انتقد بها حكومة الخديوي إسماعيل فأوقف هذا مسرحه أيضا ، ولكنه على ما يبدو وجد في الإنكليز مساعدا له في مصر فذهب إلى الريف في 1886م ومثل فيه فأوقف مسرحه ، ثم عاد في 1890 إلى الظهور ثانية فمنعته السلطة حتى مات في 1900م .

 إزاء هذا كله أدركت الدولة العثمانية ضرورة تشديد الرقابة على المسرح ، ووضعت قانون مراقبة الجرائم السياسية في 1902 الذي يقضي بمراقبة الروايات التمثيلية في الآستانة قبل تمثيلها، وذلك لضمان خلوها من الطعن بتراثنا وعظمائنا ، فضاق هؤلاء ذرعا بالقانون وراحوا يطعنون به وبالسلطان عبد الحميد الثاني، ويصورون الرقابة خنقا لحرية الرأي !!...، وقالوا " لن تقوم للمسرح قائمة بعد اليوم " ولو أنهم كانوا صدقوا ما عاهدوا عليه لما منعهم أحد ، إذ كان عدد المسرحيات التي مثلت في الأراضي العربية في العهد العثماني بين عامي 1847-1914م قد بلغت حوالي ثلاثمئة بين شعرية ونثرية ، وقد اقتبست موضوعاتها من القصص الديني ومن التاريخ الجاهلي والإسلامي ومن الحياة العامة ،بل إن كثيرا من الجمعيات الخيرية الإسلامية وغير الإسلامية اتخذت المسرح وسيلة للمساعدات الإنسانية ، ونشط المسرح المدرسي أيضا ، وهذا ينم عن أن موقف الدولة العثمانية من المسرح كان كموقفها من أي فن ، إذ لايعقل أن يسمح باتخاذ الإبداع الفني وسيلة للطعن بشرع الله وبتراثنا وشخصياتنا ، ومن يفعل ذلك يلق أثاما ويوقف عند حده ، وتلك غيرة لله ودينه وما نشاهده اليوم من تشويه للحقائق التاريخية و لصورة الرسول صلى الله عليه وسلم يكفي لأخذ العبرة وفهم الأمور على حقيقتها ، ومن ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يعتقه من النار .