عمر بهاء الدين الأميري، شاعر الإنسانية المؤمنة
يحيل بعض الباحثين ضياع الإنسان المعاصر ، وقتل إنسانيته ، إلى الغرب المادي ؛ الذي خلف وراء القيم الإنسانية ، وصادر كرامة الإنسان باسم (الحضارة) ، وما هي في الواقع إلا (مادية) بائسة ، شقي بها ابن القرن العشرين من حيث يريد سعادته . وقد عالج شاعر الإنسانية المؤمنة الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله هذه القضية في بعض كتبه ؛ وأبرزها المجتمع الإسلامي والتيارات المعاصرة ، وتطرق إليها في شعره ؛ يقول :
" إن هذه الحضارة الحديثة قامت ابتداء على أسس الاتجاهات التجريبية العلمية التي اقتبستها أوروبا من الأندلس ومن الشرق الإسلامي ، النابعة من التوجيهات القرآنية .. ومن روح الإسلام الواقعية الإنسانية ، إلا أنها حين انتقلت إلى أوروبا لم تنتقل بجذورها الفلسفية ، وإنما انتقلت علوماً وطرقاً فنية ، ومناهج تجريبية ، وصادفت ذلك (الفصام النكد) بين الدين والنهضة الحضارية . ومن ثم لم يُلحظ في بنائها هذا (الإنسان) المفروض أنه صانعها ، وأنها من أجله صنعت . كذلك أصبحت لا تلائم هذا (الإنسان) ، بل تستحق خصائصه الأساسية ، التي تجعل منه هذا الكائن الفذ الفريد في الكون ، والتي من دونها لا يملك هذا الكائن أن يؤدي دوره ..." إن من مساوئ حضارة الغرب الحديثة أنها ألغت الروح من حساباتها ، فصار الجسد هو كل شيء في اعتبارها ؛ ولذلك شقي بها الإنسان المخلوق من عنصرين لا يستطيع أن يسعد من دون أن يتوازى الغذاء بينهما ؛ يقول (الأميري) :
ويصف خواء هذه الحضارة ، التي غزت الفضاء ، وأبناؤها صرعى في وحول المخدرات والمجون والجريمة ؛ فيقول :
وفي قصيدة أخرى يكرر هذه الأفكار ، ويشير إلى فكرة من أبرز أفكار الشعر الإنساني المعاصر ؛ وهي فكرة (الأخوة الإنسانية) ، ثم يقرر الحضارة الحقة التي يتطلع إليها الإنسان ؛ يقول :
لقد توقع عدد من مفكري الشرق والغرب قرب احتضار الحضارة الغربية ؛ وأعلنوا أنه " انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض ؛ لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة ، ولم يبق لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم ، تصلح لقيادة البشرية ، وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقي .. النمو والترقي للعنصر الإنساني ، وللقيم الإنسانية ، وللحياة الإنسانية .." ، ويصوغ (الأميري) هذه الفكرة شعراً ؛ متأثراً ـ في غالب الظن ـ بها ؛ يقول :
وضرب الشاعر لانحدار هذه الحضارة مثليين حيين عايشهما بنفسه ؛ الأول حين سأل صاحب سيارة أجرة عجوزاً في (باريس) : عن أحوال بلده ، وكان قد درس فيها قبل ثلاثين عاماً :
ويستمر السائق العجوز في نقد الحضارة المحيطة به ؛ ضارباً المثل بحادثة دهس طفل في الحي ؛ حيث فرّ الجاني تاركاً ضحيته يتلبط في دمه حياً ، وظل الطفل ينزف بينما الناس يمرون به فلا يتوقف واحد منهم رحمة به ، ويأتي بصور التيه التي بلّدت إنسانيتهم عن اهتزازتها الطبيعية في مثل هذه المواقف ؛ يقول :
ثم وصل إلى نتيجة جعل عينيه تغيمان بالدموع على بني جلدته ، وكأنه ينعاهم :
والمثل الثاني كتب فيه أكثر من قصيدة ؛ يفتش فيها عن وهج الإنسانية الدفين تحت رماد المعصية المتراكم في قلوب فتيات المراقص والحانات في أوروبا ؛ راسماً صورة مكتملة الملامح لنفسياتهن المرهفة ، ومبرزاً ذلك الازدواج الممزق لأرواحهن وهن يقمن بذلك العمل المهين لإنسانيتهن ؛ إنهن يمسين كالآلات من غير روح ، بنشرن أشذاء العطور ، وفي أعماقهن يفوح الأذى ، ويتضاحكن للحاضرين والحاضرات ، وقد طويت قلوبهن على الجراح النازفة ، والآلام المبرحة ...؛ يقول في قصيدته (رق) :
ثم يتوجه إلى الإنسان بعتاب ولوم يشبهان النواح ، على ما وصل إليه حال البشرية اليوم ؛ فيقول :
وبعد .. فهل آمال الشعر الإنساني التي عبر عنها (الأميري) وغيره من شعراء العالم في العصر الحديث " مثالية ، وأنها تحلق في خيال بعيد لعالم لا يمكن أن يتحقق على الأرض " ؛ كما ذكر بعض الباحثين ؟
قد تكون !! " إلا أنها في جوهرها عامل مهم في تغذية الروح الإنسانية ، وشحنها بمشاعر نبيلة ، تهدف في النهاية إلى إزالة البؤس والشقاء عن البشر ، وتكون خطوة مهمة على طريق بناء الإنسان ؛ لأن المشاعر والأحاسيس هي التي تولد الظروف الملائمة للخلاص من الألم والعذاب ، وتوحي للعقل في كثير من الأحيان ليتصرف تصرفاً يدفع البؤس عن الناس ، ويحقق لهم الرخاء والسلام ".
وسوم: 640