الحدث الصوفي في رواية "عمرة الدار" للكاتبة المصرية هويدا صالح

لقد أصبح الحدث الصوفي موضوع العديد من التجارب القصصية والروائية في السنوات الأخيرة، كونه يعكس رؤية فلسفية وروحانية لا تخلو من الرمزية في هذه الحياة التي يعيشها البشر على كوكب الأرض.

تحاول الكاتبة المصرية هويدا صالح في عملها الروائي الموسوم "عمرة الدار" (2007) أن تنسج خليطا بين ما هو خطاب سردي وما هو خطاب صوفي بالدرجة الأولى، لولوجها عالم الأولياء والجن والموروث الروحي الكامن في اللاوعي الذي ألبسته لجملة من الشخصيات تعيش في الصعيد المصري.

تحضر جملة من المؤشرات الكراماتية في نص هويدا صالح منذ الصفحات الأولى، أين يتحقق حلم الطفلة سلوى برؤية الشيخ علي صاحب المقعد البحري وهو يؤم أهل الخطوة في صلاة الفجر، كما نقرأ ذلك على لسان السارد: "وبعد أن نامت الجدة. تسللت من جانبها. ذهبت إلى القاعة البحرية، وبرهبة نظرت من ثقب الباب رأت أجسادا تتمايل، وأصواتا تهمس أحيانا، وتعلو أخرى والحجرة يملؤها ضوء أبيض." (ص 07).

ظلت الطفلة سلوى الفضولية تبحث لها عن أجوبة لأسئلتها التي لا تنتهي، كما هو شأن سؤالها للجدة عن لغز عمرة الدار الذي يعكس عنوان هذه الرواية، كما نقرأ ذلك في المقطع السردي الموالي: "جلست الصغيرة بجانبها، فأبعدتها بيد حانية عن مدخل الفرن، ذكرت اسم الله قبل أن تدب الرأس الحديدي في التراب المتراكم من المرة الفائتة، أبعدت التراب عن فتحة الفرن وأشعلت النيران ولم تنسى أن تقول لساكنيه: 'لموا عيالكم النار جيالكم'. سألتها الصغيرة دهشة:

- هو فيه حد بيسكن الفرن يا جدتي؟!

قالت:

- أيوه، عمرة الدار." (ص 16).

يظهر الاتجاه الصوفي جليا في شخصية الشيخ صالح الذي جمع بين علوم الشريعة وعلوم الحقيقة، فهما وجهان لعملة واحدة في نظره، وهو الذي وجد نفسه يعمل في أفندة قليلة تبقت من أملاك أسرته: "من ينظر إلى الشيخ صالح وهو يمسك بالفأس ويعلو بها في الهواء ثم ينزل بها، ليقطع بعض الأخشاب ليتدفأ بها أو يصنع منها أوتادا للبهائم، ويربط وسطه بطرف جلبابه ويعتدل من فترة لأخرى ليجفف عرقه أو يشرب بعض الماء من القلة التي يلفها بقطعة خيش يحرص على أن تظل مبللة، حتى تحافظ على برودة الماء لا يصدق أنه نفس الرجل الذي يتوسط حلقة الذكر ويعلو صوته بالإنشاد بقصائد ابن الفارض أو ابن عربي." (ص 18).

ابنه الثاني عمر تزوج ابنة شيخه أما ابنه الثالث النضر فقد تزوج هو الآخر ابنة عمه فايزة، ورغم ذلك عرفه الجميع بعلاقاته مع نساء أخريات فسلوك شخصيته يخالف المتصوف الزاهد، كما نقرأ ذلك في المثال السردي التالي: "كان النضر لا يصلي إلا الجمعة والأعياد. لا يشاركهم في الأذكار، ولا هم له إلا جلسات الأصدقاء، وشرب الحشيش والجري وراء النسوان، وأبوه يوبخه دائما حين يفيض الكيل ويتهمه بأن ذيله نجس." (ص 19).

تتخلل هذا العمل الروائي انفعالات العديد من الشخصيات الجاذبة للمتلقي، كما هو شأن شخصية الحاجة دولت التي رأت فيما يرى النائم الشيخ علي - ساكن المقعد البحري- يطفئ مصباح القاعة ويغادر المنزل، فنادته لكنه رحل وتركها فاستيقظت مرعوبة: "كان مازال يختم صلاته أخبرته بانطفاء المصباح والشيخ الغاضب الذي غادرهم. ثقل هذا على نفسها. شعر صالح بالحزن، لأنه لم يقم ختمة للقرآن منذ فترة طويلة. الظروف المالية للأسرة لم تعد تكفي، وإخوان الله يزيدون كل يوم." (ص 09).

توالت أحداث الرواية تباعا، واجتمع المريدون لإقامة حلقة الذكر احتفاء بساكن المقعد البحري، بينما دولت ونساء البيت يقومون بإعداد الطعام كما نقرأ ذلك في المقطع السردي الموالي: "كانت الحاجة واقفة هي وباقي النساء وراء الباب. رفعت يديها للسماء وعلا صوتها بالدعاء، حتى يمكن لملاك واقف يشاهد الجمع المنتشي أن يطير دعواتها إلى السماء البعيدة ويربت في نفس الوقت بيده الحانية على قلبها ويبرد ناره." (ص 10).

إن انشغال الإنسان بالحديث عن التصوف والروحانيات بلغ ذروته في هذا القرن الأخير، حيث اكتسب من الأهمية في أعين الناس مثلما اكتسبه في القرن الماضي أو أكثر، حيث تناوله الأدباء في القصة والرواية بشكل كبير، واستثمروه في كتاباتهم أيما استثمار كما هو شأن الكاتبة هويدا صالح في "عمرة الدار" التي اختزلت في هذا النص السردي العديد من الإشارات الصوفية التي تفاعل معها الشخصيات ببراعة، كما هو شأن حديثها عن منديل فاطمة التي عادت ذات يوم مفزوعة لما شاهدته حينما ذهبت لملئ جرتها: "بعد مضي أيام ثلاث استيقظوا على رؤية منديل فاطمة مفروشا على الفرن وفوقه مجموعة من الكعك المرشوش على وجهه السكر والسمسم. تحير الجميع إلا الحاجة دولت التي كانت تعد الفطار وترمقهم باسمة. قسمت عليهم الكعك فرفضوا جميعا أكله، ولم يتشجع واحد منهم إلا بعدما أمسكت بكعكة، وقرأت اسم الله عليها وقضمتها بأسنانها البيضاء التي لم تنقص ولو سنة واحدة رغم سنوات عمرها الكثيرة. وزعت عليهم قطع الكعك وجلست تحدثهم عن أهمية احترام هؤلاء السلفيين وعدم التعرض لهم فهم يعيشون بينهم ولهم خصوصياتهم." (ص 36).

إن المكان لا يعيش بدوره منعزلا عن عملية السرد، وإنما يتداخل في ذلك الفضاء الروائي الذي جاء في رحلة النضر من القرية إلى مصر أم الدنيا من خلال حادثة لقاءه بالرجل الغريب: "توسل إليه أن يخبره من هو؟ وماذا يريد منه؟ مسح الرجل بيده الوضاءة على رأسه وقلبه وأمره أن يترك اللهو والعبث. أن يرحل إلى جوار الحسين، ليكون بصحبته ويحيا في خدمته." (ص 55).

ونفس الأمر ينطبق على البشارة التي كانت من نصيب فايزة لزيارة المدينة المنورة، حيث ظهر ذلك في رؤية للشيخ صالح زاره فيها ساكن المقعد البحري وأمره بأخذ صرة لفايزة لتذهب في رحلة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما نقرأ ذلك على لسان السارد: "أفاق الشيخ صالح. وجد كيسا ملقى في حجره. تعجب وتذكر منامه. صلى على الحبيب المصطفى وفتحه وجده مملوءا بالنقود. في الصباح أخبر ابنه وقرر أن يسافر إلى النضر." (ص 76).

في الختام، حققت اللغة في رواية "عمرة الدار" خصوصية فنية وجمالية عملت على إيضاح الدلالة الصوفية، التي انعكست بامتياز على مكونات البناء الروائي، حيث نلاحظ أن العناوين الفرعية جاءت معبرة عن محتوى الرواية وأيضا انسجامها مع العنوان الرئيس -عمرة الدار- الذي لم يكن اختياره اعتباطيا من قبل المبدعة هويدا صالح، لأنه جاء بحق عنوانا بعيدا عن المباشرة والسطحية وقريبا من التشويق والإثارة والتحفيز، سيدفع المتلقي حتما لقراءة هذا العمل الأدبي أكثر من مرة واحدة.

المصدر

(1) هويدا صالح: عمرة الدار، الهيئة العامة لقصور الثقافة،2007.

*كاتب وناقد جزائري

وسوم: العدد 679