محبرة الخليقة (59)
تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً
النصُّ القتيل:
الأنا المحطّم
( يا
كلَّ نصوصِ الشمسِ عبرَ الوقتِ ، ما
كان سماويّاً وأرضيّاً ، ووهماً أمْ
حقيقهْ ،
أيّتها الجسرُ الذي ما عبرتهُ نحوَ
فردوسٍ لها روحُ
الخليقهْ ،
لا نصَّ إلّا وهوَ هادٍ ، وخلاصيٌّ ،
وحرُّ ،
وجميلْ ،
لكنهُ على يديْ كهانهِ
نصٌّ
قتيلْ . )
فالنص القتيل هو الجانب التطبيقي من احتفالية الفلك التي سلّم فيها الشاعر مقاديره للعلم والعلماء بعد أن يئس من الحصول على إجابات على شبكة اسئلته المعقّدة والمدوّخة . وصحيح أن استهلال هذا القسم يشعر القاريء بأننا انتقلنا إلى موضوعة أخرى تخصّ الفلاسفة :
( واختصمَ
الفلاسفهْ
في اللهِ .
منذُ البدءِ فيهِ اختصمَ
الفلاسفهْ . – ص 1521) .
لكن الشاعر بعد أن يستعرض – شعريّاً طبعاً - المواقف المختلفة للمذاهب الفلسفية الرئيسية في مسألة وجود الله من عدمه وصولاً إلى عصرنا الحاضر ، يعيد تذكيرنا بالفعل "أبحر" الذي هو المفردة المركزية في بحثه وضياعه وتساؤلاته ، فهو مبحر في بحار معضلات تتطلب بحاراً ، بل محيطات ، من الأجوبة مادام الجواب أوسع من السؤال آلاف المرّات لأنه غير مقنع ولا يهدهد جراح الروح في الحقيقة . فبعد رحلة تختصر آلاف السنين من لحظة خوف وهلع الإنسان البدائي التي جعلته يخلع صفة الألوهة على القدرة الكامنة وراء الظواهر المخيفة والمرعبة أو التي تُربك حياته وتتحكم فيها بلا تفسير مقنع ، مروراً بلمحات سريعة عن مواقف الحضارات المختلفة ، والأديان التي تصدّى كهّانها لجعل الله غطاءً لعبودية الإنسان ومساندة السلاطين والملوك والتجّار ، يكون قرار "أنا" الشاعر هو أن "يُبحر" كي يصل إلى الله :
( وسوفَ أبقى مبحراً في الكونِ
حتى أجدَ اللهَ الذي يُدعى :
"أنا"
فإنْ يكنْ خالقُ ذا
الكونِ إلهاً ، فإلهٌ هو أيضاً كاشفُ الكونِ . لأنّ
الكشفَ خلقٌ من جديدٍ .
فهما صنوانِ .
لم يبتعدا
يوماً .
ولا سماءَ . لا جحيمَ . لا رسولَ ،
أو ملاكَ . إنّما هما معاً . وأنّى التقيا في ذا
الوجودِ
اتحدا . – ص 1527 و1528) .
وحين أقول أنّه قد قرّر الإبحار كـ "أنا" ، فليس معنى ذلك أنّه قد سحب البساط من تحت أرجل العالِم "الصاعد" والعلماء "الصاعدين" الذين سلّمهم مقدراته ودعاهم إلى الإبحار عميقاً في حسرات الأرض ، كما قال ، وعاد هو ليتصدّى بنفسه ، بـ "أناه" ، لعملية الإبحار المخيفة هذه حسب ، بل هو قرار إحالة الصراع كلّه في معضلة البحث عن الله ، إلى سلطة "الأنا" البشري عموماً ، بشكل مباشر وبلا وكالات . والسبب هو المقترب الذي صار يتناول من منظوره المعضلة هذه ، حيث صار يراها صراعاً بين "الأنا" ممثلاً بالإنسان الباحث عن الإستقرار النفسي وقيادة واقعه وتحديد ملامح مستقبله ، وخصوصاً المسؤولية عن موته ، من جانب ، و "الأنت" ممثلاً بالله ، أو أي قوّة ما ورائية تكمن وراء مصير الإنسان ، وممثليه ووكلائه . وقد تلقّف الفلاسفة صراع الـ "نعم" والـ "لا" الرهيب هذا والذي سيطر على روح الإنسان وحياته ومزّقهما ، وانشغلوا وتقاتلوا عليه خصوصاً وأنّ وقتهم كان كثيراً وفائضاً ، فهم "بطالة" الفكر يلتذّون باي معضلة يشعرون في لاوعيهم أن ليس لها حلّا وشديدة الإستعصاء .. يفرحون بها فهي نوع من "الإستمناء الفكري" الذي يمكن تكراره إلى ما لا نهاية وحدّ الإعياء . وبين "نعم" .. هم ، و "لا" .. ئهم ، وقف الإنسان حائراً اشتبكت حول عقله خيوط هذه الحقيقة الثقيلة الخانقة :
( في الشرق والغربِ ، وفي أيّ مكانٍ
وزمانٍ ، لمْ يلحْ وجهٌ لطيفِ اللهِ إلّا اختصمَ
الفلاسفهْ .
نعمْ
ولا .
ولستَ موجوداً .
وموجودٌ .
وأنتَ القدرُ الفاطرُ هذا الكونَ .
لا شيءّ سوى ما قدْ خلقتهُ . لا شيءَ إلّا
ما أردتهُ ، وَ
لا ،
لا شيءَ يُدعى أنتَ . ربٌّ من خيالٍ
أنتَ . خوفي وسوادُ الوقتِ أوجداكَ . كلّما تنوّرتُ
بعقليْ ازددتُ ممحاةً لأمحوكَ بها . لا نصّ منكَ ،
لا حياةٌ بعدَ موتيْ . قدريْ داخلَ روحيْ . فأنا
هاملتْ . ولا أوديبَ بيْ . ما منقذي في الأرضِ
إلّا العقلُ . – ص 1522 و1523) .
وهكذا تدوم هذه اللعبة التي هي الحياة كلّها ، ما دامت تعني الموت الذي ظلّ هو الشيء الوحيد الذي يختص به الله . وهاملت كان متردّداً شلّ صراع رغباته المكبوتة الداخلي إرادته ، وجعله حائراً يستعيد واقعة قتل أبيه ويتفرّج على قاتله ؛ عمّه ، بلا فعلٍ ثأريّ مؤثر منه ضدّه ، وضدّ شريكته في الجريمة ، أمّه الملكة . أمّا أوديب فهو – كما هو معروف - مقترف جريمة قتل أبيه ، والزواج من أمّه ، بفعل قوى اللاشعور التي ساقته إلى قدره كالشخص الأعمى الذي تدهدى على هاوية سحيقة ، واستقر ممزقاً في قعرها المظلم . وكلاهما لا علاقة لهما بمعضلة البحث عن الله إلّا إذا أخذناهما كأنموذج لقوى اللاشعور المتجبّرة التي تجعل القدر الذي يُعزى إلى إرادة الآلهة ، قوة تفعل فعلها الحتمي داخل روح الإنسان . كما أنهما لا علاقة لهما بالعقل المتنوّر الذي يكشف الحجب والحقائق ويفكّ ألغاز الكون . قد تكون هذه من "زلّات القلم" اللاشعورية التي حلّل معانيها التحليل النفسي طويلاً وعميقاً واكتشف من خلالها "المعنى" في "اللا معنى" . أو أنّ الشاعر يرى – وهذه من الحقائق في مسيرة الإنسان الطويلة منذ فجر خليقته – أن الإيمان هو نتاج لعبة التوازن بين قوى "الأنا" و"الأنت" ، فكلّما اتسعت مقدّرات الأنا وزادت قدراته ، وتعدّدت المنافذ لانفلات قواه الغريزية الملجومة ، كلما تنمّر .. واستأسد .. وتعالى .. وتألّه ، ومقابل ذلك يغيض الأنت ، وينحسر ظلّ الله :
( كنتُ كلّما عرفتُ فاضَ بيْ "انا" ، وغاضَ فيَّ "الأنتَ" .
يا
"أنا" ويا
"أنا" ، (...)
أنا جلجامشُ
الهاتفُ : إنّي الله . يا زوشُ أنا برومثيوسْ ، لا
عرشَ لكْ .
لا
شيء لك .
وهذه النار مفاتيحيْ . فيا عناصرَ الكونِ
افتحيْ أسراركِ السوداءَ كيْ أمضيْ إليَّ . كمْ أنا
الآنَ بعيدُ عن أنا . آهِ اصعديْ يا نارُ بي إلى أنا
السريِّ حتى الآن عنّيْ . – ص 1524 و1525) .
ولم يكنْ جلجامش قادراً على أن يهتف : إنّي الله ، لأنه بشري ثلثاه من الآلهة وثلثه الباقي من البشر ، وهذا سرّ محنته التي أرعبته . لقد كان ثلثاه إله .. ويموت .. فما الفائدة ؟ لكنه كان متجبّراً طاغية في سلوكه كإله . أمّا برومثيوس فهو "سارق النار" (أو سارق المعرفة) الذي تجرّأ على الآلهة ، وسرق النار وجلبها إلى البشر ، فعاقبته الآلهة بأن قيّدته إلى صخرة ، وتركت نسراً يطعم يومياً من كبده .
وسوم: العدد 653