علي الوردي : (58) السمة التحرشيّة كسمة أسلوبيّة
وهناك سمة أسلوبية أخرى ترتبط بالروح الساخرة التي يتميّز بها الوردي أولا ، وبـ " تمرير " الحفزات التحرّشية المسمومة " ثانيا . وهذه السمة اكتسبها الوردي من تأثراته بالإسلوب " الخلدوني " . قال الوردي :
( لعلني لا أغالي إذا قلت أن آراء ابن خلدون كانت أشد انحرافا عن شرعة الأخلاق والأديان من آراء زميله الايطالي [ يقصد مكيافيلي ] ولكن الناس لم ينتبهوا إليها . فقد امتاز ابن خلدون بإسلوبه الدبلوماسي الذي يغطّي الآراء المنحرفة بغطاء برّاق . فهو يكثر من ذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يدعم بها براهينه ، ويكثر كذلك من ذكر العبارات الدينية ينهي بها أقواله من قبيل " الله أعلم " و " هو الهادي للصواب " و " عليه التوفيق " وما أشبه ، وظنّ الناس أنه كغيره من الفقهاء والمؤرخين سائر على سنة الله ورسوله ، ولو أنهم أدركوا مقاصده الحقيقية بوضوح لربما شنّوا عليه حملة شعواء لم يعهد مكيافيلي لها مثيلا" (407) .
لقد انتقلت هذه العدوى التحرّشية الأسلوبية من ابن خلدون إلى الوردي ، فقدّم لنا طريقة باهرة في الكتابة لم يعرفها الكتاب العراقيون والعرب من قبل في ثباتها وديمومتها وفي إصراره عليها عمرا فكريا كاملا يعكس " قصديتها " العالية ، وتصميم الوردي المسبق على ترسيخها في الخطاب الثقافي العراقي . في كل صفحة من صفحات مؤلفات الوردي ، يجب أن تكون هناك جملة ، عبارة ، أو فقرة تنتهي باستغفار ديني أو استشهاد بنص قرآني أو بحديث شريف ، أو حوقلة مدروسة ، أو تعوّذ مخاتل ، وإليك هذه النماذج :
# ( اتفق لي في عام 1951أن أخرجت كتابا صغيرا بعنوان : " شخصية الفرد العراقي " قلت فيه أن الشعب العراقي ذو شخصية مزدوجة . ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد أني لقيت بعد قيام الثورة بيوم واحد شابا متحمسا كان في الماضي من أصحابي المقرّبين ، ولكني وجدته في ذلك اليوم عابسا لا يحب أن يكلمني . وقد تحقق لي أنه صار يكرهني بعد قيام الثورة مباشرة . لاحظت ذلك فيه حين أخذ يوبّخني ويسأل : " كيف يجوز أن يكون هذا الشعب العظيم مزدوج الشخصية يا ترى ؟ " . فلم أجد له جوابا إلّا أن أعتذر إليه قائلا : " إني قد أذنبت في حق هذا الشعب العظيم ، وأستغفر الله وأتوب إليه" (408) .
# ( أنظر على سبيل المثال إلى النبي العبقري ( محمد بن عبد الله ) . لقد كان هذا العبقري نادرا حكيما واقعيا بعيد النظر حين يضع الخطط أو يدير المعارك أو يسوس الناس . فإذا توجه نحو ربّه نسي نفسه وانغمر في إيمان عجيب تحسبه جنونا وما هو بجنون . يُروى عنه انه كان قبيل معركة بدر الكبرى يستشير أصحابه وأهل الخبرة منهم فيعبّيء جنده ويعد سلاحه كأي قائد بارع من قوّاد هذه الدنيا . حتى إذا دنت ساعة النضال رفع يديه نحو السماء فذهل عن نفسه وأخذ يدعو ربّه دعاءا ملتهبا يكاد يفجر الصخر الأصم . فهو في مرحلة الاستعداد غيره في مرحلة الهجوم ، وهو بذلك قد جمع بين جنبيه النقيضين . أما أتباع محمد فهم ، كما قال المعري :
أما عقلاء لا دين لهم أو متدينون لا عقل لهم ..
ولا حول ولا قوّة إلّا بالله ...) (409) .
# ( حدث منذ سنوات أن تنافس إثنان من أبناء الشيوخ على حبّ راقصة ، فأخذ كل منهما يقدم لها هدايا ثمينة بغية التفوق بها على غريمه ، وكانت الراقصة شيطانة تعرف كيف تؤكل الكتف والرقبة معا . فجعلت كلا منهما يغار من الآخر ويحاول مغالبته في السخاء والمجد السمين . وكانت العاقبة أن أفلس الولدان واستغنت الراقصة . ولا يحسبن القاريء أن إفلاس الولدين كان نهائيا . إنهما يملكان من أقنان الأرض ما يستطيعان به خلق ثروة جديدة . فإذا كان في البلد راقصات تسلب المال ، ففيه كذلك فلاحون يخلقون المال من جديد ، والله فوق أرزق الرازقين" (410) .
# ( إنه يخشى على السلطان أن تسقط حشمته وتخرق هيبته . وما دام الأمر قد صار منوطا بحفظ الهيبة والحشمة ، فإن احترام السلطان قد أصبح واجبا على كل مؤمن ومؤمنة بغض النظر عمّا يقوم به من مظالم وفضائح . ولا بأس إذ ذاك أن ينحني المؤمنون لأميرهم تبجيلا ويرتّلون في مديحه القصائد الطوال . فكل ذلك يؤدي إلى زيادة هيبة السلطان عزّ نصره . إن وعاظ السلاطين كادوا يجمعون على أن النهي عن المنكر واجب عند القدرة عليه . أما إذا أدى إلى الضرر بالمال أو البدن أو السمعة وغيرها فهو محظور منهيّ عنه . يقولون هذا في عين الوقت الذي يقولون فيه بوجوب الجهاد في سبيل الله . فهم لا يبالون أن يتضرّر المسلم في ماله وبدنه ما دام يحارب بجانب السلطان ضد أعداء الدين وأعدائه . هذا ولكن الضرر الذي يجنيه المسلم من محاربة السلطان الظالم يعتبر في نظرهم تهلكة ينهى الله عنها ، ومعنى هذا أن الدين أصبح عندهم بمثابة طاعة السلطان في سلمه وحربه ، ولا يهمهم بعد ذلك أن يكون السلطان ظالما أو عادلا . فهذا في نظرهم أمر بسيط لا أهمية له .. والله يحب المحسنين" (411) .
ومن الضروري القول إن ماقام به الوردي ليس ابتكارا بل إعادة إكتشاف يخدم استراتيجيته التي تبغي تقويض هيبة السلطة النصية المرجعية الجاثمة على صدر الجسد الثقافي في العراق ، إذ أن الأصل يعود إلى سمة أسلوبية إسلامية شاعت في المدونات الكتابية للكثير من الفقهاء وعلماء الكلام والفلاسفة المسلمين . خذ مثلا ما يقوله ابن حزم الأندلسي :
(( ... فينبغي على هذا أن لا نحكم لشيئين أصلا بحكم واحد لأجل اختلافهما في صفة ما . وكل هذا خطأ وحيرة ، ومؤد إلى التناقض والضلال . ونعوذ بالله من كل ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله )) .
وخذ واحدا من أقوال الغزالي الكثيرة في هذا المجال :
(( هيهات هيهات ، قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء ، فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان )) .
وهناك الكثير من الشواهد ، ولكن الفارق في استخدام الوردي لهذه " اللازمات " الأسلوبية يتمثل في أنه يوظّفها للتهكم أو السخرية أو للتحرّش بالنص المرجعي الأصلي .
وسوم: العدد 668