ديوان "وأنت وحدك أغنية"*

حالة من الإبداع الشعري في مسيرة الشعر العربي الحديث

clip_image002_1ce7f.jpg

هذا الديون الثالث** الذي نتناوله للشاعر "فراس حج محمد"، وهو الأكبر، حيث يتجاوز عدد صفحاته ثلاثمائة وسبعين صفحة، وما يحسب للشاعر أنه قدم لنا نفسه بطريق جديدة وبأشكال متباينة، فمرةً نجده متمرداً وأخرى أسيراً، ومرة يطالب بالحب والعشق، وأخرى يكفر بهما، ونجد التباين في شكل تقديم القصائد، فالبعض منها سهل، يمكننا مسك القصيدة وتأملها كيفما نريد، والبعض الآخر لا يمكننا تأملها إلا وهي محلقة فوقنا، فهي تأبى النزول وكأنها نجمة، وكلما حاولنا الاقتراب منها وجدنا المسافة التي تفصلنا عنها ما زالت على حالها، لكننا نبقى متعلقين بها، فهي تجذبنا بتألقها ونورها.

في هذا الديوان يتجاوز الشاعر ذاته، يتمرد حتى على نفسه، فيقدم لنا قصائد بلغات متعددة، بأفكار وصور متباينة، يتلاعب بالألفاظ بطريقة تظهر قدرته الإبداعية وكأنه من خلالها يتباهى أمامنا قائلا: "هذا أنا لا أشبه أحداً ولا أحد يشبهني".

بكل تجرد الديوان أكبر من أن أتناوله بالتحليل، لما فيه من فنية متميزة، ولغة فريدة وصور أدبية، وتلاعب بالألفاظ، لكنني كنت وعدت الشاعر بالحديث عن ديوان "وأنت وحدك أغنية"، من هنا سأحاول قدر ما أستطيع أن أتحدث عن بعض ما فيه، وليس كل ما فيه، فهو كبير ويصعب علي الإلمام بكل ما فيه.

المطر والاغتسال

يتحدث الشاعر في غالبية القصائد عن المطر/ الماء/ الاغتسال، وكأن هناك هاجساً يدفعه لذكر الماء والاغتسال، وكأنه يريد أن يطهر ذاته من شيء غير طاهر أقدم عليه، وأيضا يريد تطهير ذلك الشيء كذلك، من هنا وجدنا العديد من القصائد كانت تتحدث عن الماء والاغتسال.

وهذا ما يدفعنا للعودة إلى فكرة ملحمة جلجامش عن الاغتسال؛ فعندما تأنسن (أنكيدو) كان المرأة صاحبة الدور الرئيسي والمهم في تهذيبه، لكنه لم يتحول إلى إنسان حقيقي إلا بعد أن اغتسل ودهن جسده بالزيت، وهناك فكرة التعميد بالماء في الديانة المسيحية والتي تعود في أصلها إلى تعميد السيد المسيح بماء نهر الأردن، وعندما جاء الإسلام اشترط على كل من يريد أن يدخل في الدين الإسلامي بعد أن ينطق بالشهادتين أن يغتسل ليتطهر، وكأن الماء يجعله ولد من جديد.

ففكرة الاغتسال لها جذور عميقة في الأفكار الدينية وأيضا في الموروث الثقافي في المنطقة العربية، فكأن الشاعر من خلال هذا التركيز ـ إن كان يعي ذلك أم لا- على فعل الاغتسال ولفظ الماء والمطر يقدمنا من جديد من فكرة الاغتسال والتطهر والأنسنة، فيقول في قصيدة "البحر":

الآن تذهب نحو البحر

في البحر

مع موج يزلزل كل أقدامي

في الماء يغسلها

يذهب عن مناشفها الحبب

وحبّات العرق الرياضية

يستعرضها بنشوته يقبلها

يمرر يعضه فيها

ويكتب آخر مائه فيها. ص12

الماء وأثره على الجسد من تطهير وشفاء وتمتع ولذة، فهو الحياة للجسد وهو السيد الذي له الحق في ملامسة المحرم والممنوع، وهنا في هذه القصيدة يحمل الماء صفة الرمزية التي ستأخذنا نحو عالم الجنس والشهوة، فالفكرة تأخذنا نحو العلاقة بين الرجل والمرأة، كما أن آخر مقطع في القصيدة "ويكتب آخر مائه فيها" تحمل معنى العلاقة الجنسية وأيضا العلاقة الأدبية بمعنى ويكتب آخر قصيدة فيها/ عنها.

الشاعر يقدم لنا مفهوما جديدا للاغتسال بحيث يكاد ينفرد بهذا الطرح والمتمثل في قصيدة "على أنفاسي الحرى" فيقول:

لا تغسليني إلا في ماء الحياة

واغتسلي بكل عضو يرتوي مني على مهل الأناه" ص81و82

فهنا وحّد/ دمج/ تداخل فعل الاغتسال بالجسدين بحيث كلّ منهما يغتسل ويغسل الآخر، وهذا التصوير يمثل ذروة التألق عند الشاعر فنحن المتلقين للنص الشعري أصبحنا نشاهد جسما واحدا وليس جسمين، فكليهما يغسل ويغتسل، يأخذ ويعطي، وهذا التصوير متماثل مع الآية القرآنية من سورة البقرة 187، "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ"، فهنا قدم لنا الشاعر استخداما جديدا لمعنى الآية، وكأن هذا المشهد هو تفسير أو يتماثل مع تفسير الآية.

كما قلنا في السابق يحاول الشاعر ـ أحيانا ـ أن يجعل الماء يقوم بدور الرجل، أو ينوب عنه في أخذ ما يريد من جسد المرأة، فنجده يقدم لنا بعضا من هذه التورية، فيقول في قصيدة "أنت والمطر وأنا":

تغلغل القطرات في أنسامها

وتعبّ من نفَس الريح الخفيفة!

....

عرفت بأن البحر فيّ أنا

وأنثاي اشتهاء

تعرت مثل موج مثل ضوء

مثل روح مثل بحر  مثل ماء

الآن مدبرة بصورتها

فيسرقها منها المطر

بدت لا شيء يسترها سوى الماء

والضوء وعيناي وغيمات أخر

بدت فرعاء تثنيها مدغدغة الماء اللعوب

مصافحا أشياءها من متنها

أو شعرها أو ما تكامل بعد ذلك

فيبرق جسمها الفضي

شعشاعا يسيل من الجنبين ماء

النشوة الكبرى. ص139- 141

فالماء ناب عن الشاعر بما أراده من المرأة، أو أن الماء شارك الشاعر بما يريده منها، فالماء والشاعر يقومان بالفعل عينه، ويأخذان ما يريدانه من المرأة.

كما يؤكد الشاعر قيام الماء بالدور، بالإنابة عنه في قصيدة "دقيقتان جميلتان من عمر الزمن"، فيقول:

دقيقتان وكل شيء مكتمل

الماء يسكن إذ يسيل على الشفاه

يحس بدفء الدفقة الأولى. ص175

هناك العديد من الشواهد في الديوان التي تتحدث عن فعل الماء على جسد المرأة، وسنكتفي بهذا لننتقل إلى الوقت الذي أرادنا الشاعر أن نتأمله معه ومع الحبيبة.

الوقت

في العديد من القصائد كان الشاعر يذكر لنا وقت الصباح أو المساء، فنكاد لا نجد أحداثا خارج هذين الوقتين، فكل الأحداث متوقفة عليهما، فيقول في قصيدة "مساء العاشرة":

عندما يأتي المساء عند العاشرة

كانت هنا

تركت على جنبيّ بعض أنين

كانت تنام على يدي

تأتي إلي بوحيها في بيت شعر. ص83

فتحديد الوقت مهم جدا للشاعر، ففيه يجد المحبوبة، وفيه يستمتع معها، وفيه يطور قدراته الشعرية، فيكتب أجمل القصائد عنها ولها وفيها.

وفي قصيدة "شيء من صباح" يقول:

هذا الصباح

سأخلع عني الياء الملحقة بي

أتعرى من كل ما عدا لا شيء مني

أنزع ما تكاثر في جثتي من طيور الحجل

هذا الصباح أعلن أنني لا أشبه الأشياء

ولا الأشياء تشبهني. ص143.

من خلال تركيز الشاعر على وقت الصباح والمساء يريدنا أن نكون يقظين وفي كامل عافيتنا الجسدية والنفسية حتى نتأمل معه ما يقدمه لنا من صور ومشاهد وأحداث وأقوال ففي الصباح تكون الحيوية في كامل عافيتها، وفي المساء يكون التأمل في أفضل حالاته.

محو الجغرافيا

الجغرافيا مفقودة تماما من الديوان، ولم يذكرها إلا في قصيدة "مقاطع من سيرة حب" فيقول فيها:

هي غيمة في الأفق ماطرة النسيم

على الربى من أرض كنعان القديمة

في سهول من حنين

هي موج بحر كامل متجذر

من أرضها حتى الشواطئ في يافا وحيفا. ص294 و295.

وبقية الديوان كانت الجغرافيا غير حاضرة بتاتا، فقد كرّس الشاعر حديثة عن المرأة ووجعه، رؤيته عنها، مشاعره الجياشة، نظرته الجديدة عنها، من هنا نستطيع القول إن الشاعر تمرد على ذاته في هذا الديوان من خلال محو/ إلغاء الجغرافيا والتركيز على الأنا وهي فقط، فكان بذلك يقدم نصا خارج الجغرافيا وأقرب إلى الإنسانية منه إلى هموم فرد/ شخص يعيش في جغرافيا محددة.

تقمُّص حالة الأنثى

قدرة الشاعر على الحديث بلسان المرأة يعدّ حالة إبداعية تضاف إلى هذا الديوان، فهناك أكثر من موضع استطاع الشاعر أن يقدم لنا هذه الحالة، فيقول في قصيدة "مرة واحدة":

فلتقضميه بشهوة وجمال

والروح كأس ثمالة

فاجرعيني مرة واحدة. ص11.

فهنا الفعلان "فلتقضميه، فاجرعيني" يدلان على فعلين متعلقين بالأنثى رغم أن السارد هو الشاعر، لكن المدلول متعلق بالأنثى. وفي قصيدة "الفكرة" يقول:

لعل صديقتي تأتي وتشعلني كما قالت

لعل الغيمة العليا تغسّلني إذا شاءت

لعل البدر يغمرني ينور اللحظة التاهت. ص16.

هنا كانت الفكرة أوضح بتقمص دورة الأنثى فكل الأفعال التالية "تشعلني، تغسلني، يغمرني" متعلقة الأنثى ولا لبس فيها، كما أن مدلولها يختص بالأنثى، ويمكن أن تكون هذه الأفعال قد استخدمها الشاعر في اللاوعي، من هنا لا يمكننا التأكد تماما من هذا الأمر، لكنه في قصيدة "هل كنت أنثى؟" كان صريحا فقال:

كل ما فيّ مذكر ومنكر

غير أنت .. القصيدة.. اللغة.. اللحظة

.....

غير أنت القصيدة سر الشاعر المذكر

قد تأنثت في وريقات وشرنقة ووردة" ص100.

هذا الحديث يؤكد لنا حالة التقمص، أو جعل الذات تحسّ/ تفكر/ تتصرف/ تتحدث بالشاعر الأنثى.

قدرات الشاعر على استخدام/ التلاعب باللغة

هناك قصيدة استثنائية كتبها "فراس حج محمد" يريد من خلالها أن يبين قدراته على استخدام اللغة في الشعر، وأيضا يريدنا أن نتأمل ونتوقف عند هذا الإبداع فلا نمر عليه مرور الكرام، فكانت قصيدة "الشيء" تمثل إحدى العلامات البارزة في تألق الشاعر، إن كان على مستوى الألفاظ أو الفكرة، فيقول فيها:

شيء من الشيء يأتيها فيأتيني

شيء لشيء وشيء للمجانين

أنفذت وردتها في نصل شيئتها

فانتابه الشيء من شيء يشاهيني" ص235.

فلا يمكنننا إلا أن توقف عند القصيدة متأملين معجبين بطريقة استخدام الألفاظ وأيضا الزخم العددي لحرف "الشين" وللفظ "الشيء" الذي استخدمه الشاعر فتكاد تكون القصيدة درسا في الإبداع واستخدام الألفاظ والحروف.

التأثر بالقرآن الكريم

العديد من القصائد تجعل المتلقي يشعر بوجود تأثر بالقرآن الكريم، والشواهد عديدة في الديوان، منها المباشر وغير المباشر، فيقول في قصيدة "أرجوان":

ربما هي مرة

أو مرتان

فكرت في النهر

كيف أعبره

والبحر ذاك كان فيه سفينتان

فكرت فيك لأزرع الريحان بين يديك

فاستطال العشب اليابس في فمي

وفح الأفعوان

فيضة في بعض آن

ربما عابرا في مهرجان" ص49 و50.

فهنا التأثر بسورة الرحمن كان واضحا ولا لبس فيه، إن كان من خلال محاكاة الآيات، أم من خلال استحضار عين الألفاظ، فهنا يدعونا الشاعر إلى التقدم من هذه السورة تحديدا لما فيها من جمالية لغوية، وفنية في استخدام الكلمات والمعاني.

ويقول في قصيدة " العشاق مرضى بالكلب":

"العشاق مفتونون في النواصي الخاطئة الكاذبة" 151

"يفعلون ما لا يقولون" ص152.

وهناك العديد من هذه الشواهد التي تؤكد تأثر الشاعر بالقرآن الكريم.

تأثر الشاعر بما كُتِب سابقا

عالم الشعر لا بد أن يكون له امتداد وتواصل مع الماضي، وأيضا مع الحاضر، وكذلك لا بد أن تتوافق المشاعر الإنسانية عند العديد من الشعراء وإن اختلف الزمن، فالشعراء وحدهم من يستطيعون أن يرسموا لنا بالكلمات، ويستحضروا الألفاظ والكلمات ويقدموها لنا بشكل جديد، وأن أعطونا الفكرة عينها.

الحالة التي مر بها الشاعر جعلته يستخدم التعبير عينه الذي استخدمه الأخطل الصغير في قصيدة "عش أنت" التي قال فيها:

أنقى من الفجر الضحوك فـهل أعرت الفجر خدك

وأرق مـن طبع النسيم فـهل خلعت عليه بردك"

هذا المشهد المتألق قدمه لنا "فراس حج محمد" بهذا الشكل:

يشتاقها الماء والدفلى ونرجسة

حلو النسيم انتشى من حلو معناها

والفجر يغسل عند الصبحِ جبهته

بالورد منها جميلا في محياها. ص161.

وهذا يؤكد أن المشاعر الإنسانية تتماثل، واللغة والألفاظ تفرض ذاتها على الشاعر لكي يستخدم ما استخدم سابقاً، إن كان على دراية بما كتب أم لا، فالألفاظ واللغة واحدة، لكن طريقة تشكيل الأبيات تتباين بين الشعراء ولكلّ واحد منهم أسلوبه وطريقته في التصوير.

أعتقد بأن هذا التنوع والتشكيل في استخدام الألفاظ بين الشعراء يثري اللغة، وأيضا يفتح الباب لكل من يريد أن يبدع ويرسم بالكلمات.

في النهاية نقول بحيادية: هذا الديوان يمثل حالة إبداع متميزة في الشعر العربي الحديث وأعتقد بأن الشاعر استطاع أن يضع له بصمة واضحة في القصيدة العربية الحديثة وأن يرفع اسمه عاليا بين الشعراء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الديوان صادر في رام الله عن دار ليبرتي بوكس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، الطبعة الأولى، 2015.

** تناولت سابقا بالقراءة ديوان الشاعر الأول "أميرة الوجد" والديوان الثاني "مزاج غزة العاصف".

وسوم: 634