الحداثة والفكر التاريخي عند عبد الله العروي
يمثل المشروع الفكري الذي وطد أركانه المفكر المغربي عبد الله العروي في مؤلفات عديدة ومتنوعة لحظة متميزة في سياق الثقافة العربية الحديثة. فقد اتسم جهده الفكري بكثير من الغنى النظري والتماسك المنهجي. الأمر الذي أهله للخوض في إشكالات الفكر العربي المعاصر بكثير من الكفاءة والفاعلية. إذ ما فتئ العروي يلفت الانتباه، منذ صدور كتابه المهم ''الإيديولوجيا العربية المعاصرة''، بقدرته الفائقة على تجديد السؤال الفلسفي وتطوير وسائل التحليل المنهجي. لقد دشنت كتابات هذا المفكر عهدا جديدا في الفكر العربي المعاصر لما قدمته من معالم وإرهاصات تؤذن بميلاد مشروع ثقافي مختلف يتأسس على اختيارات فكرية وفلسفية واضحة تتوخى مساعدة المجتمعات العربية على تمثل أسس الحداثة واستيعاب أصول المعاصرة استنادا إلى وعي تاريخي منفتح تتجاوب فيه أسئلة الواقع مع معطيات التاريخ. فما هي أبرز ملامح المشروع الحداثي عند عبد الله العروي؟ وما هي أهم أسسه الفكرية ومنطلقاته التنظيرية؟
I_ دفاع عن الحداثة:
تكشف المعاينة الدقيقة لأعمال عبد الله العروي أنه ظل يتحرك ضمن أفق فكري محدد تجسد في واقع التأخر العربي الذي احتل مكانة مركزية في مؤلفات هذا المفكر الذي سخر مجمل إنتاجه الفكري من أجل بناء ممكنات الحداثة ورسم سبل التحديث في الوطن العربي. يقول ''إن ما كتبت إلى الآن يمثل فصولا من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة''[2].
يتحدد مفهوم الحداثة عند العروي بأنه قطيعة مع طريقة التفكير الموروثة عن القرون الوسطى. ذلك أن المبادئ والمنطلقات المؤسسة لفكرة الحداثة تختلف بشكل كلي عن الخلفيات المرجعية الناظمة لمختلف أنماط التفكير السلفي التي أخضعها العروي للتحليل المنهجي بغرض الوقوف على أهم أسباب انتشار الفكر التقليدي وتحديد وسائل مقاومته. وقد استلزم ذلك أن يوجه العروي جهوده الفكرية إلى نقد الأصول المعرفية المؤسسة لمرجعية التفكير التقليدي من جهة، والعمل على تحديد معالم المشروع الحداثي الذي يمثل بالنسبة إليه مقترحا فكريا وسياسيا بديلا يتيح للمجتمعات العربية تجاوز حالة التأخر الحضاري، والانخراط في حركة التاريخ الكوني. وقد مثلت الدعوة إلى القطيعة المنهجية مع التراث ونقد منظومة التفكير السلفي مدخلا ملائما لتحقيق هذه الغاية.
1_ضرورة القطيعة مع التراث:
يمكن اعتبار كتاب ''مفهوم العقل، مقالة في المفارقات'' محاولة نقدية لبعض صور التفكير التراثي، الذي يحتمي أصحابه بالماضي هروبا من مواجهة الأسئلة المحرجة التي يطرحها الحاضر. وقد اختار العروي مساجلة أصحاب هذا التوجه بطريقة تقوم على النقد المؤسس على الحجج والبراهين التي تتساند فيما بينها وتتعاضد في تركيب استدلالي يتيح الكشف عن محدودية العقل الإسلامي الذي تستند إليه أطروحات الفكر السلفي. فقد لحظ العروي أننا ما فتئنا، من جهة أولى، ''نقول ونكرر منذ عقود أن الفكر الذي ورثناه عن السلف – ما يسميه البعض التراث- يدور كله حول العقل''[4]. لكن حياتنا اليومية، من جهة ثانية، مليئة بصنوف عديدة من اللامعقول، مما يدفع إلى طرح سؤال إشكالي يكشف بوضوح مفارقة العقل الإسلامي: ''أولا يكون العقل الموروث الذي نتصوره ونرثه ونعتز به هو بالذات أصل الإحباط؟''[6]. فقد أرجع الباحث مظاهر التأخر التاريخي والحضاري، التي لازمت المجتمعات العربية، إلى العقل التراثي الذي ظل منطقا مضمرا يوجه عملية التعقل والتفكير في سياق الثقافة العربية: "ما كنت لأكتب في الموضوع لو عدنا نعني بالعقل في آن ما نعتقد ونقول. ما نفعل وننجز. كان ذلك حلم زعماء الإصلاح ولا يزال إلى يومنا هذا حلما غير محقق"[8]؛ فالعقل بمفهومه الحديث لم يعد نظرا أو استدلالا كما كان الشأن بالنسبة إلى العقل بمفهومه التقليدي، ولكنه تحول إلى عمل وإنجاز وسلوك. لقد تميز العقل في سياق الثقافة الإسلامية لأنه ظل محدودا بـ ''عقل أعلى'' هو العلم المطلق المؤدي إلى اليقين والذي ينتفي معه كل إعمال لقدرات العقل من فحص وتأمل وحيرة وتردد، لأن ''اليقين حاصل قبل النظر''[10] إنه ''عقل النص''[12]. إنها مفارقة محمد عبده التي نجمت عن ''الحصر الذي جعله ينفي الزمان ويظل وفيا للذهنية الكلامية التقليدية''[14]. ولذلك تركز جهد العروي في كتابه ''مفهوم العقل'' على فحص المرجعيات المؤسسة لخطابات الإصلاح التي يدعو أصحابها إلى التجديد انطلاقا من التراث. لقد أعاد ترتيب عناصر الفكر الإسلامي مما أتاح له الكشف عن محدودية الدعوة إلى استعادة منظومة التفكير التراثي، لأن العقل الموروث في نظره هو بالذات أصل الإحباط[16]. المطلوب إذا القطع مع منظومة التفكير التراثي التي تشتغل وفق قواعد ''المنطق الموروث، منطق القول والكون، منطق العقل بإطلاق''[18].
بهذا الانحياز الصريح إلى قيم المعاصرة والتحديث حسم العروي موقفه من مفارقة الشيخ محمد عبده ومعه جميع التراثيين الذين يصدرون عن مواقف انتقائية توفيقية تؤدي في نهاية المطاف إلى بروز هوة شاسعة بين العدة الذهنية والواقع الاجتماعي[20].
لقد أوضح العروي أن المنهجية الكلامية التقليدية عملت على حصر فاعليه العقل في "عقل النص" الذي يمثل الأصل الناظم لمرجعية التفكير السلفي بمختلف أشكاله وصوره؛ فالنص يتحدد في المرجعية التقليدية بأنه ''كلام وبيان. بل هو الكلام، الكون، والقول، والحق، والعلم، والعقل''[22]. وبذلك تم حصر العقل بمفهومه التراثي في "النص". وقد نجم عن ذلك أن "المعقول" في الثقافة العربية الإسلامية أصبح يتشكل من الخبر والحكمة والسنة أو التقليد أو سر الإمام. وتلتقي هذه الأسماء جميعها في أنها تسعى إلى العقل المطلق؛ ''العقل هو ما يعقل العقل ويحده، وما يعقل العقل ويؤسسه كعقل هو المطلق الذي هو علم مطلق''[24]. ولذلك ظل العقل الإسلامي عقلا تأمليا فرديا، يتحدد بوصفه ''مفهوما نظريا''[26]؛ أي إدراك واستيعاب مبادئ التطور وشروط التغير. والنتيجة المترتبة عن ذلك افتقار العقل في السياق الإسلامي إلى أبرز مقومات الحداثة. يتعلق الأمر بالتجريب (العلم الصناعي أو التكنولوجيا). وبذلك تحققت "القطيعة الجوهرية بين القديم والحديث''[28]. وقد جاء موقف العروي الداعي إلى القطيعة مع التراث نتيجة الاهتمام المتزايد الذي لقيته الظاهرة التراثية عند بعض المعاصرين الذين عملوا على استعادة مقولات الماضي من أجل توظيفها سياسيا في معارك الحاضر: ''إن التراث تحميه اليوم مؤسسة لا تترك لأحد حرية التأويل ومن أراد أن يحيي كلام البعض من مفكري الماضي، فإنه لا محالة مدفوع إلى إحياء الكل. وهذا هو سر موقف المؤسسة التقليدية عندما تصفق لإحياء كل قسم من التراث القديم مهما كانت الأغراض والظروف، لأنها تعلم أن النتيجة العامة ستكون في صالحها''[30] كما أعلن داعية التاريخانية أن ''الأهمية التي تعطى للتقليد باعتباره قيمة تبدو مقلقة''[32]. ولا ينبغي أن نفهم من هذا القول أن العروي يدعو إلى الانصراف كلية عن الاشتغال بالتراث؛ فالموقف السلبي من المتن التراثي لا يتعارض مع دراسته وفق رؤية أكاديمية صرف: ''لست أنكر التقليد بوصفه حدثا، فأنا أدرسه كظاهرة ولكني أنكره كقيمة''[34] فهذه الفكرة غير واردة تماما عند العروي الذي يصر على ضرورة ''طي الصفحة''[36].
لقد توخى العروي من نقد منظومة التفكر السلفي ''دفع الحاجز الذهني الذي كان يمنع من وزن الأفكار حسب حاجتنا التاريخية إليها''[38].
وقد بين العروي أن مفارقة عبده تجسدت بشكل أساس في البحث عن أجوبة لأسئلة الحاضر في التراث. مما أدى إلى خلق هوة بين ''الملاحظ والمروي، ما نجربه يوميا ونقول به (غير المعقول) وما نرويه من تراث الماضي ونقول عنه (كله معقول)''[40]؛ فالحق في منهجية التفكير التراثي واحد وثابت لا يتغير ولا يتبدل. ولذلك غلب على أصحاب الفكر التراثي الميل إلى استدعاء أقوال المتقدمين والنظر إليها باعتبارها حجة تحسم كل خلاف يعرض للناس في سائر العصور والبيئات. ويترتب عن ذلك انفصال الموقف الفكري عن الموقف الحياتي عند أصحاب هذا الفكر الذين ينطلقون من أن كل سلوك يوافق العقل والفطرة كان موجودا ''في زمن ما في الماضي وسيحصل في زمن ما من المستقبل، ولكنه غير حاصل في الحاضر. وهكذا يكون الفصل بين ما هو كائن وما يجب أن يكون هو بالضبط ما يضمن الربط بينهما في الماضي والمستقبل''[42].
يتميز التفكير السلفي بكونه يبتعد كثيرا عن قواعد وشروط التفكير العلمي ومنطلقاته النظرية المنحازة لقيم العقلانية والنسبية والتاريخانية، حيث يتحدد منهج السلفيين بأنه ''اللجوء إلى ضمانة الماضي لإنجاز إصلاحات فرضها الحاضر''[44].
لقد تمكن العروي من تشخيص مفارقة التفكير السلفي من خلال تحليل وتفكيك عناصر المنظومة المرجعية التي يستند إليها المثقف التقليدي من أجل مواجهة الأسئلة المربكة التي يطرحها عليه الواقع الجديد، حيث بين أن مفارقة الشيخ عبده، وهي مفارقة جميع التراثيين، تكمن في أنه ''استنجد بالعقل المطلق"[46] أي التطور والتغير الحاصلين في فكر الإنسان. لقد توقف عبده عند لحظة ظهور الإسلام مع أن الزمن لم يتوقف. وبذلك بقيت تصوراته الثقافية ومقترحاته الإصلاحية وفية لنظام الفكر الذي حكم الذهنية الكلامية التقليدية.
II_عناصر المشروع الحداثي:
تندرج أعمال عبد الله العروي في سياق الجدل الإيديولوجي الذي ساد الفكر العربي المعاصر بين دعاة الإصلاح السلفي وبين ممثلي الاتجاه الليبرالي القومي. وقد تركز الجدال بين أصحاب هذه المشاريع الفكرية حول قضية مركزية تمثلت في تشخيص وضعية التأخر التاريخي والتفكير في سبل تجاوزها. في هذا السياق الذي غلب عليه السجال الإيديولوجي تبلور خطاب العروي بوصفه جزءا من الإصلاحية العربية التي كانت تتفاعل في المشرق والمغرب على حد سواء في هذه الفترة. وقد شكل الوعي بتخلف المجتمع حافزا قويا عند العروي على بحث أسبابه وتقصي أشكاله ومظاهره. ولذلك مثلت الدعوة إلى الأخذ بأسباب الحداثة وضرورة الانخراط في سيرورة التطوير والتحديث مرتكزا مهما من مرتكزات البرنامج الإصلاحي الذي اقترحه العروي: ''لم يستوعب الفكر العربي مكاسب العقل الحديث من عقلانية وموضوعية وفعالية وإنسية، لكن هذا الاستيعاب. مهما تأخر، سيبقى في جدول الأعمال. كلما تأخر، كلما تشابكت الأوضاع وضعفت فعالية المجتمع العربي ككل، وليس ترديد الدعوة اليوم عنوان الرجوع إلى فترة سابقة بقدر ما هو وعي بنقص خطير ومحاولة استدراكه بأسرع ما يمكن''[48]. وقد شيد العروي مشروعه الفكري على جملة من الأسس والمرتكزات أهمها الثورة الثقافية والفكر التاريخي والماركسية الموضوعية والبعد الكوني للحداثة.
1_الثورة الثقافية:
افتتح العروي معركته الإيديولوجية مع ممثلي الثقافة العربية بكتابه ''الإيديولوجيا العربية المعاصرة'' لتتولى أعماله اللاحقة توضيح معالم المشروع الثقافي الذي يقترحه بديلا فكريا وسياسيا يتيح للعرب امتلاك أسس الحداثة وتمثل أصول المعاصرة. وقد اتخذت المعركة الإيديولوجيا صورة أكثر راديكالية في كتابه الأشهر ''العرب والفكر التاريخي'' الذي شيد العروي من خلاله خطابا برهانيا متماسكا وإن غلب عليه الطابع السجالي الذي يمثل عنصرا ملازما لكل دعوة إيديولوجية تتوخى المساهمة في تحقيق ثورة ثقافية حقيقية. حدد العروي في ''الإيديولوجية العربية المعاصرة'' النماذج التي تمثل الثقافة العربية المعاصرة فحصرهم في ثلاثة؛ الشيخ، والسياسي الليبرالي، وداعية التقنية[50].
بعد مناقشة تفصيلية لأفكار ومقترحات ممثلي الإيديولوجيا العربية المعاصرة أعلن العروي فشل هؤلاء جميعا في تحقيق التحول التاريخي المنشود؛ فالشيخ الذي يرمز به العروي للمثقف السلفي يؤمن إيمانا راسخا بأن التراث يمثل ''نظاما عقائديا كافيا وشافيا قادرا على تزويدنا بكل ما نحتاج إليه من حلول لكل مشكلات العصر''[52]. أما المثقف الليبرالي الانتقائي فمأساته أعمق، لأنه يكتفي بالمواكبة السطحية لإنجازات الحضارة الغربية، فيقع نتيجة لذلك ضحية استلاب وتبعية غير واعية للغرب المتقدم ''هؤلاء هم ضحية إغراء الغرب حسب تعبير مالرو. تنعكس اللبرالية الأوربية في أذهانهم انعكاسا تماما في الوقت الذي تواجه تلك الليبرالية في أوربا ذاتها هجومات من كل جانب. تتشابه سيرهم مهما تباعدت أوطانهم. يساهمون في البداية ولمدة قصيرة في الحياة السياسية، ثم يتفرغون للعمل التربوي. تخونهم الظروف. وضمن المجابهة الكبرى، بسبب تغاير الليبرالية لمجتمع لم تنشأ فيه، نرى بعضهم ينساق إلى اليأس وينعكف نحو قيم التقليد''[54]. ولا يمكن إنجاز ثورة ثقافية في نظر العروي إلا من خلال حرب إيديولوجية متواصلة، حيث يتوجب على المثقف ''أن ينفذ إلى الجذور ويتصدى لحرب إيديولوجية لا هوادة فيها. كانت الواجهة الثقافية الإيديولوجية دائما هادئة لأنها ميدان تعايش على أساس عبادة المطلقات. هذا الهدوء يجب أن ينتهي ويخلفه صراع متواصل''[56].
ينبني المشروع الثقافي البديل الذي يقترحه العروي على أساس فكري تاريخاني يؤمن بقدرة الإنسان على الفعل والإنجاز بما يقود إلى إغناء وتطوير مكاسب الحداثة كما بلورها الغرب الحديث والمعاصر. ذلك أن تجربة التحديث التي يتعين على المجتمعات العربية أن تخوضها ينبغي أن تقطع مع منطق التقليد الذي يتشكل باعتباره لحظة تكرارية تتوخى استعادة أمجاد الماضي (المشروع السلفي) أو تطمح إلى التطابق مع منجزات الحداثة الغربية (الاختيار الليبرالي). فقد أوجز العروي عناصر الأنموذج المثالي الذي يشكل ظاهرة الحداثة فحددها في الطبيعة والعقل والفرد والحرية، فالحداثة ''تنطلق من الطبيعة معتمدة على العقل في صالح الفرد لتصل إلى السعادة عن طريق الحرية''[58]:
1- معرفة معطيات الثقافة الحديثة.
2- معرفة تجربتنا التاريخية في كل مظاهرها.
3- إذكاء الوعي.
لذلك وصف العروي مشروعه الثقافي بأنه ''نقد إيديولوجي للإيديولوجية العربية (...) كتمهيد للعمل على تغيير الهياكل الاجتماعية. نقد موجه أساسا للناحية المثقفة في مرحلة انتقالها فرضتها إخفاقات الماضي وانحرافات الحاضر حتى نتهيأ لمرحلة لاحقة قد يعيننا على كسب معاركها التوضيح الإيديولوجي المتبوع بالتزام سياسي''[60]. ولذلك أدرج العروي سلسلة كتب المفاهيم التي أنجزها ضمن غاية كبرى تمثلت في تحديد ''منطق الحداثة''[62]. فقد أوضح العروي أن موضوع سلسلة المفاهيم "مرتبط بالوضع الذي نعيشه منذ قرنين، حيث انقطعت الصلة بيننا وبين وإنجازات ومنطق تراثنا الثقافي''[64] لينتهي به الأمر بأن "ينحل في شخصيات السلف الصالح''[66].
ولذلك انتقد العروي بحدة البرنامج السلفي والاختيار الليبرالي على حد سواء؛ فكلاهما لم ينجح في تقديم مشروع إصلاحي حقيقي يمكن من تجاوز حالة التأخر التاريخي: ''يوجد على الساحة العربية برنامجا يتفقان في الهدف؟ محو التخلف، ويفترقان في الغاية: الأصالة بالمحافظة على الموروث، أم النبوغ في إطار التراث الإنساني المشترك. الواقع أن كل برنامج بقي حتى اليوم مجرد دعوى. ولم يخرج أي منهما إلى حيز الوجود''[68].
تتحدد التبعية عند العروي باعتبارها مظهرا من مظاهر الاستلاب الثقافي والحضاري: ''السلفي يظن أنه حر في فكره، لكنه في الواقع لا يفكر باللغة العتيقة وفي نطاق التراث بل إن اللغة والتراث هما اللذان يفكران من خلال فكره. أما الانتقائي فإنه غالبا ما يفكر في نطاق الثقافة التي استقى منها معلوماته وباللغة التي استعملها لذلك. فتغيب عنه تماما مشكلات اللغة العربية والثقافة التقليدية''[70]. يؤكد ذلك واقع بعض الدول التي أرادت الخروج من شرنقة التخلف عبر التعاون مع الغرب. وقد كانت نتيجة ذلك ارتفاع معدلات الإنتاج والدخل ظاهريا، لكن التخلف ظل واقعا على المستوى الإنساني والاجتماعي والفكري. وما يزيد في تعميق الأزمة أن ''السلفي الانتقائي لا يعيان حتى التبعية التي يعيش فيها ويمهدان لها الطريق على الدوام''[72].
يحتاج توطين الحداثة في المجتمعات العربية إلى ثورة شاملة تمكن العرب من تجاوز النظرة المسحورة إلى العالم والتسلح بدلا من ذلك بالوعي التاريخي؛ فهو "مقياس المعاصرة''[74].
لقد مثل الفكر التاريخي مدخلا ملائما لإنجاز التحول المرتقب وتجاوز مظاهر التأخر التاريخي: ''علينا أن نقول بكل صراحة إن المجتمع الذي يتمشى على ضوء النظرة التاريخانية يسود العالم. ولم يستطع أي مجتمع كان المحافظة على مقامه وحقوقه إلا بالخضوع للمنطق الجديد. أما الوفاء لرؤية خصوصية بدون أدنى أمل في تعميقها وفرضها على الغير فإنه لا يؤدي إلا إلى كلام غير مسموع. الوعي التاريخي هو منطق العمل والإنجاز''[76].
إن التوجه إلى الماضي يجعل المثقف منفصلا عن مشكلات الواقع وأسئلة الحاضر، لأن الفكر التقليدي ''لا يتحدد بأحكامه العينية بقدر ما يعرف بمنهجه المبني على أن الحقيقة موجودة كاملة في مكان ما وفي زمن ما. يكشف عنها من حين إلى حين ودفعة واحدة''[78].
في مقابل ذلك يدرك الفرد، الذي اكتسب وعيا تاريخيا، أن الإنسان هو صانع التاريخ كما يقتنع بأن التطور التاريخي يسير في اتجاه واحد (من الماضي إلى المستقبل). وبذلك يصبح الفكر التاريخي أداة للتقدم والتطور (طفرة واقتصاد الزمن) لأنه يعطي للعمل منطقا ومفعولية، لأن ''الفكر التاريخي هو الذي يحرر المرء من الأوهام ويوجهه نحو الواقع والإنجاز''[80] لأن التحرر من أوزار الماضي لن يتحقق إلا إذا اكتسب العرب وعيا تاريخيا ومن دونه ''تغرق كل فكرة في بحر الحاضر الدائم، أي ترجع إلى أرضية الفكر السلفي''[82]. وقد أكد داعية التاريخانية أن استيعاب مكتسبات الحداثة كما بلورها الغرب الحديث سيظل على رأس جدول أعمال الفكر العربي المعاصر مهما طال الزمان[84].
لقد أعلن العروي هذا الاختيار ودافع عنه في مواضع عديدة من مصنفاته. يقول: ''لا أقول إن الماركسية التاريخانية هي لب الماركسية وحقيقتها المكونة، وإنما أكتفي بتسجيل واقع والتقيد به. وهو أن الأمة العربية محتاجة في ظروفها الحالية إلى تلك الماركسية بالذات لتكوّن نخبة مثقفة قادرة على تحديثها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، ثم بعد تشييد القاعدة الاقتصادية يتقوى الفكر العصري ويغذي نفسه بنفسه''[86].
يرفض العروي النقل المقلد للماركسية ويدعو بدلا من ذلك إلى تعريبها لغويا وثقافيا ''إن الماركسية أو بعبارة أدق الإيديولوجيا القومية المعاصرة للأحوال العالمية، التي لا تختصر في مبادئها المبسطة بل تنحل في منطق أبحاث تاريخية واجتماعية كبرى، ستذيع في المجتمع العربي، عن طريق الأبحاث، مفاهيم النفعية والليبرالية والتاريخانية. وستشارك في ذلك بأوفر قسط في بعث منطق سياسي في بلادنا. ومن هنا ضرورة تعريب الماركسية لغويا وثقافيا''[88].
ينظر العروي إلى الماركسية باعتبارها نظاما فكريا عاما يمتلك القدرة على تحديث ذهنية الأفراد بما يقود إلى تنوير وترشيد العمل السياسي وبالتالي تغيير وتطوير المجتمع، لأن فكر الحداثة يتركز بشكل أساس على قيمة الحرية والاستخدام الأقصى للعقل بمفهومه النقدي ومنح الفرد مكانة متميزة داخل المجتمع في إطار دولة حديثة تشكل نظاما عقلانيا يتولى تدبير الشأن العام استنادا إلى مشروعية أرضية تمثيلية. ذلك أن ''الديمقراطية كنظام مدني تقتضي أن لا أحد في المجتمع يملك الحقيقة السياسية (أي ما يصلح وما لا يصلح لخير وسعادة ونمو المجتمع) بل إن تلك الحقيقة تتكون شيئا فشيئا عن طريق المناقشة المتواصلة ومحاولات إقناع البعض الآخر. وأخيرا الاقتراع كوسيلة لإثبات حقيقة توافقية يصطلح عليها مؤقتا في انتظار نتائج التجربة وتغيير الأوضاع''[90]. ولذلك دعا العروي إلى ''ضرورة تبني الماركسية التاريخانية لخلق مجال ثقافي تتوحد فيه جماعة تكون فيما بعد نواة حركة تحديثية جديدة في المجتمع العربي''[92] الذي يتيح للعرب فهم منطق العالم الحديث وتمثل بنيته الكامنة مجسدة في المنطق الديمقراطي الليبرالي. ومن دون ذلك سنظل ''تلاميذ بلا نباهة (في) عالم شيد بجوارنا وربما على أرضنا نستلذ به ولا نتوصل إلى نواميسه''[94] أساس الدعوة الإيديولوجية التي عمل العروي على ترويجها والدفاع عنها. إنها البديل الفكري المقترح الذي يمكن المجتمعات العربية من تجاوز حالة التأخر التاريخي: ''إن التجارب بدأت على أساس فهم تاريخاني للماركسية. وتمكنت من خلق نخبة مثقفة ثورية أي متحررة من أوهام الماضي، ثم كونت تقليدا ثوريا قوميا تتلمذت عليه جماعات إثر جماعات. تفرقت بعد ذلك في مختلف دروب الحياة وعملت في ميادين متعددة على نشر أشكال الذهنية العقلانية. ونجحت أخيرا في دفع مجتمعها عن طريق ثورة ثقافية إلى أبواب العصر الحديث''[96]. وقد ذكر العروي أن دعوته إلى اعتناق الماركسية قامت ''على أساس المنفعة لا عن طريق التعليل المجرد''[98]. ويظهر ذلك بشكل واضح في تسمية العروي لماركس الذي يستلهم تراثه بـ "ماركس النافع"[100] الذي يتحدد عنده باعتباره الأفق المستقبلي والأنموذج الكوني الذي يتعين على المجتمعات العربية احتذاءه والسير في اتجاهه. فقد تشكل المشروع الإصلاحي الذي بلوره العروي من تنظير فلسفي بني على المبادئ الأربعة الآتية[102]. ولذلك دعا العروي إلى الاستفادة من دروس الحداثة الغربية رغم السلبيات التي يمكن أن يطرحها هذا الإجراء: ''المطلوب من المثقف أن يرفع في وجه ممثل الثقافة الأصيلة وما يترتب عنها من أنظمة وهياكل اجتماعية وسلوك، راية الثقافة التي تفتح أبواب التقدم رغم ما فيها أيضا من سلبيات، لأن التشبث بمقولة الأصالة نكاية في الغرب الامبريالي يعني في الظروف القائمة تعاميا عن الواقع وتنكرا للمستقبل''[104].
لقد اقتنع العروي بأنه يتوجب على العرب استيعاب مبادئ الحداثة الغربية وتمثل مكتسباتها في الفكر والعمل لكي يتمكنوا من المساهمة في إغناء وتطوير الحضارة الإنسانية. ومن هنا قوة وأهمية الدعوة الإيديولوجية التي بلورها العروي ومثلت بالنسبة إليه خطوة ضرورية في درب التحول التاريخي. فقد لحظ كمال عبد اللطيف أن أهمية المشروع الفكري لعبد الله العروي ''تأتي من البعد الراديكالي الذي يروم بلوغه بدفاعه عن ضرورة التعلم من دروس الحداثة الغربية. إنه لا يهادن وهو يدعو في نصوصه إلى التخلص من أوزار الماضي العقائدية والفكرية لمصلحة حضارة يعتقد بمكوناتها المستقبلية بناء على حسابات ومؤشرات واقعية"[106].
وقد بنى العروي دعوته الإيديولوجية على أساس تصور محدد للتاريخ الذي جعل من أوربا المركز الأقوى والمسيطر بعد أن حققت ثورتها السياسية والصناعية ووضعت أسس العلم الحديث.
خلاصات وآفاق:
1- إن عودتنا، في هذه الدراسة، إلى أعمال عبد الله العروي لم تتم بغرض الإحاطة الشاملة بعناصر مشروعه الفكري بقدر ما توخينا إعادة بناء وتركيب أهم الإشكالات التي خاض فيها من أجل لفت الانتباه إلى أطروحاته المؤسسة على المستوى النظري والتنظيري. وذلك في أفق الدعوة إلى فتح نقاش واسع حول مجمل الآراء التي قدمها هذا المفكر في دراساته وأبحاثه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن محاورة أفكار ومقترحات العروي ينبغي أن تكون بعيدة عن التناول التبجيلي، لأن خير تقدير لجهوده الفكرية، القراءة النقدية الواعية لأعماله من أجل اختبار مدى سلامة إجاباته عن الأسئلة المربكة التي تطرحها اللحظة المغربية والعربية الراهنة. فقد مثلت مؤلفات العروي، من هذه الناحية، جهدا فكريا متميزا أسهم بصورة فعالة في صياغة الملامح البارزة لنظرية الإصلاح ومشاريع التطوير والتحديث في الوطن العربي.
2- لقد توخت هذه الدراسة مساءلة المنجز الفكري الذي بلوره عبد الله العروي خلال مسار ثقافي حافل. وذلك بغرض تقديم الخطوط العريضة لمشروعه الثقافي بما يمكن من إعادة بناء أطروحته المركزية ممثلة في الكشف عن أسباب التأخر التاريخي الذي ظل سمة ملازمة لواقع المجتمعات العربية ومساعدتها على الانخراط في حركة التاريخ الكوني. ولذلك مثل سؤال الحداثة وسبل التحديث الخلفية الناظمة باجتهادات العروي التي انتظمت في صيغة تركيب منهجي رسم خلاله العروي الخطوط العريضة لمشروع فكري طموح أراد له صاحبه أن يكون بمثابة حافز على التفكير في موجبات الإصلاح السياسي والثقافي بوصفه المدخل الملائم لاستيعاب أصول الحداثة وتمثل أسس المعاصرة.
3- تميز مشروع العروي بجرأته في الدعوة إلى اجتثاث الفكر السلفي والمنزع التوفيقي من محيطنا الثقافي. وذلك ضمن خطة تروم تشخيص مفارقات الوعي العربي من خلال نقد الأطروحات الإيديولوجية العربية المعاصرة باعتبارها خطوة ضرورية لانطلاق تحديث المشروع المجتمعي الذي دعا إليه العروي وصاغ ملامحه الرئيسة انطلاقا من رؤية فكرية تأخذ بعين الاعتبار معطيات الواقع ووقائع التاريخ، حيث تظهر المعاينة الدقيقة لكتابات العروي أنه يوظف أدوات منهجية وإجرائية تعود إلى حقول معرفية متنوعة ساعدته على صياغة خطاب استدلالي متماسك حول حاضر العرب ومستقبلهم، حيث يتداخل في دراسات العروي ''البحث التاريخي'' و''التحليل السياسي الاجتماعي'' و''التوضيح الإيديولوجي''
[2] _ عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، المركز الثقافي العربي، البيضاء،ط 5_ 2006 ص: 70
[4] - نفسه، ص: 364.
[6] __"الكتاب بني كله على واقع القطيعة وقبولها كمسلمة" _ مفهوم العقل ص: 358
[8] - نفسه، ص: 163.
3 - نفسه، ص: 360.
4- نفسه، ص: 359.
5- نفسه، ص: 361
[13] _نفسه ص: 102
[15] - نفسه ص: 358.
[17] - نفسه ص: 364.
[19]- نفسه ص: 362 .
[21] - نفسه، ص: 152.
[23] - نفسه، ص: 97.
[25] - نفسه، ص: 358.
[27] - نفسه ، ص: 358.
[29] - عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 22.
[31] - عن التقليد والتخلف التاريخي، حوار العروي وعبد العزيز بلال ومحمد جسوس، مجلة لاماليف ع: 64 – 1974 نقله إلى العربية محمد بولعيش ومصطفى المسناوي، نشر في بيت الحكمة ع:1- 1986 ص: 167.
[33]- نفسه، ص: 163.
[35] - عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص: 10.
[37] - عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 62.
[39] - نفسه، ص: 66.
[41] - نفسه، ص: 67.
[43] - نفسه، ص: 20.
[45] - نفسه، ص: 102.
[47]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 17.
[49] _ عبد الله العروي، الإيديولوجية العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، البيضاء ط 2_1999 ص:39
[51] - نفسه، ص: 59.
[53] - عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط 6_ 2002 ص: 161.
[55] - نفسه، ص: 224.
[57] - نفسه، ص: 108.
[59] - نفسه، ص: 18.
[61] - عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص: 15.
[63] - نفسه، ص: 12.
[65] - العرب نفسه، ص : 207.
[67] - عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص: 202.
[69] - نفسه، ص: 208.
[71] - نفسه، ص: 207.
[73] - نفسه، ص: 68.
[75]- نفسه، ص: 61.
[77]- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 42.
[79] - نفسه، ص: 207.
[81] - نفسه، ص: 68.
[83] - نفسه، ص: 17.
[85] - نفسه، ص: 68.
[87] - نفسه، ص: 166.
[89] - نفسه، ص: 94.
[91] - نفسه، ص: 69.
[93] - نفسه، ص: 63.
[95] - نفسه، ص: 73.
[97] - نفسه، ص: 63.
[99] _ التحديث والديمقراطية، حوار العروي مع مجلة آفاق المغربية ، ع 3_4 ، 1992صص: 157
[101] - عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 260.
[103] -عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص: 22.
[105] - كمال عبد اللطيف، الفكر الفلسفي في المغرب، إفريقيا الشرق- المغرب 2003، ص:147.
[107]-التحديث والديمقراطية، حوار العروي مع مجلة آفاق المغربية ، ع 3_4 ، 1992ص: 149.
وسوم: العدد 664