حركية الاستعارة والانفعال ضمن جغرافية نص (سفمونية النصر.. شنكال غمز التين) للشاعر الكوردي شينوار ابراهيم
النص: شينوار ابراهيم
سمفونية النصر....شنكال غمز التين !
كم اشتهي
قبلة منك
شنكال
التي لم تنم تحت اعين
الخنازير....
لم تغتسل
بمطرهم الاسود
وجنتاك الطاهرتان
بطهارة لالش.....
اغلقت في وجوههم
ابواب الله.....
اليوم
هطل من السماء
شعاع النصر
اسمع اصوات
اقدام
البشمركة
من اعالي الجبال
تسير
على انغام
خرير النصر.....
تحدوا كل المراهنات
اصبحوا
ملائكة الحرية
سرب النوارس البيضاء
في قلوب الناس
نسمات
من وطن الفجر
يغسلون بدمائهم
معابدك
كنائسك
ياابنة
الشمس
افتحي عينيك
انهضي
يا شنكال
لقد قتلوا الكابوس
ماتت داعش....
كما قتل (بارد)
التنين (سماوك)
في اساطير تولكين
.....(الهوبيت)
فرائحة التين
عادت
تملأ أنفي
ايقظت الفراشات
من نوم الشتاء
عانقتني
عصافير الجمال
لنحتفل بلون الثلج
بربيع ولد
من قلب
الخريف الاعمى
في حضن
شنكال....
المدينة المقدسة
في قلب
كل وطني....
القراءة / بقلم : جوتيار تمر
سمفونية النصر.....شنكال .. غمز التين !
حين قرأت النص باللغتين العربيةوالكوردية ادركت القيمة الدلالية والصورية التي اشتغل عليها شاعرنا بدءاً بالعنوان ومروراً بالترجمة الرائعة التي قدمها (كاميل كاكه يى ) ووانتهاءً بالمضمون الذي يحاكي برؤيته المعبرة باحساس مرهف عن تجربة شعرية نابعة من صميم التفاعل الوجداني العقائدي الانتمائي الانساني بالواقع الذي تم رصده من خلال عدسة الشاعر الدقيقة، ولعل العنوان كمدخل ايحائي قصدي للقصيدة يوضح ذلك، ويوضح العمق الانفعالي الذي يقدمه الشاعر لنا من خلال تلاحمه المباشر مع الحدث على الرغم من البعد المسافاتي بينه وبين الموقع الا الانتماء والايمان والمصداقية كلها تؤثث عوالم النص بتقنية راقية جمعت بين الحدث المصور والمتمثل ب( سمفونية النصر) ب بالمكانية ( شنكال) ومن ثم جمعت الاثنين داخل اطار لوحة تشكيلية تعبر بوضوح عن جمالية الايحاء العنواني لدى شاعرنا( غمز التين) ، فكأننا منذ الوهلة الاولى من النص وعبر العنونة نعيش وقع المضمون ومسار ونسق الرؤية.
كم اشتهي
قبلة منك
شنكال
التي لم تنم تحت اعين
الخنازير....
لم تغتسل
بمطرهم الاسود
وجنتاك الطاهرتان
بطهارة لالش.....
اغلقت في وجوههم
ابواب الله.....
الرؤية ترتكز على قيمة التجربة الشعورية التي يخوضها الشاعر تجاه حدث حرك في داخله كل انفعال ممكن، وكل شعور يمكنه ان يتقد ويصل قيمة الحدث، فكانت البداية واضحة " كم اشتهي..." هو ليس اشتهاء الممكن العادي انما هو اشتهاء يأتي حسب مقتضيات واقعية تمس الذات الشاعرة بكونها تعيش في غربتها، وتمس في الوقت نفسه رغبته المتقدة في الامتزاج بما يشتهي، وهذا ما يخلق الدهشة الممكنة في الحدث النصي الشعري او لنقل بانه ما يخلق الصدمة الشعرية التي من خلالها يعيش النص علائقية تعبر عن مدى الالتحام على الرغم من تصادم ذلك بواقع الظرف واستحالته مادياً اي ما يمكن ان يخلق التضاد الشعوري الراغب في ادراك الفعل ولكنه يصطدم بعائق ما، وهذا ما يتجلى من خلال الدلالات التي يوظفها الشاعر ضمن حدثية تصاعدية في وتيرتها ومتناغمة في نسقها، فالاشتهاء هنا يستوجب البوح بشيء يضاهي الفعل ليس على مستوى الصورة فحسب انما على المستويين البلاغي والتصويري لذا استوجب الاشتهاء القبلة وبلاشك هي احدى مثيرات الاشتهاء، وهذا ما اتاح حراكاً انفعالياً ممنطقاً استطاع شاعرنا ان يرسم بلغته مسار رؤيته وموقفه في ان واحد تجاه الحدث " شنكال" بتعابير استعارية موفقة تفرق كثيرا عن التعابير الخالية من المعنى وذلك لأن التعبير الاستعاري حسب " دوبرزنسكا" هو كسر مقصود للحدود الدلالية في حين ان التعابير الخالية من المعنى غير قابلة للتأويل بتعكس التعابير الاستعارية الحية كالتي استخدمها شاعرنا " التي لم تنم تحت اعين الخنازير.. لم تغتسل بمطرهم الاسود.." فالاستعارة هنا تعبيرية حية بل انها تكاد تفضح الممضمون بتصويرية ناضجة ذات حراك تأويلي يحاكي الحدثية، فاعين الخنازير تعبير حي لماهية من ارادوا ان يغرقوا شنكال بمطرهم الاسود كناية الى عرقهم ولبسهم وانتمائهم العقائدي النتن" خنازير" وهذه هي الاستعارة الحية التي تختلف بمضمونها وحراكها عن الاستعارة الميتة لكون الاخيرة لايشعر فيها المتلقي بالصورة المجازية.. وشاعرنا يبدع في تصويره التعبيري الاستعاري الحي كي ينقلنا معه الى اتون الحدث النصي.. ولذلك نجده يحول مسارنا مباشرة بعد هذه الاستعارة الواضحة الدلال، الى هول ما كان سيصيب وجنتاها الطاهرتين بطهارة لالش " مكان مقدس في كوردستان لدى اهالي شنكال" اذا استطاع مطرهم الاسود ان يهطل عليها، لذا الصورة هنا تحاكي قيمة الحالة بكل تمفصلاتها لكونها لم تأتي بمفردة او لفظة او تعبير استعاري اقل قيمة من قيمة لالش بل ختمها الشاعر بما هو اسمى حين قارنها بابواب الله وهذا بلاشك يعطي دافعاً واضحاً للمتلقي كي يعتقد بان الشاعر يعلن انتمائه ولكنه انتماء طاهر نقي لكونه نابع من الايمان بالحدث نفسه، وبكون الحق معه، لذا حين تغلق شنكال ابوابها بوجه اصحاب اعين الخنازير، واصحاب اللباس الاسود ، فانها لاتفعل ذلك بنفسها انما صاحب الابواب " الله" هو الذي يغلقها باوجههم، لذا فانه "الله" هو من يتكفل بحمايتها من تدنس امكانها المقدسة بدخول امثال هولاء اليها.
اليوم
هطل من السماء
شعاع النصر
اسمع اصوات
اقدام
البشمركة
من اعالي الجبال
تسير
على انغام
خرير النصر.....
تحدوا كل المراهنات
اصبحوا
ملائكة الحرية
اعطت الاستعارات السابقة للمكانية قيمة شعرية واضحة من خلال دلالاتها والايحاءات الرامزة التي بدورها اتسمت بالقصدية احياناً و بالاستفزاز الذهني في احيان اخرى، وفي كلا الحالتين استطاعت تلك الاستعارات والايحاءات الرامزة ان تخلق نمطاً واسلوباً شعرياً يجبر الشاعر على اللجوء الى زمنية تحاكي الحدث الشعري النصي كيف يتوازي مع المضمونات "الموضوع " وهذا ما نلامسه في " اليوم...هطل من السماء ...شعاع النصر.." فالزمنية هنا لاتحاكي المكانية فحسب بل تجعلنا نعيش الحدث بكل تفاصيله سواء من حيث النهل من الواقع العياني وذلك عبر معاينتنا للصورة الذهنية الرمزية التي خلفتها المطر الاسود، او من خلال المكانية شنكال، مما يعني اننا ووفق المعطيات نعيش اليوم الانتصار الذي تحقق على السواد واصحابه، وكي تكتمل الصورة عند الشاعر والمتلقي نجده يسرع في اظهار مسببات النصر ويبين ماهية شعاع النصر " اسمع اصوات اقدام..." هذا التمهيد يبرهن على قدسية ما سيليه، لان الشاعر لم يفصح مباشرة عن اصحاب الاقدام الصادرة لتلك الاصوات، وهذا بلاشك يعكس دهاء الشاعر في تعامله مع مفرداته وقضاياه معاً بحيث يوظفها حسب اولويات النتاج الشعري ، لذا نجده حين يذكر اسم " البيشمركة" فكأنه يضبف هالة من التعظيم والتكبير على ذكر اسمهم وبحق الامر يستحق لكونهم بلا هوادة من استطاعوا وضع لحد للعنة السواد الطاغي على المنطقة في الاونة الاخيرة، والشاعر لايبخل عن ابداء موقفه تجاه البيشمركة.. كما انه لايبخل على المتلقي الذي لايعرف ماهية انتماء البيشمركة ان يضعه على عتبة التأويل حين يذكر " مناعالي الجبال... تسير على انغام خرير النصر..." فهنا الطبيعة تفرض نفسها وتعطي للمتلقي الانطباع التصويري الواضع الذي يجعله يقف على المكانية والزمنية في آن واحد، فتاريخياً عرف عن البيشمركة انهم يتحصنون ضد الطغاة في الجبال، والجبال هذه خرير النصر، خرير المياه فيها لها جمالية خاصة تضاف الى قدسية البيشمركة... لاسيما انهم كانوا ومازالوا يتحدون كل المعادلات والمراهنات والصفقات كي يبقوا ويحافظوا على قدسيتهم وعلى روعتهم التي وصفها الشاعر ب"ملائكة الحرية.." .
سرب النوارس البيضاء
في قلوب الناس
نسمات
من وطن الفجر
يغسلون بدمائهم
معابدك
كنائسك
ياابنة
الشمس
افتحي عينيك
انهضي
يا شنكال
لقد قتلوا الكابوس
ماتت داعش....
كما قتل (بارد)
التنين (سماوك)
في اساطير تولكين
.....(الهوبيت)
تتشكل المعالم التشكيلية الاستعارية هنا من خلال التوظيفات البلاغية التصويرية الواصفة احيانا والمتخذة من لباس الاسطورة احياناً اخرى، ومن خلالهما ثمة ناداءات انسانية تماهي في حراكها الاستعارات والوصفيات والرمزيات، مما يعني بالتالي اننا امام مشهد ديناميكي متجذر من حيث كينونته في الوجود، ومتطور باشكاله من حيث الحاضر، ولايمكن التنبأ بالاتي لكونه لايأتي دائما بنفس اللباس لكونه لايخرج في معتقداته عن الاسود، وهذا ما يتطلب من المتلقي ان ينظر الى النص سواء من خلال اللغة او الصور عبر ممرات الادراك التي تفر هنا مستويين من الاستعارة الذهنية واللغوية فمن خلال الاستعارة الذهنية تتشكل المعالم المعرفية والدلالية التي تتخذ شكل الحقل او الهدف من استخدام تلك الاستعارات وهذا يتجلى في هذا النمط الاستدلالي او الحقل الدلالي الذي وظفه شاعرنا موضحا فيها مرتكزات رؤاه تجاه الحدث " سرب النوارس البيضاء.... قلوب الناس.. وطن الفجر.. يغسلون... معابدك .. كنائسك.. يابنة الشمس.. شنكال...." هذه الصور الملتطقة من قبل الشاعر عن المكانية روح انتمائية انسانية تفوق في تصورها التصور الجمعي نفسه لكونها يتخذ من المكونات هذه الهدف الحقل الدلالي الذي من خلاله يوجه رسالته ويوصل فكرته ورؤيته الى المتلقي وكل هذا لايتعدى الحقل/ الهدف الاساس " شنكال" فاعتبارها الممهدة لخلق هذا الحقل الدلالي.. والذي صمد وتحرر.. واستفاق من كابوسه الاسود... وهذا ما استدعى من الشاعر ان يقع في المباشرة بعيداً عن اللغوي الداعي احياناً الى الترميز وعدم المباشرة، لكن شاعرنا من شدة انفعاله وتفعاله يأتي على استبدال اعين الخنازير والمطر الاسود والكابوس ب " داعش..." مأساة العصر .. ويعلن على الملأ موتهم.. انها بلاشك انفعالية زائدة وخارجة عن نسقها ومسارها وقع الشاعر فيها، لكنها بحق اتت ضمن مثار انفعالي اندماجي نابع من الغربة وكنة القبلة التي اراد منذ البداية رسهما على جبين شنكال.. وهذا بالتالي ما استدعى ان يستفيق الشاعر من كابوسه ايضاً ويحاول العودة الى النسق الشعري الاستعاري الرامز المبني على الاستعارة اللغوية باعتبارها تمظهر في الاشكال الكتابية والمنطوقة، ومستغلاً في سعيه لتحقيق ذلك الاسطورة والرمز كي يعيد المتلقي الى دائرة الحدث عبر تفاعله وانفعالاته ايضاً اي كي يظهر للمتلقي بان انفعالاته ليست وحدها المصدر هنا "كما قتل (بارد)..
التنين (سماوك)....في اساطير تولكين.. الهوبيت..." وهذه محاكاة لغوية صورية تفتح امام المتلقي مساحة مخيال واسعة بحيث يمزج الحدث الاني " شنكال" بهذه الصور المنتقاة من بين صور تتشابه مع مكنونها لكنها تختلف في مسعاها، فهنا الصراع بين النور.. والظلام.. كما في الان الصراع بين ملائكة الحرية والمطر الاسود.
فرائحة التين
عادت
تملأ أنفي
ايقظت الفراشات
من نوم الشتاء
عانقتني
عصافير الجمال
لنحتفل بلون الثلج
بربيع ولد
من قلب
الخريف الاعمى
في حضن
شنكال....
المدينة المقدسة
في قلب
كل وطني....
تلك الاستعارات ساهمت في بروز معاني معقولة خفية في صورها المحسوسة، الحية المتحركة كأن العين ترصدها عن قرب وتعايشها ليس انفعالياً وجدانياً شعورياً فقط، انما مادياً ايضاً..لهذا فانها تخرج عن كونها مجرد زخرف لفظي مضاف الى المعنى... وقد استطاع شاعرنا من خلال لغته ان يفتح حقل دلالي تصويري يستدعي التفكير والتأمل في آن واحد ، فاعادة النص الى العنونة من خلال رائحة التين امر استدعى منه الاستعانة بلغة تشبيهية وصفية ربما مغايرة لتلك التي استخدمها في ايصال مضمون رسالته بالاخص في مرحلة الايحاء القصدي الرامز والمستفز للذهنية.. وهذا التحول بلاشك يحتاج الى مهنية لكون اي انحراف عن النسق يحول النص الى مجرد سرد قصصي او بوحي خاطري، ولذلك نقول بأنها تحتاج الى مهنية وحرفية في التعامل مع المفردات من جهة، ومع الحفاظ على الترتيب الحدثي ، وشاعرنا متمكن من ادواته لذا نجده يحترف في توظيفاته الدلالية فاعادة النص في هذه المرحلة للعنوان لم يكلفه الخروج عن النسق بل جعله يعيد رسم ملامح العنوان في الحدث كي يؤكد على اهمية وحدة العضوية والتنامي في النص " فرائحة التين ... عادت ..تملأ انفي.. ايظقت الفراشات.. من نوم الشتاء..."، هي موجبات الاعادة.. لكنها في الوقت نفسها ممرات تخييل تعيد رسم الواقع بالوان جديدة تتناسب وحقبة ما بعد السواد وموت داعش.. لذا التين رائحته تزكي مشاعر الشاعر وتجعله يستعيد الصور الملتصقة بلا وعيه فيخترق الازمنة ويعود الى الماضبي حيث الذاكرة المشبعة بالصور هذه... ويخرجها الى النور بعد سبات الشتاء.. سبات السواد.. سبات داعش.. لذا نراه يتفاعل مع تلك الصور من لاوعيه.. فكأنه صوفي يناجي محبوبته.. وينادي بصوت مسموع " عانقتني .. عصافير الجمال.. " ولايكتفي بذلك بل ينتشي بتلك المعانقة فتخرج المفردات هنا طوعية لاسيطرة له عليها بل يسايرها بصورة مباشرة" لنحتفل بلون الثلج.. بربيع ولد..من قلب الخريف في الاعمى... في حضن شنكال... المدينة المقدسة.. في قلب ..كل وطني..." وهكذا تتفاعل الاصوات الرامزة باللغة الناطقة التي تمنطق بدورها الرؤية ضمن نسق شعري يجعله ذا نشاط استنطاقي غني بكثير من الامكانيات والمشاعر والانفعالات التي تتوالى عليه عبر اختراق واضح للاوعي وانفلات شعوري اتسم بالمعقولية لكونه اضاف بعض النماذج الصورية النابعة من صميم المكانية الى الصور السابقة التي اصتكاع الشاعر من خلالها ان ينمي فكرة انتماء البيشمركة ، فالثلوج، والربيع، في شنكال لها خاصية، والشاعر في محاكاته يقحمهما في جدلية البياض كلون محبب الى اهالي شنكال والربيع لكونه يضم في طياته كل ما يتوجب ان يوثق الانتماء الى وطن كبير مشتت.. وهذا ما يريد شاعرنا ان يقوله من خلال " كل وطني " دون ان يشير مباشرة الى اسمه.. لكونه يعي تبعيات المباشرة هنا، فهي ستختلف عن سابقتها، فالوطن هنا مشتت.. وليس هناك ما يعبر عن المضمون وما في قلب الشاعر بشكل مناسب مثلما يفعل " كل وطني..".
وسوم: العدد 644