حقًا ما زا ل الشعر ديوان العرب
يلحظ المتابع لمسيرة الحركة الشعرية المحلية عندنا، تراجعًا فعليًا مقلقًا في مستوى النتاج الشعري، إن من حيث الشكل وإن من حيث المضمون، ربما على العكس تمامًا من النتاج المتنامي لسائر الأجناس الأدبية الأخرى. تلك إشكالية ظاهرة للعيان لا يختلف فيها اثنان! إذ بإمكان المرء أن يلامس تجلياتها لدى الغالبية العظمى من نتاج الشعراء المحليين. يؤكد تلك الحقيقة، ما نشهده ونشاهده، في الفترة الأخيرة، من المجموعات الشعرية التي تصدر أو تنشر عندنا، من حين لآخر، وتتزاحم في ما بينها على نحو لافت من التهافت، لأجل الوصول إلى دائرة الضوء في مشهد حركتنا الأدبية المحلية. وإن كنا، في هذا المقام، لسنا بصدد تصنيف شاعرية الشعراء المحليين، إلى درجات!
ويثبت واقع الحال بأننا لا نلقي الكلام على عواهنه أو جزافًا، إنما لأننا ربما قد سئمنا أو وصلنا إلى ما يشبه درجة الإشباع أو حد التخمة، خاصة في الآونة الأخيرة، بسبب ذلك السيل العرم من الإصدارات الأدبية، والشعرية منها تحديدًا، والتي أصبح ينطبق على حالها حال المثل الذي يقول: "على قفا مين يشيل"! لاسيما تلك التي لا تراعي ولا تهتم بالحد الأدنى من القيم المعنوية أو الشكلية أو الجمالية. باختصار مفيد: أشعار لا تكاد تترك لها أي أثر أو أية قيمة تذكر! يقول محمود درويش في ما يشبه تلك الحالة "قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت"(1)!
وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا أيضًا: إن الوضع القائم بلغ معه حدًا بات مقلقًا، لدرجة أن تلك الأشعار قد دخلت، كما يبدو، في مرحلة من التقليد أو الجمود شبه التام! وهو أمر من الصعب أن نمر عليه مرور الكرام، خاصة إذا علمنا أن الوضع الحالي لم يعد يطاق أو يحتمل حتى أصبح يقض مضجع كثيرين بيننا، أو يمكن أن يؤدي إلى خلل كبير في نظام حياتنا وثقافتنا، مما يجعل بعضنا، وبحق، يتساءل مندهشًا: ما إذا كان الشعر حقًا ما زال ديوان العرب؟! أم أن الشعر حقًا قد مات؟! أم أن عصر الشعر قد ولَّى ومضى إلى غير رجعة؟! وقد يكتسب هذا التساؤل مشروعيته وأهميته لغير سبب خاصة، أننا أصبحنا نعيش اليوم في زمن الرواية وسائر الأجناس الأدبية الأخرى، كما يقول أحد الكتَّاب: "أكثر من علامة تحيط بنا، تجعلنا نزداد يقينًا أننا نعيش في زمن الرواية. هناك الإنجازات المتميزة بثرائها الكمي، قطريًا وقوميًا وعالميًا، على نحو ارتفعت فيه معدلات الإبداع الروائي على مستوى الكتّاب، ومعدلات الاستقبال على مستوى القرَّاء"(2)! وسواء أكان هذا هو السبب أو ذاك، فالنتيجة، على أرض الواقع، تبقى واحدة، وهي: تدني مستوى الشعر عندنا، مهما تعددت أو تنوعت الأسباب!
فإذا ما القينا نظرة موضوعية فاحصة على ما نستقبله مما هبَّ ودبَّ من شعر اليوم، وبعيدًا عن أسلوب الإطراءات والمجاملات الزائدة والزائفة في نفس الوقت، والتي لا تغني ولا تسمن من جوع، فإننا نجده قد لا يتعدى رصف كلمات أو ألفاظًا مكررة أو مبتذلة شكلاً ومضمونًا، لا تنم إلا عن ضيق في الأفق ومحدودية في الأفكار. الشعر عندنا، ما زال مستغرقًا في الموضوعات عينها، مجترًا المعاني ذاتها، مما يبعده عن الإبداع الأصيل، أو الحداثة الحقيقية، أو المعاصَرة، أو التجديد الحقيقي في أقل تقدير. يقول أحد الكتَّاب في ما يشبه واقع الحال عندنا "إننا نقاسي شحًا في الإبداع وعلينا أن نخصب هذه التربة، ونستنبع جلمودها، ونهيب بشبابنا أن تأملوا وأنتجوا"(3)!
صفوة القول: يبدو أن الشعر عندنا قد فقد ما كان يتمتع به من مكانة ورونق في الماضي، بدليل أن الحركة الشعرية اليوم تعيش حالة استسهال سببه: قحط في الإبداع، وفقر مدقع في الخيال! ما زالت تلك الأشعار، إلى اليوم، تردد الموضوعات الروتينية عينها والمعاني القديمة ذاتها، لاسيما تلك التي سلكها إلى أن مجها كثر من قبل! يقول محمود درويش واصفًا ما يشبه تلك الحالة "نجوت من حوادث الطرق، لأني لا أمشي على طريق، حيث تحط قدمي تكون طريق"(4)! ويقصد بذلك أنه نأى بنفسه عن حوادث الطرق، أي عن منزلقات الجمود والتقليد والنمطية والنمذجة!
تأسيسًا على ذلك، يمكن القول: صحيح أن تلك الأشعار تعيش اليوم أو في الزمن الحاضر، لكنها، في حقيقة الأمر، تتحدث عن أمس أو عن الماضي، أما المستقبل فلا تأتي على ذكره بتاتًا! بمعنى أنها أشعار لا تواكب روح العصر، ولا تستشرف المستقبل ولا نقول تشارك في صنع المستقبل "ذلك أن الشعر العظيم يتجه نحو المستقبل"(5)! فالأشعار الحقيقية تشارك، كما يفترض، في صنع أو تغيير الواقع الراهن! أشعارنا أقل صلة أو ارتباطًا بالمتغيرات الاجتماعية أو متغيرات العصر الحاضر، ونعني بها تلك المتغيرات المتسارعة التي تحدث من حولنا يوميًا تقريبًا. يقول محمود درويش مرة أخرى:
"يا رفاقي الشعراء!
نحن في دنيا جديدهْ
مات ما فات، فمن يكتب قصيدهْ
في زمان الريح والذرَّهْ
يخلق أنبياء"(6)!
لقد فات تلك الأشعار وأصحابها، كما يبدو، أن العالم الذي نعيش فيه اليوم قد تغيَّر كثيرًا عن العالم الذي أصبح من الماضي، نحن نعيش في واقع عصري جديد، لدرجة أننا أصبحنا اليوم نعيش في ما يشبه قرية كونية واحدة، متسارعة أحداثها وتغيراتها!
هذا الواقع المؤلم قد دفع أحد النقاد إلى رفع عقيرته بالتساؤلات المشروعة الآتية "هل يمكن أن يكون الشاعر إلا عصريًا؟ أعني هل يملك إلا أن يكون معبِّرًا عن عصره من وجه أو آخر؟ وبعبارة أخرى أيمكن أن يعيش شاعر في عصر ويعبِّر، في الوقت نفسه، عن عصر آخر؟"(7)، بالطبع لا يمكن! يجب أن يعيش الشاعر وكل مبدع آخر عصره ويكون المرآة الحقيقية لعصره ليس في الحاضر فقط، إنما في استشراف المستقبل أيضًا! مثل تلك التساؤلات المشروعة يمكن أن تشكِّل دعوة صريحة للشاعر المعاصر لكي يعيد النظر بكل شيء من حوله، ويعمل على ترتيب أوراقه من جديد، ويراجع حساباته مع نفسه، فيطوِّرها ويرتقي بأسلوب نتاجه الشعري، بما يشتمل عليه من أدوات التجديد في التعبير واللغة والأفكار والموضوعات والصورة الفنية والثقافة، استجابة لما يدور من حوله، من تطورات العصر المتلاحقة ومواكبة التطور الثقافي والاجتماعي، وما إلى ذلك(8)! يقول نزار قباني من بين ما يقوله في قصيدته "هوامش على دفتر النكسة"(9):
"أنعي (كذا) لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمه
والكتبَ القديمه
كلامنا المثقوب، كالأحذية القديمة..
ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمه
أنعي لكم.."!
يضيف قائلاً: "لا بدَّ أن نخجلَ من أشعارنا"!
ثم يخلص إلى القول: "يا أصدقائي:
جرّبوا أن تكسروا الأبوابْ
أن تغسلوا أفكاركم، وتغسلوا الثياب"!
وهذا يعني بالضرورة التجديد في اللغة ومفرداتها، والأسلوب شكلاً ومضمونًا، في لبوس جديد! ذلك بأن لكل عصر موضوعاته الخاصة ولغته الخاصة، وأغراضه الخاصة! وهو ما يُعرف بـ "مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم فى كل عصر"(10)! وتلك قاعدة أدبية لا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتجاهلها!
أما هيغل فيرى أن مهمة الفنان وكل إنسان أن يعبِّر عن المضمون الجوهري لعصره من خلال نشاطه في مختلف ميادين الحياة. ومما لا شك فيه أن عصرنا عصر الحداثة والأفكار والابتكار!
وقد تنبه العرب، منذ زمن بعيد، على أهمية دور الشاعر المبدع الذي يمكن أن يؤديه والشروط التي يجب أن تتوافر لديه، حتى يستحق لقب شاعر، فقال أحدهم "فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة"(11)!
يقول كاتب آخر "لعل خير ما نعرِّف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا. والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة. هي، إذن، تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. هكذا يبدو الشعر الجديد أول ما يبدو، تمردًا على الأشكال والطرق الشعرية القديمة" (12)!
في ضوء ذلك الواقع المتغيِّر من حولنا، برزت تلك الإشكالية بحدة، ولم يكن مفاجئًا أن تزداد الفجوة اتساعًا، يومًا بعد يوم، بين الشعر المأمول وبين الواقع الراهن! وأما النتيجة فلم تتأخر لتظهر، إذ فقدت تلك الأشعار وهجها ورونقها وتأثيرها، ولم يعد في مقدورها أن تبهر القارئ أو تشده بالفرح والانعطاف والنشوة والدهشة، لأنها أصبحت أقل إبداعًا وأكثر إتباعًا! ولم يعد فيها ثمة مساحة معتبرة لا لخيال خصب أو مبدع، ولا لشاعر مبتكِر أو أفق رحب، عِوض أن تبادر إلى فتح آفاق جديدة! فالتجديد سُنة طبيعية في الحياة. لم تعد تلك الأشعار تُعنى بالشاعر أو بالقارئ على حد سواء! يقول أحد الكتَّاب "فليس أمام المؤلف والقارئ إلا أن يشتركا في لعبة الخيال"(13)! وأضيف قائلاً: وفي إنتاج المعرفة أيضًا! تلك الأشعار لا تعدو كونها مجرد تجميع لمتفرقات من هنا وهناك وهنالك! وبعد ذلك يأتي من بيننا من يتساءل أو يتحدث عن أزمة قراءة، ونقص حاد في طلب الكتاب! مثل ذلك الواقع دفع الكثيرين إلى البحث عن ضالتهم في الصورة البصرية أو السمعية، كبديل للكتاب!
وقد يستغرب بعضنا أن نجد ابن سينا (370-427ه)، في حينه، كان قد تنبَّه على أحد
أوجه تلك الإشكالية، رافضًا أن يعدَّ الشعر شعرًا إذا كان خلوًا من التخييل، وفي ذلك نقرأ الآتي "إن كل كلام غير مخيَّل ليس شعرًا، وإن كان موزونًا مقفَّى، وإن الشعر يراد فيه التخييل، لا إفادة الآراء"(14)!
وهذا آخر يقول "ولقد استقر- في عصر ابن طباطبا- تعريف الشعر عند الفلاسفة على أنه "الكلام المتخيَّل" الذي ينشأ عن فاعلية "المخيِّلة" عند المبدع، ويحدث تأثيره بتحريك قوة المخيلة عند المتلقي"(15)!
ويقول أدونيس، في سياق متصل، من كلامه على أهمية الخيال في الشعر "في لحظة ما، يشعر الإنسان أنه في حاجة إلى من يتحدث معه خارج الكتب، وخارج العقل، وخارج العلم. مع شجرة، أو حجر، جبل أو نهر"(16)!
أما أينشتاين فينسب إليه القول "إنَّ الخيال أهمُّ من المعرفة"! ويقول أدونيس "إن القصيدة
العظيمة حركة لا سكون"(17)! ما معناه أن الخيال آلة متحركة أو محرِّك لا يني عن الحركة، في حين أن المعرفة ليست أكثر من رصيد ثابت! ففي الأدب، وفي الشعر الجديد تحديدًا، يفترض أن يتقدم الخيال على العقل!
هنالك شبه اتفاق تام تقريبًا، بأن معظم ما نستقبله من أشعار اليوم أقرب ما يكون إلى القوالب التقليدية النمطية ذاتها، فهي نماذج شعرية متعارف عليها أو نصوص وعبارات اعتيادية ليس أكثر! ونعني بها تلك الأشعار التي لم تتحرر بعد من ربقة النمطية الرتيبة أو تتجاوزها إلى مجالات أكثر رحابة، ولم تعد صالحة ولا ملائمة لحياتنا المعاصرة! يقول أدونيس "إن الشعر الجديد هو، بشكل ما، كشف عن حياتنا المعاصرة في عبثيتها وخللها"(18)! لكن واقع الأمر يثبت بأن موضوعات تلك الأشعار لا تمتُّ إلى المعاصرة أو الحداثة بِصلة، مجرد كلام يقصد إثارة العواطف وتأجيج الغرائز، جله عشق وغزل، وفحواه أقرب ما يكون إلى تمني الظفر بالحبيب بشبقية مفرطة. فتصوِّر الشاعر وما يكابده من عناء وتذلُّل، سببه فراق الحبيب وبُعده عنه، وكم يحن إلى لقائه أو يتمنى عناقه أو وصاله، أو القرب منه في أقل القليل! معتقدًا أنه ما زال يسكن الصحراء، يغدو ويروح على ظهر بعير، متنقلاً من أكمة إلى أكمة، ومن غدير إلى غدير، لا شغل يشغله سوى مطاردة أنثاه أنى حلَّت أو رحلت، كذكر النعام أو ديك الحمام، كأنما ثمة صراع أزلي في أشد حالاته، بين الفحولة من جهة وبين الأنوثة من جهة أخرى! تُرى ألم يحن الوقت بعد لتحطيم مثل تلك "الأصنام"؟!
ثمة إشكالية أخرى تستوقفنا وهي أن تلك الأشعار تغلب عليها الذاتية. فهَمُّها الأوحد هو التعبير عن ذات الشاعر المتصدعة! علمًا أنه يجب وضع النص الشعري وكل أثر أدبي وفنيٍ آخر، كما يفترض، في سياقه الزمكاني الخاص. كذلك، يفترض بالشعر الحقيقي أن يحكي ويحاكي متغيرات العصر، وإنسان العصر وهمومه، وأن يعبِّر عن نبض الآخر لا عن نبض الأنا فحسب!
وليست القصيدة نشوة وجدانية أو وزن وقافية فقط، إنما هي أيضًا رؤية معمقة معنىً ومبنىً وتخييلاً وترميزًا بلغة موحية أو رامزة، فيها دلالات وإيحاءات متعددة! فالإنسان، مطلقًا، هو من يجب أن يقف في مركز القصيدة، في قلب الحدث، وليس الأنا وحيدًا! هذا هو منطلق الحداثة والشعر المعاصر! يجب ترك الذات والأنا أي الجزء، والانسجام، لدرجة التكامل، مع الكل، لأن هموم الإنسانية وقضاياها واحدة ومشتركة! ولا يقصد من وراء ذلك أو يفهم منع الشاعر من الكلام على عاطفته وانفعاله بالمرة، لكن "شريطة أن لا نعني بهما، لحظة ذاتية، جزئية، كما كانا في معظم الشعر العربي التقليدي، بل أن نعني بهما شرطًا لاكتشاف جوهري-بحيث أن العاطفة تصبح ذاتية وموضوعية، فردية وكونية في آن"(19)! هذا ما قصدناه، وهذا هو التحدي الحقيقي!
من الواضح أن أكثر ما يميز هؤلاء ممن يكتبون الشعر اليوم انشغالهم بذواتهم، يقول أحد الكتَّاب "هنالك من الشعراء الذين بقوا في ذاتهم لا يهمهم ما يعانيه الإنسان العربي. ولم تتطور أدواتهم وأغراضهم. عكسهم مجموعة من الشعراء حملوا لواء التطور والاستجابة والتحدي"(20)! بكلمات أخرى من حق المرء أن يتساءل: ما هي القيمة المضافة التي يمكن أن تحققها مثل تلك الأشعار؟ وقد لا نتجنى على أحد إذا قلنا: لم تتحقق أية إضافات تذكر في مجال الصورة الشعرية وانزياحات اللغة النَّصية ودلالاتها المتعددة، بعيدًا عن العلاقة المعجمية، خاصة أن النص الشعري هو جسد حي طينته اللغة. ناهيك بأنها أشعار تكاد تخلو من الموضوعات المعاصرة، بينما تشتمل على موضوعات عفا عليها الزمن، ولأجل ذلك، نجدها تفتقر إلى الحد الأدنى من الوهج والحرارة أو الجمالية أو الجاذبية أو المتعة الحقيقية. فالأشعار الأصيلة هي تلك التي تُحدِث رعشة جميلة في المتلقي! هي تلك التي تترك أثرًا وتأثيرًا في القارئ لا يُنتسى! هي تلك التي لو سمعها الحجر لانفعل وتفاعل معها، فما بالك بالبشر؟! وإلا ما معنى قول الشاعر:
"وفات معايا كلام الحلو والغالي
يهز قلب الحجر لو يفهمه الخالي"(21)!
أضف إلى ذلك، فإن تلك الأشعار تكاد تكون خلوًا أيضًا من أي مضمون ذي معنى يستحق التوقف عنده إلا في ما ندر! وأكبر دليل على ما ندعيه هو بعدها كل البعد عن ملامسة قضايانا المعاصرة الخاصة والعامة. مثال ذلك، القضايا اليومية والمعيشية التي تقلقنا وتقض مضاجعنا جميعًا. هي أشعار لا تعرض للقيم التربوية والحضارية والإنسانية! وفي مثل ذلك الحال، يجب أن لا نستغرب تحوَّل تلك الأشعار إلى ما يشبه البضاعة الكاسدة التي لا يسومها أحد، في سوق العرض والطلب، لأنها معزولة عن قضايا الناس وهمومهم! كذلك، هي أشعار لا تنم عن مخزون إبداعي من المعرفة الثقافية والمتغيرات الاجتماعية التي طرأت، على نحو غير مسبوق، حتى لكأنها تخلو من الثقافة في حدها الأدنى!
أما عن الغموض والخيال والتناص والترميز والأسطورة فحدث ولا حرج! فعلى سبيل المثال لا الحصر، يفترض بالنَّص المعاصر أن يتعامل مع المتلقي من وراء حجاب أو قناع. إذن من الضروري والأهمية بمكان أن لا يستجيب مثل ذلك النَّص للمتلقي من أول نظرة أو من أول لقاء، وذلك بغية أن يستثير فضوله، ويستحثه إلى التحليق في فضائه أو السباحة في مائه. يقول الراحل محمود درويش:
"إن أردت الوصول إلى نفسك الجامحة
فلا تسلك الطريق الواضحة"(22)!
يريد أن يقول بصريح العبارة: لغة الشعر هي لغة الإشارة، في حين اللغة العادية هي لغة العبارة أي الإيضاح. مفردات الشعر، يجب أن تطمح لأن تشير أو تُلمح أكثر مما تقول أو تفصح، والنهي عن الإيضاح في الشعر وفي كل لون أدبي آخر، واضح! أما في ما يتعلق بالرمز والأسطورة، فقد نبَّه غير كاتب إلى ضرورة وأهمية توظيف الرمز والأسطورة في الشعر المعاصر. فالأسطورة أصبحت ضرورة من ضرورات الشعر المعاصر، حتى إن بعضهم بات يعدها من أهم مقومات ذلك الشعر، وقد ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، حين لم يعدوا الشعر شعرًا حقيقيًا إن كان خلوًا منها! لأنه بغيابها يفقد النص جماليته ووهجه وعمقه وسعة مداه. فالشاعر حين يوظف أسطورة ما فإنما يستحضر أجواء الانتصار والبطولة والحنين، إنه البحث عن بديل أكثر إشراقًا وجمالاً! ناهيك بأن الأسطورة تعدُّ مظهرًا حضاريًا وموروثًا إنسانيًا خالدًا، فيها مخزون زاخر، لا يقدّر بثمن، من الدلالات التي تحيل على أفكار وقيم إنسانية وصور شعرية ولوحات فنية، تكسب الأشعار عمقًا وتزيدها غنىً!
كذلك هما الغموض والرمز فإنهما مطلوبان ليس لذاتهما، إنما لأنهما يضفيان جمالاً ومتعة حقيقيين على النص الشعري! يقول أحد الكتَّاب "من أبرز الظواهر الفنية التي تلفت النظر في تجربة الشعر الجديدة الإكثار من استخدام الرمز والأسطورة أداة للتعبير"(23)! وحين نفتش عنهما في شعرنا المعاصر فلا نكاد نعثر لهما على أثر باستثناء قلة قليلة من الشعراء لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة! نذكر منهم مثالاً لا حصرًا: محمود درويش، وراشد حسين، وسميح القاسم، وحنا أبو حنا، وفهد أبو خضرة، وتوفيق زياد، ورشدي الماضي، وآمال رضوان!
نخلص إلى القول: ما كان أحرى بالشعر العربي المعاصر عندنا أن يلتفت إلى توظيف الرمز والأسطورة والغموض كأدوات فنية إبداعية، تمكِّن الشاعر من التعبير عن مواقف الفرد الأنا، والفرد الآخر، وقضايا المجتمع، وهموم الحياة، لاسيما في ضوء اتساع التجربة الإنسانية، وانكشاف الإنسان على الذات وعلى الآخر، في مختلف مجالات الحياة. يقول الراحل محمود درويش:
"سأكتب ههنا فصلاً
جديدًا في مديح البحر: أسطوريةٌ
لغتي وقلبي موجة زرقاء تخدش صخرة"(24)!
وفي الحق، لقد أحسن درويش توظيف الموروث الأسطوري في سياقات متعددة من أشعاره، وذلك بغية تفعيل مخيلة المتلقي وصولاً إلى دلالات تلامس الواقع الفلسطيني وتقاربه، ولا نقول تنطبق عليه! كذلك لا يفوتنا أن نشير، في السياق ذاته، إلى واقع ملموس لدى نسبة ليست ضئيلة من الشعراء والشاعرات عندنا (والأوْلى أن نطلق على بعضهم كتَّاب الشعر، لأن كلمة شاعر كبيرة ووقعها أكبر)! ونقصد بهم أولئك الذين ما زالت تجربتهم الشعرية في مراحلها الأولى، لكن، على الرغم من ذلك، فسرعان ما يخلع عليهم ثلة من أصدقائهم، من خلال حلقات أدبية عابرة بكلام عابر، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي لقب الشاعر/ة الكبير/ة! وقد يبلغ الشطط، أحيانًا، لدى هؤلاء المصفِّقين والمهلِّلين، حدًا يصبحون معه مثارًا للسخرية والتندر، حين يقومون بتمجيد السطحية أو يقررون، في نزوة طيش عبثية، بأن شاعرية نزار قباني أو محمود درويش تصغر وقد لا تساوي شيئًا أمام شاعرية أولئك الشعراء! متجاهلين حقيقة أن أولئك ما زالوا يدرجون حبوًا في معارج سلم الشعر(25)، وأنهم ما زالوا هواة في بداية مشوارهم الطويل، وهم بحاجة إلى الكثير الكثير من الزاد والتعب والوصب والقراءة، لأجل اكتمال الخبرة واختمار التجربة! وفي حقيقة الأمر، لا يعملون ما فيه الكفاية، لأجل تطوير أنفسهم حتى اكتمال نضوجهم الفني النابع من صميم قريحتهم! لنقرأ ما يقوله محمود درويش عن تجربته مع الشعر "أنا لا أشعر نفسي شاعرًا ناضجًا، لا أشعر بالرضا الفني وأنا أحد الذين يعتقدون بأن الفنان الذي يتوصل إلى الرضا عن نفسه يفقد مبررات استمراره. صحيح أنني نجحت في تحسين أدواتي الفنية، ونجحت في قهر تناقضاتي ولكني لا أشعر بالرضا الفني"(26)! الشاعر الحقيقي هو الذي يسعى، دون كلل، إلى تطوير ذاته باستمرار وإلى اكتساب المزيد من الخبرة والتجربة والثقافة والقراءة!
وتلك سمة لا يمكن التغلب عليها إلا من خلال المثابرة على قراءة الشعر وحفظه، قديمه وحديثه، واكتساب الخبرة والمران. وقد يكون لهؤلاء الشعراء في الكلام الآتي أو ببعضه، أو القياس عليه في أقل تقدير، ما يمكن أن يرشدهم إلى جادة الشعر الصواب "اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطًا، أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها... ومن كان خاليًا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قلَّ حفظه أو عُدِم لم يكن له شعر، وإنما هو نظم ساقط. واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ"(27)! وقد سئل أدونيس ذات مرة: ما هو ديوان الشعر الذي يرافق أدونيس ولا يفارقه أنَّى ذهب؟ فأجاب: ديوان المتنبي شاعر العرب! يعني كلما كان الشاعر أكثر خبرة في الحياة، وغنى في مخزونه القرائي والثقافي والمعرفي والتخييلي كان أكثر قدرة وتمكنًا في إثراء شعره. يقول ت. س. إليوت "إن الشعر في أعماقه نقد للحياة"(28)! وأرى أن تلك الإشكالية منوط حلها بالمبدعين أنفسهم، وهم الشعراء، ولن يشفع لهم أي مبرِّر أو عذر! وقد يكون من المفيد التأكيد أنه طالما بقي الشعر على حاله لا يصدر عن عشق أو عن لذة حقيقيين، فمن الصعب أن يتحقق الإبداع والسحر، والجمال، شكلاً ومضمونًا، وإلا ما معنى القول المأثور "إنّ من البيان لسحرا"؟! يقول أحد الكتَّاب "فإن النص، وليد اللذة، يبدو من منظور الحداثة في لحظة إنجازه، إبداعًا وليس إتباعا، يقول ما لم نفكر فيه، ويجعلنا نفكر في ما لم يقله أحد"(29)!
ولنا أن نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، الشاعر رشدي الماضي المسكون بهاجس الأسطورة على نحو لافت، وقد جعلها من أولى اهتماماته، واعتبرها رمزًا مضيئًا في أشعاره. فهو يوظف الأجواء التراثية وبضمنها الأسطورة، عربية وغير عربية في لبوس جديد، متجاوزًا حدَّ الاعتدال أحيانًا، كما يتجلى ذلك من خلال معظم أشعاره. وتلك سمة يمكن أن تعد ظاهرة بارزة في مشهد الحركة الشعرية المحلية، إذ "ينهض الشاعر في توظيف الأسطورة، عن وعي تام ببيئتها التي نمت فيها وترعرعت، للمرة الأولى، من خلال صياغتها مجدداً وتطويعها، وجعلها تتلاءم مع الفكرة المطروحة، ومن ثم إسقاطها على واقعه المعيش، ما يشي بعذوبة الخيال وعمق التصوير، ولسان حاله يؤدي تشخيصًا ذكيًا، كأنما يقول: إني أرى الماضي والحاضر والمستقبل، واقعاً وخيالاً، وأحمل رؤيا أو حلمًا، أسعى إلى تحقيقهما على أرض الواقع. ولنا أن نتصور أنه من غير المستبعد أن يترجم الشاعر أحلام يقظته في أشعاره تلك"(30)!
مع ذلك، وعلى الرغم مما لدينا، على أولئك الشعراء وتلك الأشعار، من تحفظات وملاحظات، فهذا يجب أن لا يحول دون تشجيعهم، والوقوف إلى جانبهم، وأن لا يردعهم ذلك عن مواصلة الطريق ومضاعفة جهودهم. إنما عليهم أن يغذوا السير أكثر فأكثر، ويضاعفوا تحسين أسلوبهم شكلاً ومضمونًا، وهم أكثر تصميمًا وإصرارًا على خوض التجربة، التي قد تمتد طوال رحلة العمر، حتى النهاية!
هوامش محمود درويش: أوراق الزيتون، الأعمال الكاملة، الجزء الأول، ط14، ص 55، دار العودة، بيروت، 1994. جابر عصفور: زمن الرواية، دار المدى للثقافة والنشر، ص43، دمشق، 1999. جبرا إبراهيم جبرا: الحرية والطوفان، دراسات نقدية، ط3، ص22، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1982. محمود درويش، وداعًا أيتها الحرب وداعًا أيها السلام، ص15، منظمة التحرير الفلسطينية مركز الأبحاث، بيروت، 1974. أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ص10، 1996. محمود درويش: أوراق الزيتون، الأعمال الكاملة، الجزء الأول، ط14، ص53-54. عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ط3، ص9، دار الفكر العربي، القاهرة، 1978. يقول ابن رشيق: تكثر المعاني كلما تقدم العصر! العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، دار الجيل، ط4، ج2، ص238، بيروت، 1972. نزار قباني: هوامش على دفتر النكسة، أحلى قصائدي، داوود إبراهيم، منشورات مؤسسة اليرموك، رام الله، فلسطين، ص114، 2015. اسم كتاب لمؤلفه: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر اليعقوبي، تحقيق محمد كمال الدين عز الدين، عالم الكتب، بيروت، 1980. ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر...، ج1، ص116. أدونيس: زمن الشعر، ص9. فولفغانغ إيزر: فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب (في الأدب)، ترجمة د. حميد لحمداني و د. الجلالي الكدية، ص56، منشورات مكتبة المناهل، فاس، 1994. أدونيس: الصوفية والسوريالية، ط2، ص93، دار الساقي، بيروت، 1995. جابر عصفور: مفهوم الشعر، دراسات في التراث النقدي، ط5، ص29-30، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995. أدونيس: الصوفية والسوريالية، ص16. أدونيس: زمن الشعر، ص17. أدونيس: المصدر نفسه، ص11. المصدر السابق: ص12. إبراهيم الوحش: في النقد التكاملي، كتاب دبي الثقافية، ص18، دبي، 2013. حسين السيد: من قصيدة "خي خي" تلحين وغناء الموسيقار محمد عبد الوهاب، 1958. محمود درويش: لا تعتذر عمَّا فعلت، دار الريس للنشر، ص128-129، بيروت، 2004. عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر، مصدر سابق، ص195. محمود درويش: لا تعتذر عمَّا فعلت، مصدر سابق، ص113-114. ونشير في هذا السياق إلى كتاب "الغصن الذهبي- The Golden Bough" لمؤلفه جيمس فريزر، الذي أصبح مستودعًا ذهبيًا لمجموعة من الأساطير بالنسبة للأدب الحديث. الحطيئة، الديوان برواية وشرح ابن السكيت، تحقيق نعمان طه، ص291، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1987.
فَالشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ
إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لا يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ
وَالشِّعْرُ لا يَسْطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ
يُريدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ
يوسي الفارلي، شيء عن الوطن، ص235، دار العودة، بيروت، 1971. ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، دار الكتب العلمية، ص492، بيروت، 1993. ت. س. إليوت : فائدة الشعر و فائدة النقد، ترجمة وتقديم الدكتور يوسف نور عوض، ص119، دار القلم، بيروت، 1982. منذر عياشي: الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، ص129، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء و بيروت، 1998. محمد خليل: أوراق نقدية، مقاربات نقدية في الأدب والنقد، ص210، دار الهدى للطباعة والنشر كريم، كفر قرع، 2014.
وسوم: العدد 625