سوسيولوجيا الثابت في قصة يوسف عليه السلام (3)

لقد تناولت قصة يوسف عليه السلام ظاهرة إنسانية أخرى ، أعتبرها من الظواهر الاجتماعية الثابتة ، التي تتكرر عبر الزمان والمكان ، وهي الظاهرة ، التي اهتمت بالعواطف الإنسانية وأقصد بها ظاهرة " الحب ". والتي تعرض لها القرآن الكريم في أكثر من آية كريمة ،  منها قوله سبحانه وتعالى :  [ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين ] ( يوسف آية 8 )  وقوله  [ وقالت نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين ] ( يوسف آية 30 )  وقوله  [ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ] ( سورة طه آية 39 ) .

بدون شك أن الحب ، أو العاطفة ، هي ظاهرة اجتماعية ، وليست مشكلة اجتماعية ، لأن المشكل الاجتماعي غالبا ما يكون خاصا ، ومحدودا في الزمان والمكان ، ويحمل الطابع السلبي ، الذي قد ينعكس على الفرد ، أو المجتمع ، أو هما معا ، ويحتاج إلى تدخل طرف ثالث من الحكام المختصين في الإصلاح من أجل إيجاد الحل والعلاج المناسب للأمور في المجتمع  ، ومن أجل تطويقه للإحالة دون انتشاره ، ولدفع شبح الخطر الذي قد يتحول إلى ظاهرة  مدمرة ومهدمة للمجتمع ولمؤسساته . على شرط أن يكون هذا التدخل على أساس النهج الإسلامي في تنظيم العلاقات الاجتماعية ، وعلى أساس اتخاذ النموذج الشرعي الوارد في قوله سبحانه وتعالى : [ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما حكيما ] ( النساء آية 35 )  كمرجعية شرعية لكل إصلاح بين الناس دون حصره  بين الزوجين أو على مشكل معين دون غيره .

 أما الظاهرة الاجتماعية، فهي عامة ذات طابع شمولي توجد في كل المجتمعات، تتكرر في الزمان والمكان. و" الحب " أو العاطفة، هو ظاهرة اجتماعية، إنسانية، ونكرانه يعني بالتأكيد مغايرة الفترة أو الطبيعة الإنسانية. لأنه ضروري لبناء وتكوين الأسرة وحمايتها من التفكك وهو الضمان لاستمرارها في الوجود، بل هو عصب استقرار الحياة الاجتماعية ، والتماسك الاجتماعي ، كما هو عامل أساسي في منع انتشار  ثقافة الكراهية ، والعنف داخل الأسرة والمجتمع  . ولهذه الأسباب، ولما يعلم الله من غير هذه الأسباب، ذكر القرآن الكريم كلمة " الحب " 76 مرة . ولقد حاول من خلال قصة يوسف عليه السلام أن يعالج " الحب " كظاهرة إنسانية اجتماعية ،  تخص الفرد والمجتمع وتتكرر في الزمان والمكان .

إن الحب في قصة يوسف عليه السلام ، ذو بعدين أو اتجاهين أحدهما :

حسي مادي هابط ومنحط ، مرتبط بغريزة الهو ، أو ما يسميه فرويد  بالليبيدو ، أي الطاقة الجنسية ، وهو يزول بزوال أسبابه ، أي بمجرد الإشباع ، وهذا النوع من الحب يشترك فيه الإنسان والحيوان . وقصة يوسف عليه السلام ، أشارت إلى هذا النموذج من الحب العنيف ، من خلال وصف تعلق وحب زليخة ونسوة المدينة وكيدهن وتحرشهن بيوسف عليه السلام ، في قوله سبحانه وتعالى : [ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ] ( يوسف آية 23 ) وتكررت الإشارة إلى هذا الحب البهيمي في قوله سبحانه وتعالى : [ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ] ( يوسف آية 31 ) . إن هذا النوع من الحب العابر ، مادي ، حيواني ، شهواني أناني ، تسلطي ، يتسم بالعنف ، والانتقام ، وسوء المعاملة ، يصاب صاحبه باليأس والهوس في حالة الفشل والعجز عن تحقيقه ، لرفض أحد الطرفين الاستجابة والامتثال للطرف الآخر، فينتهي به الأمر إلى ارتكاب الجريمة . وهذا ما حصل مع زليخة التي سيطرت عليها وسوسة الشيطان وغريزة الحسن والجمال ، إذ استجابت لانحراف عاطفتها ، فهددت يوسف عليه السلام بالسجن ، إن لم يستجيب لمطلبها ورغبتها الشهوانية ، الدنيئة ، بدليل قوله سبحانه وتعالى : [ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ] ( يوسف آية 32 ) وقد نفذت وعيدها وتهديدها بدون أدنى تردد ، إذ أدخلت يوسف عليه السلام السجن ومكث فيه بضع سنين يعاني من الظلم والعدوان .

أما البعد الثاني للحب أو الاتجاه الثاني ، فهو الحب العفيف الطاهر المراقب للغريزة والمسيطر عليها عقليا ، وهو ما يمكن أن أسميه  " بالحب الإيماني " أي الحب المراقب من طرف العقل ، والخاضع للإيمان ولمراقبة الله ، والمتشبث بالأخلاق المبنية على الخوف من الله ومراقبته والرافض في نفس الوقت للجاهلية المتشبعة بتحقيق الإشباع المادي الغريزي ، كهدف أسمى لها ، وهو ما تبرأ منه يوسف عليه السلام ، وأثبتته الآية الكريمة . [ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ] ( يوسف آية 23 ) .

إن هذا النوع من " الحب الإيماني " يكون دائما عفيفا ، قويا مسيطرا على القلب، مرتبطا بمدى إيمان ورقي صاحبه وترفعه عن الحب الحسي المادي الهابط ، الذي يدمر الفرد ويتعداه إلى المجتمع . كما يكون خالدا في قلب الإنسان ، وممتثلا لأمر الله ، يخاف من ظلم نفسه ، وعصيان ربه  ومستعدا لتحمل الأذى ومفضلا مواجهة الظلم على أن يقع في المعصية . وهذا ما جسده يوسف عليه السلام ، وحدثنا عنه القرآن الكريم في الآية الكريمة : [ قال ربي السجن أحب إلي مما يدعوني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ] ( يوسف آية 33) . ولكن بعد المعانات من السجن والظلم ، يظهر الله الحق ويبطل الافتراء والكذب ، وترفع التهمة [  قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين] ( يوسف آية 51 ، 52 ) . تتحقق ليوسف عليه السلام ولدينه الكرامة ، وينال الحظوة والتقدير والاحترام عند الملك ، ويتم له النصر والتمكين ، لأنه كان من الصادقين ولم يكن من الشهوانيين العاشقين والمغرمين بالإشباع المادي الطيني ،  فاستحق جائزة الملك في انتظار جائزة ملك الملوك  [ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ] ( يوسف آية 54 ) [  ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ] ( يوسف آية 57 ).

إن قصة يوسف عليه السلام عالجت ظاهرة الحسد ، وصراع الأجيال ، والحب  والحزن وتداول الأيام بين الناس وغيرها من الظواهر والأخلاقيات التي تتكرر يوميا ، كالصدق ، والتوبة والرجوع إلى الله وإلى الحق ، والكذب ، والافتراء ، والمكر ، وخلق التبريرات ، والظلم ، إلى جانب ظاهرة الفناء والبقاء لله ،  بالصبر والتحمل دون إغفال أو نسيان لذكر الله وللطفه في تدبير مشيئته سبحانه وتعالى والتوكل عليه في العسر واليسر والرخاء ، ثم بالصفح والتجاوز وإنهاء كل المواقف المشينة والمخجل والمتآمرة الماكرة ، الصادرة  من الأقرباء والإخوة ومن النساء والأعيان  والحاشية المحيطة بهم والمجتمع الخاضع لهم ... إن هذه المواقف النبيلة والكريمة من يوسف عليه السلام هي ما جعلته ينجح في الابتلاء وجعلته من المحسنين الصالحين الشاكرين لأنعمه .

إن يوسف عليه السلام أدرك بعقله الراجح ، وبما علمه الله ، أن الفناء سنة الله وأن السلطان يتوارى والجاه والنعم الدنيوية زائلة لا محالة مهما طالت . يفنى الحب ، ويتفرق الأهل والأحبة ، ويتشتت المال ، ويزول الأمن ورغد العيش ، والنصر والتمكين ونعمة العلم والتخطيط والإشراف على مخطط الاقتصاد السباعي لإنقاذ العباد من مجاعة قاتلة  ويرث الأرض ومن عليها ولكن هناك ما هو أبقى وأدوم وأغنى ، فسارع لطلبه من مصدره الذي هو الله ، فتذرع إليه وهو في عز جاهه ، وسلطانه ، وفرحه بتحقيق رؤيته وسجود أبويه ، وبعلم تأويل الرؤى قائلا : [ ربي قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ] ( يوسف آية 101 )  إن يوسف عليه السلام ، كان بحسن اختيار هذا الدعاء  قد أحسن شكر النعمة ، وسجل في نفس الوقت نجاحا مبهرا في الابتلاء والامتحان الذي أخضعه الله إليه ، لأنه لم يغتر بالسلطان والجاه ، وما يجر من نعم الدنيا وجاهها .

إن قصة يوسف عليه السلام كانت لنا عبرة وهدى ورحمة ، إذ قدمت لنا  نموذجا فريدا لا عوض لنا عنه في معالجة ظواهر مجتمعنا المعاصر التي أصبحت مستعصية ورسمت لنا طريق النجاة . والحمد لله رب العالمين .

وسوم: العدد 632