محبرة الخليقة (55)
تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً .
كم نحن بحاجة إلى هذا الحلف المقدّس الذي يتحالف فيه الشاعر مع الله ؟ والخطوة الأولى في عقد هذا التحالف العظيم هو أن "يعترف" الشاعر ، وعلناً ، بسطوة الرسام الأول والأعظم والأروع والأقدر : الله :
( يا
بستانَ الرمّانِ الشفقيِّ ، توشّحْ آناً
بالأخضرِ ، آناً بالأزرقِ ، ولتدخلْ بوابتكَ الريحُ ، فقدْ
بلغَ السُّكّرُ في الرمّانِ
مساهْ ،
ولتحملْهُ على أطباقِ الغيمِ
إلى
مائدةِ اللهْ . – ص 1438) .
هل سمِعَنا الشاعرُ ؟
ها هو يدعو بستان الرمّان الشفقي إلى أن يحملَ ثماره على أطباق الغيم إلى الله . إذن فقد اعترف الشاعر الرسام ، وعلناً ، بقدرة الرسّام الأعظم . وهنا ستثور تساؤلات عديدة في نفس القاريء : لقد بدأنا هذا القسم بتساؤلات عاصفة ومتلاحقة وجهها الشاعر للعتمة ، ساءلها فيها عن سبب ومصير كل شيء في هذا الكون ، ساءلها حتى عن وجود الله ، وهل أوجده الله أم هو الذي أوجد الله ؟ كما وسمت هذه التساؤلات نصوص الديوان كلّه ، فأين راحت تلك التساؤلات الحارقة ؟ وهل وجد الشاعر جواباً لها ، وهو يعترف بالله قبيل نهاية هذا المقطع (الثاني) عبر التورية التي لا تغيّر شيئاً من واقع الحال ؟ هل استقرت روحه الملتاعة وعقله الهائج بعد هذا الشوط الطويل من عذاب الحيرة ، والتيه في عوالم الشكّ ، بل حتى التشكيك ؟ وهل ما ذكره قبيل نهاية هذا الشوط يعبّر عن قناعة راسخة بأن هذا "الرسام" – برغم التورية التي لا تغيّر من الأمر شيئاً كما قلنا - هو الأكبر والأقدر ، والأهم أنه الرسام الذي صوّر هذا الكون ، أم أنها خطوة اعتراف حييّة يحسبه فيها موازياُ له وندّاً مثلما حصل في الكثير من النصوص السابقة ؟
من الواضح أن الشاعر قد سلّم بأن الله هو الرسّام الأوحد ، والأقدر . بل فوق ذلك أنّه يعلن له أنّه يرى روحه في لوحاته ، ويضعه مثاله حتى أنه يتمنى أن يترسم خطى إبداعه . وهذا هو اعترافه الموثّق :
( يا
سيّدَ رسّامي هذي الأرضِ افتحْ
معرِضكَ الساحرَ في قاعةِ هذا الأفقِ البحريِّ ،
وعلّقْ لوحاتكَ كيْ ألمحَ روحي فيها .
يوميّاً ،
يوميّاً ،
منذُ البدءِ ، ولا معرضَ
كالآخرِ . لا لوحةَ كالأخرى .
يا
ساحرُ ، لا ضربةَ ريشةِ
لونٍ ليستْ ببهاءٍ أروعَ ، سرٍّ أعمقَ ، رؤيا ابعدَ . يا
مَنْ تدعوهُ الأيامُ غروباً ، لو مثلَ خروجِ اللوحةِ عندكَ
تخرجُ من أعماقِ
دواتيْ
كلماتيْ . – ص 1438 و1439) .
ولكن الشاعر – وهذا مؤكّد – لن يستقر ، وسوف يعود إلى تساؤلاته التي سوف تتخم بها المقاطع المقبلة . لن يفارقه قلقه هذا ؛ فقلقه هو سرّ إبداعه ، كما أنه حافز سلوكه ، ومربك تكيّفه اللذيذ . وفي يوم اتصلت بي كاتبة معروفة كتبت عنها كثيراً ، وشكت لي من أعراض نفسيّة عصابية نعاني منها منذ زمن طويل ، ولم تطرحها لي كطبيب نفسي صديق لها وناقد لأعمالها ، خوفاً من أن تعلق بها "الوصمة –stigma " النفسية المعروفة في مجتمعنا . كانت تبحث عن علاج . قلت لها إنّ شفاءك من هذه الأعراض سوف يقضي على نصف مصادر إبداعك . وفعلاً كانت أغلب نصوصها تصعيد وإعادة تشكيل وتجسيد أو إنكار لهذه الحالة العصابية الخلاقة . وحين نجرّد الشاعر من قلقه هذا أو نُشفيه نكون قد قضينا على أعظم مصادر إبداعه . إذا أراد الإبقاء على وهج إبداعه ، فليبق على جمرة قلقه مستعرة في الداخل . أي فليتعذّب . وعلى طريقة الإلهة "ننسون" ، أمّ جلجامش العظيم ، وهي تخاطب الإله الأكبر عن حال ولدها : (منحته قلباً قلقاً .. فكيف يستقر ؟) . لقد تفاقم شقاء الإنسان مع الخطيئة .. خطيئة المعرفة .. مع تشغيل العقل الآثم الذي سيتعلق حتى الموت – كما تكشف سيدة الحكايات – بالغرفة المغلقة المحرّم فتحها ، والمعرفة فيها دائماً غرفة مغلقة محرّمة – وإلّا لن تصبح معرفة - مهما كان عدد الغرف التي نفتحها . كم فتح العلم والفسلفة من غرف في قصر المعرفة المسحور ؟ ظلّت تلك الغرفة المنزوية المخيفة والمغوية التي يتمنّى كل واحد منا فتحها ؛ غرفة الله ، حيث السؤال المستحيل والجواب المميت الذي قد يجعل المتجرّيْ حجراً :
( كم هو صعبٌ أن أعرفَ .
كمْ هو صعبٌ ألّا أعرفَ ما
أعرفُ كي أذهبَ في معرفةٍ أخرى .
إعرفْ ،
كيْ تصبحَ أنكَ لا تعرفُ شيئاً .
لا
تعرفْ شيئاً .
ليستْ معرفةُ الشيءِ سلاماً .
إنّي أمضي لسلامٍ
يعطيْ قلقيْ وجهاً
أبيضَ .
إنّي قلقٌ ،
قلقٌ ،
قلقٌ ،
أسئلتي قتلتْ فيَّ سلاميْ .
أجوبتيْ جعلتني حجراً . – ص 1460) .
وفي خضمّ حيرته الخانقة هذه ، لا ينسى الشاعر ثوابت الإدانة ؛ إدانة الجهات التي فاقمت تلك الحيرة وزادتها استعصاءً و "عتمة" ، حتى لو كان الأمر ناتجاُ عرضيّاً متعلّقاً باشتغال بنيتها وليس قصداً ، وفي مقدّمتها "الدين" :
( قالً الدينُ لنا :
إنّ الأرضَ المركزُ .
حولَ الأرضِ تلوحُ
كواكبُ تجري ، إذ تبدو الأرضُ كحورةِ ينبوعٍ ،
وتدورُ كواكبها حولَ الحَورةِ
كالعصفورْ .
قال الدينُ لنا :
إنّ جهنّمَ والفردوسَ وراءَ الشمس ،
وراءَ الشمسِ مجرّاتٌ
ومجرّاتٌ ،
ووراءَ زمانِ الخلقِ
الدينيِّ على الأرضِ
عصورٌ
تجريْ
خلفَ عصورْ . – ص 1427) .
لقّد أسّس الدينُ الأسس لنرجسيّة زائفة في أعماق الإنسان أطاح العلم بالكثير منها ، فجرّح نرجسيّة الإنسان كثيراً .. وكثيراً جدّاً . كان الدين يقول للإنسان إن أرضك – كما يذكّرنا الشاعر – هي مركز الكون والكوكب الأعظم . فجاء العلم / العقل على يدي كوبرنيكوس ، ليثبت أن الأرض ماهي إلّا مجرد كوكب صغير يدور حول الشمس . وكان العلم يقول للإنسان أنك أعلى المخلوقات ، وقد خُلقت بهذا العلوّ الشامخ أصلاً يا ملك المملكة الحيوانية . فجاء العلم ليزعم أن الإنسان ما هو إلا مجرد حلقة في سلسلة طويلة جداً من حلقات المملكة الحيوانية ، وأنه يشترك معها بالكثير من الغرائز المدنّسة في الوقت الذي يتعالى عليها بالقداسة . وكان العلم – أخيراً - يقول للإنسان أن عقلك هو زينة الكون ، وقائد حياتك ، وأنك كائن منطقي ، فجاء التحليل النفسي ليؤكّد على أن عقل الإنسان ما هو إلّا عشر جبل الثلج الطافي ، وأنّ تسعة اعشار عقله مغمورة في اللاشعور ، وأن الإنسان كائن تبريري ولا منطقي . ثلاث ضربات معرفيّة موجعة كبرى تلقّاها صدر نرجسية الإنسان . وجهها العلمُ ،، فهل كان الشاعر يرى في العلم خلاصاً ؟ :
( فيا أيّتها العتمةُ (...)
قد يُدهشنيْ العلمُ . ولكنّيْ اذهبُ
نحو المتخيّلِ لا نحو المجهرِ ،
والمختبراتِ ، وكلّ معادلةٍ يأتيها علماءُ
الأرضِ .
جميلٌ هذا الكونُ !
جميلٌ ،
وجميلٌ ،
حتى لا أعرفُ ماذا أفعلُ . (...)
يا
أيّتها العتمةُ ، من يفتحُ لي بابَ
الأسرارِ ؟ العقلُ أم
الحدسُ ؟
المعرفةُ العلميّةُ أم
طرقُ الرؤيةِ ؟
لا الأولى تحتاجُ إلى الكلماتِ ،
ولا الأخرى تشعرُ أنّ الكلماتِ لها قدرةُ أن تبلغَ
فيها معرفةَ الكونِ . – ص 1455 و1457) .
وكلّما اكتشف العلم جديداً معجزاً في الكون أو في جسد الإنسان ضاعف من اعتداد الكائن البشري بذاته ، ومزّق نرجسيته وضاعف كربه في الوقت نفسه . فسيصبح لدى الإنسان دوافع أخرى للشعور بالألم والغبن والإجحاف . كيف سيكون جسدٌ بهذا التعقيد والروعة غذاءً للديدان ؟ ولمن يتركُ كوناً بهذا السحر وبهذا التعقيد ؟ وهل يُعقل أن تكون ذرات ترابه وحجارته الصمّاء أكثر خلوداُ من الإنسان ؟ ثم أليس هذا المجيء والذهاب الذي لم يختره هو لعبة تعبث بمقدراته ؟
فهل ما يكشفه العلم ، وما يضعه الفلاسفة يكفي لأن "تعرف" حقّاً ؟ وهل يمكن أن نسمّيكَ "العارفَ" وأنت تموت ؟
وهكذا يعود الشاعر إلى عهد "الردّة" التي بدأنا بها هذا القسم وكل القصّة ؛ يرجع إلى القلق والتذبذب والحيرةِ التي اعتقدنا أنه قد غادرها بلا رجعة بعد أن أقرّ بسطوة الرسّام الأول والأكبر والأعظم و"عرف" من رسم الكون وما فيه :
( أصحيحٌ أنّ الله ، قديماً ، في
البدءِ الأولِ ،
كان
الكلمهْ ؟
أم أنّي لم استطعِ الرؤيا إلّا
فيها ؟
هل هي روحُ اللهِ ، أمَ انّ الله تنزّلَ فيها
إذ إنّي لا أقوى أن يذهبَ عقليْ أو روحيْ
أبعدّ منها ؟
هل يسكنُ في حلميْ سرُّ الكونِ ؟
هل الرؤيا في الشعرِ طريقيْ ؟
ما مِنْ رؤيا وجدتْ كلماتٍ إلّا فقدتْ مطلقها . – ص 1459) .
وسوم: العدد649