النثر العربي في عصر الدول المتتابعة 7
الفصـل السـادس
فن التراجم في عصر الدول المتتابعة
اختلف الدارسون في دلالة مصطلحي الترجمة والسيرة، فقد أطلق كل منهما على ما يعينه الآخر، فهناك تراجم الأعيان للحسن البوريني([1]) وسير أعلام النبلاء للذهبي، وهما متشابهان في الحديث عن الشخصيات.
ولو عدنا إلى المعاجم لرأينا أن:
رجم بمعنى فسر، ولسام مِرْجم: إذا كان قوّالاً، والرَّجْم: الظن بالغيب، وصار الكلام مُرَجّماً: لا يوقف على حقيقة أمره، وارتجمت الإبل وتراجمت إذا مرت تضطرم في عدوها، وارتجم الشيء: ركب بعضه بعضاً([2]) .
أما السيرة فهي امتداد السير بالناس في جهته توجهوا لها، وهي السُّنّة أيضاً والطريقة، ويقال: إنه لحسن السيرة، وسار الشيء وسِرْتُه فعَمَّ، وسيّر سيرة : حدّث أحاديث الأوائل([3]).
وأرى بناء على هاتين الدلالتين المعجميتين أن الترجمة هي أقوال سريعة في كتب تحكي عن أناس أحاديث لا يوقف على حقيقتها، إذ يخفى الكثير من أحوالهم وقد تخفى لإيجاز الحديث. وهي أحاديث تترى كما في كتب التراجم إذ تتّابع فيها أحوال المترجم له وحوادث دهره، كما تتابع التراجم واحدة تلو الأخرى حتى لتبلغ الآلاف.
أما السيرة فهي أوسع في الدلالة على حياة الأوائل لأن في المعنى امتداد وعموم وشمول للحياة يفهم من قولهم إنها السُّنَّة والطريقة، فهي نهج متبع في الحياة، ولهذا أطلق اسم السيرة النبوية على ما يتحدث عن حياة الرسول r ومواقفه فيها، وأطلق اسم السيرة الذاتية لطه حسين على كتابه الأيام الذي يفصل فيه الحديث عن حياته، واسم سيرة الرافعي لمحمد سعيد العريان على كتاب حياة الرافعي له لأنه يتوسع في الحديث عنها ويشمل جزئيات حياته.
ولكن يطلق اسم السيرة الذاتية على وريقات يقدمها من يبغي عملاً ما يذكر فيها اسمه وهويته وشهاداته وخبراته، وعنوانه بإيجاز شديد، دون أن يتطرق المتقدم بها إلى نماذج من الأدب والفن.
وقد آثرت أن أتحدث عن هذا اللون تحت اسم التراجم وهو الاسم الذي شاع في عصر الدول المتتابعة علَماً لهذا الفن النثري .
أولاً – أهمية فن التراجم :
اهتم أدباء عصر الدول بفن التراجم متَّبعين خطا أجدادهم الذين أغنوا المكتبة العربية بثروة لم تحظ بها أمة من الأمم السابقة، وقد سطروا تراجمهم غالباً متحدثين عن علماء وأعيان كل قرن على حده. فهناك الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة للعسقلاني، والضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي ،وأعيان العصر وأعوان النصر للصفدي الكواكب السائرة في أعيان المئة العاشرة لنجم الدين الغزي، وخلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر لمحمد أمين بن فضل الله المحبي، وسلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر لمحمد خليل المرادي، وحلية البشر في أعيان القرن الثالث عشر لعبد الرزاق البيطار، وهكذا .
كما وجدت تراجم للبلدان مثل العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، وهو في التراجم، وتراجم للملل والنحل مثل أعيان الشيعة، ولحقبة من الزمن مثل البدر الطالع لمحاسن مَنْ بعد القرن السابع للشوكاني، ولعصور متعددة سمط النجوم العوالي في أخبار الأوائل والتوالي لعبد الملك العصامي .
وقد بين المرادي في مقدمة سلك الدرر أهمية علم التراجم، وكان يطلق عليه أحياناً (علم التاريخ) لأن الأول جزء منه، قال:
"إني لم أزل شغفاً بمطالعة أخبار الأخيار، مولعاً بجمع آثار الفضلاء من نظام ونثار … مكباً على الكتب التاريخية، منهمكاً في جمع الدواوين الإخبارية، تدعوني إلى ذلك غيرة الفضل …. فكنت أصرف في عكاظ المطارحات ذلك نقد عمري، … علماً بأن علم التاريخ والأخبار، ونقل المناقب وحفظ الآثار أمر مهم عظيم … طالما صرف فيه المحدثون أوقاتهم … وضربوا فيه آباط الإبل للبلاد النائية… وقد ألف فيه الكبار من العلماء المؤلفات العديمة المثال لأن العمدة في نقل أصول الدين على الجرح والتعديل"([4]) .
ثم بين أن الله سبحانه ذكر في كتابه الكريم قصص الأنبياء والرسل والسادة الأتقياء، كما ذكر الرسول r ذلك بقوله (أنزلوا الناس منازلهم) ، وقوله: (في كل قرن من أمتي سابقون) رواه الترمذي في جامعه المصون، وقوله r (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) ، رواه الحافظ القاسم الطبراني في معجمه الكبير وكان r كثيراً ما يحدث أصحابه بقصص وأخبار عمن مضى … وكذلك فعل السلف والخلف، فأبو حيان التوحيدي في وصيته لأولاده يقول : (وعليكم بمطالعة التواريخ فإنها تلقح عقلاً جديداً) .
ولهذا جمع المرادي تاريخه أو كتاب تراجمه الذي عرف فيه بالشخصيات ووصفها .
ويقول المحبي عن مؤلفي كتب التراجم (هم شهود الله تعالى في أرضه فمن نشر أخبار الفضلاء دل على سعادته في الدنيا والآخرة([5]) .
ويبين أبو الوفاء العرضي أهمية التاريخ في تقديم العبر والقدوة الحسنة وأنه يذكر الكرام فيدعو قارئه لهم ويكرم ذريتهم، وفيه ترويح عن النفس ، يقول في مقدمة كتابه معادن الذهب: "ففيه من موائد الفوائد ما يشتهي الخبير الناقد منها التأسي بمآثرهم واقتباس أنوار مفاخرهم، واستفادة مالهم من منثور ومنظوم، والاستضاءة في حنادس الغوامض بأنوار هاتيك العلوم، ومنها معرفة طبقاتهم في الفضائل ومعاملة ذراريهم بالإحسان والاحترام والإحاطة بمعرفة الدخيل في المجد عن آباء كرام ومنها الترويح عن النفس والاتعاظ بتجارب أناس عاشرهم أصحاب التراجم وجالسوهم([6]).
ويرى الصفدي أن قراءة كتب التراجم تجعل المرء يطلع على حياة أبناء العصر ، وتكسب خبرة في الحياة يصير بها المرء قادراً على دفع كيد الكائدين ، كما يتأسى في أحزانه بأحزان السابقين([7]).
وكتب التراجم مصدر ثر للمعلومات التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فكتاب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين لمحمد الفاسي (ت 832هـ) يحدثنا عما يتعلق بمكة المكرمة، وحكامها وقضائها، وما جرى فيها من فتن وحروب وذلك كله من خلال الترجمات لأناس عاشوا بين القرن الثالث للهجرة حتى القرن التاسع([8]). وكتاب حلية البشر لعبد الرزاق البيطار يعرفنا على أوضاع العالم العربي في هذا القرن "التاسع عشر الميلادي" وعلى العلاقات بينه وبين الدول الغربية، والثورات التي كانت ضد الدولة العثمانية، وذلك كله من خلال تراجم الشخصيات كترجمة الأمير عبد القادر الجزائري، والشاعر أمين الجندي ، كما يحدثنا على الأوضاع الثقافية والنشاط العلمي والتأليفي، ويطلعنا على نماذج جديدة من الشعر والنثر ففي كتاب خلاصة الأثر معلومات عن تأثر العروض العربي بالعروض الفارسي وردت خلال ترجمة بهاء الدين العاملي ، وذكر لعادات وتقاليد وملل ونِحل وفرق دينية شتى([9]).
كما تعرفنا كتب التراجم على الأحوال الاقتصادية للبلاد، وجهود السلاطين والولاة في تحسين هذه الأوضاع كفتح الطرق وحفر الآبار، وكثرة الأوقاف وتعدد ألوانها… إضافة إلى أنها مصدر لغوي وجغرافي هامين فهي تضبط أسماء الأعلام وتحدد أماكن البلدان ([10]).
كما تذكر مصطلحات عربية وأجنبية شاعت في ذلك العصر مثل الجاشنكير وخاقان وباشا…
وهي أيضاً تضبط الأوقات فتساعد في توثيق المعلومات، وكشف الافتراءات، وقد رُدَّت أقوال يهودي ادعى أن الرسول r أعطى لليهود وثيقة اعتماداً على معلومات كتب التراجم، حتى قيل "لولا التاريخ لقال من شاء ما شاء"([11]).
كما أن كتب التراجم حفظت لنا كثيراً من الشعر والنثر تناثراً خلال عرض ترجمات قائليها حتى إن بعض المؤلفين استخرج كتباً منها كما فعل د.عدنان درويش في كتابه صفي الدين الحلي إذ استبطه من "أعيان العصر" للصفدي، كما أني استخرجت مادة كتابي "فتح الله بن عبد الله النحاس" من كتب التراجم، وقد فاقت مادتها ما ذكر في ديوانه الذي حققه د.محمد العيد الخطراوي([12]).
وتعرفنا كتب التراجم أيضاً على مؤلفات كثيرة لمن ترجم، لهم ولعل بعضها صار في طي النسيان، ذلك لأن كتاب التراجم اعتمدوا في توثيق معلوماتهم على معاشرتهم لأصحابها وعلى كتب التواريخ والرحلات وعلى مصادر كثيرة حتى بلغت مصادر سمط النجوم العوالي ستة ومئة كتاب كما نقلوا ما شاهدوه وما سمعوه من أفواه من عاصر الأحداث أو الأشخاص، ولذلك تعد أقوالهم بنت المشاهدة، بل المصدر الوحيد لبعض الوقائع أحياناً، فكتاب منائح الكرم يعد مصدراً رئيساً لمن أراد أن يتحدث عن مكة المكرمة حتى (1125هـ) عصر المؤلف لأنه كان قد عايش الأحداث فحفظها من الضياع، وكذلك كان العقد الثمين مصدراً لحوادث أواخر القرن الثامن وأوائل التاسع، وقد اهتم المحبي في خلاصة الأثر بالترجمة لمعاصريه وعلل ذلك أن القدامى وجدوا من يسطر لهم، أما معاصروه فسيخبو ذكرهم إن لم يُعْنَ بهم أحد ([13]).
وكان بعض كتاب التراجم يركز على فئة أو طبقة فأبو الوفاء العرضي أكثر من ترجمة المتصوفة في عصره، وترجم أحمد العسقلاني في الدرر الكامنة في أخبار المئة الثامنة للملوك والأمراء والعلماء والكتاب والشعراء ورواة الحديث الشريف وذكر بعضه مروياتهم وكان معظم تراجمه من شيوخه أو شيوخهم في القرن المذكور([14]).
وكان بعضهم يكاتب من يترجم له ولاسيما إن كان في مناطق بعيدة، أويتخذ من الحج وسيلة للاتصال بأبناء البلدان البعيدة ليعرف من أخبارهم([15])، وقد ترجم بعضهم للمشارقة والهنود والمغاربة حتى أهل الذمة([16]).
واعتمد الفاسي في العقد الثمين على ما سجل على الحجر والرخام والخشب([17]).
ثانياً – مناهج كُتّاب التراجم :
وتبدو في
1- طرق توثيق للمعلومات : إذ تبين مدى ما التزمه هؤلاء المؤلفون من صدق وأمانة وإنصاف في نقل الأخبار.
فالمحبي مثلاً ذكر أنه لم ينقل إلا ما سمعه أو ما تأكد من صحته، وقد أسند الرواية إلى من رواها([18])، وكثيراً ما يلقانا عند أبي الوفاء العرضي قوله (أخبرني)، أو (رأيت فيما ألفه) فلان أو ينقل عن والده([19])، وكان بعضهم يذكر مكان ولادته ووفاته زيادة في الدقة، فإن لم يتحقق من ذلك أهمله كما قال الصفدي (ولم أُخِلَّ بذكر وفاة إلا فيما ندر وشذّ لأني لم أتحقق وفاته)([20]).
وترجم الشوكاني لأعيان الأعيان وأكابر أبناء الزمان، ولكنه ضم إليهم أيضاً من أخذ عنهم أو رافقهم أو كاتبهم ممن لم يكن بمنزلة هؤلاء الأعيان لأنه كان يحب أبناء عصره ومصره([21]).
وسأل السخاوي ربه تعالى أن يجنبه التعسف في الأحكام، وأشاد بضرورة الإنصاف، وذكر الصفدي أنه لم ينقل إلا الحسن ليكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه([22]).
ورمز بعض الكتاب لشخصياتهم، فالفاسي استخدم الرمز (خ) للبخاري و (م) لمسلم و (د) لأبي داود، وأطلق السخاوي كلمة (شيخنا) على ابن حجر أستاذه، واستخدم الاسم الأول للمضاف إلى الدين مثل الرضي لرضي الدين مثلا([23]).
2- ترتيب التراجم:
رتب معظم كتاب التراجم أسماء مترجَميهم على حروف المعجم ليسهل على المطلع البحث عنهم كما فعل المرادي في سلك الدرر([24])، واهتم بعضهم بالحرف الأول دون الثاني والثالث كما فعل أبو الوفاء العرضي في معادن الذهب، وكان يذكر المترجَم له بالاسم الذي يعرف به، فإنه شهر باسمه بدأ به، وإن عرف باللقب أو بالكنية ذكره بما عرف به([25]).
واهتم السخاوي في ترتيب أسمائه باسم الشخص واسم أبيه ونسبه وجدوده مبتدئاً بالأسماء، ثم بالكُنى ثم بالأنساب والألقاب، وكذا المبهمات بعد الأبناء، مراعياً في الترتيب حروف الكلمة المقصورة بحيث بدأ في الألف مثلاً بالهمزة الممدودة ثم بالهمزة التي بعدها باء وألف وهكذا، ثم أتبعه بذكر النساء على هذا الترتيب([26]).
والملاحظ هنا أن السخاوي فصل تراجم النساء عن الرجال.
ورتب المحبي في خلاصة الأثر بادئاً بالألف وقدم من شارك المترجم له في اسم أبيه، فإن تعددت الأسماء قدم الأسبق وفاة، وراعى الحرف الثاني، في أسماء الأعلام وآبائهم، فإن أنهى من عرف اسم أبيه ذكر من لم يعرف مراعياً سبق الوفاة، مكتفياً بذكر الكنية أو اللقب على ما اشتهر به، فإن لم يعرف اسمه ذكر اللقب أو الكنية حسب ما شهر به، وكان يبدأ بالاسم ثم باللقب ثم بالكنية، وينسبه إلى بلده وإلى أصله ومذهبه الفقهي([27]).
وبدأ الوافي بالوفيات للصفدي بالرسول r تعظيماً له([28])، ثم سرد من جاء بعده من المحمدين إلى عصر الشاعر وأبناء زمانه، ثم ذكر الباقين من الألف إلى الياء على توالي الحروف، واهتم بذكر الوفيات، وتحدث عن المشهورين من الكُتّاب والشعراء والنحاة وأصحاب الملل والنِّحَل والبدع والآراء.
وقدم الفاسي في العقد الثمين أيضاً المحمدين والأحمدين لشرف هذين الاسمين([29]) ثم ذكر تراجم الرجال الذين أسماؤهم معروفة، ثم من عرف بكنيته ولم يعرف له اسم، أو عرف اسمه ولكنه اختلف فيه، وذكر معهم أناساً عرفوا بكُناهم وأسماؤهم معروفة مع أنه كان قد ترجم لهم من قبل، وذلك تسهيلاً للبحث عنهم، وقد يزيد في المرة الثانية خبراً له فائدة. ثم ذكر من شهر بلقبه مضافاً إلى الدين مثل محب الدين، ثم من شهر بنسبه إلى أبيه وجده مثل ابن جريج، ثم من شهر بنسبه إلى قبيلة أو بلد أو لقب مفرد مثل الإخشيد، وهؤلاء جميعاً ذكرهم عند أسمائهم ثم ذكر من شهر بالنسبة إلى أبيه أو جده ولم يعرف اسمه، أو شهر بصفة مثل شاعر، ثم أتبع ذلك تراجم النساء المعروفات بأسمائهن، ثم بكناهن، وذكر معهن من شهرت بكنيتها وإن عرف اسمها ليسهل الكشف عنها، ثم من عرفت بأبيها، كما ترجم لمن حالف أهالي مكة خلافاً لمن كان قبله ممن ذكر أسماء الأعلام في بلدانهم الأصلية فحسب.
ورتب محمد السنجاري تراجمه في كتابه منائح الكرم على الحوليات ووفق الموضوع أحياناً([30]) فشابه بذلك كتب التأريخ .
أما عبد الملك العصامي في سمط النجوم العوالي فقد رتب أبوابه على مقاصد وكان المقصد الأول لنسب الرسول r وأحواله، ثم للخلفاء الأربعة، وضم إليهم الحسن بن علي رضي الله عنهما، ثم تحدث عن تراجم الدولة الأموية فالعباسية فالعبيدية (الفاطمية ) فالأيوبية الكردية، والتركمانية والشراكة، ثم الدولة العثمانية حتى عهد السلطان مراد الثالث، ثم ذكر الأشراف منذ علي بن أبي طالب إلى أشراف الحجاز ومن ولي منهم، وبذلك يكون ترتيبه تاريخياً لا معجمياً.
وكان ترتيب الجبرتي في عجائب الآثار في التراجم والأخبار على السنوات، إذ كان يذكر حوادث كل سنة ثم يترجم لمن مات فيها مُرتِّباً لهم على حسب سنوات وفياتهم فمثلاً ذكر الملوك التركية ثم ترجم للظاهر بيبرس ثم لمن تسلطن بعده حسب سنوات وفياتهم([31]).
3- كيفية الترجمة :
اختصر الصفدي في الوافي بالوفيات لأنه يرى الإطالة تخل ولا فائدة من فضول الكلام([32]) وغالباً ما كان المترجِم يتبع في عرض سيرة صاحبه النهج التاريخي، فيذكر اسمه ولقبه وكنيته ونسبه، ثم يصفه بأوصاف تليق به وبمكانته، ثم يتحدث عن حياته متبعاً التسلسل الزمني فيبين ولادته إن عرفها ونشأته وتعلمه وشيوخه ومَنْ أخذ عنه، ومؤلفاته، وأبرز الحوادث التي مرت عليه في حياته، وينقل نماذج من شعره ونثره إن كان أديباً وقد يقارن بين معانيه ومعاني آخرين، و يذكر فتوحاته إن كان سلطاناً أو قائداً، أو مناصبه الدينية إن كان قاضياً … وينهي بالحديث عن وفاته.
وقد يستطرد المترجِم فيذكر نادرة غريبة تتعلق بالموضوع لينتقل من الجد إلى الهزل وأحيانا وقد يهتم بعرض نفسية من يترجم له فيذكر مزاجه وخلقه.
وتطول التراجم حتى تتجاوز صفحاتها أصابع اليدين، أو تقصر حتى تكون بضعة أسطر وغالباً ما تطول تراجم الشعراء والكتاب والسلاطين والقادة لإيراد نماذج من آدابهم، أو سيرهم أوالحروب والثورات التي كانت في عهودهم، وبصورة عامة قصرت تراجم الضوء اللامع، وطالت تراجم حلية البشر.
ومما يلاحظ أن بعض أدباء العصر ترجموا لأنفسهم فذكروا ولادتهم وتسميتهم ونشأتهم وكثر هذا في الرحلات التي خلفوها، ومن هؤلاء عبد الله السويدي في رحلته النفحة المسكية، إذ ذكر رغبته في السفر إلى الحج وتذكر الموت والدار الفانية ثم خطر له أن يترجم لنفسه ليبقي سيرته بعد وفاته، وذكر أن اسمه كان مرتضى باسم عم له لم يعش، وكانت أمه تتشاءم من هذه التسمية، فلما مرض وهو طفل صغير شبه بطفل جار له اسمه عبد الله لشدة نحوله، فغلب عليه هذا الاسم ولزمه.
ثم بين تكنيه بأبي البركات وبالبغدادي وبالسويدي، ثم تحدث عن والده وفضله وعن نسبه (الدوري)، وعن تربية أمه له، واختلافه معها في الرأي ذلك لأنه كان شغوفاً بالعلم، وكانت تريد له أن يعمل لينفق على الأسرة بعد وفاة والده، وقد قال في أمه (وكانت والدتي رحمها الله بلهاء، وكان نساء المحلة يضحكن عليها يقلن لها: (أيش ينفعك العلم) وأنت امرأة أرملة، وابنك الكبير لا يساعدك في شيء . فكانت رحمها الله تقول يا ولدي نحن فقراء وأنتم أيتام هب أن علمك يطعمك فمن يكسوك؟ وأنا لا أصغي لها حتى ألحت علي في ذلك وقطعت كسوتها عني كل هذا نشأ من بلهها وإغراء نساء الجيران إياها، وإلا فهي في حد ذاتها مباركة – رحمة الله عليها -، فبقيت أيام الطلب في غاية الاحتياج، بحيث إني لا أجد ما أشتري به شمعاً أو شيرجاً لمطالعة دروسي، وكنت أطالع على ضوء القمر، وعلى سُرُج السوق أيام مبيتي في المدرسة المرجانية، وبقيت مدة مديدة ما أكلت لحماً لأني وقت العصر آخذ من بيتي رغيفاً من الخبز، وأذهب إلى المرجانية إلى ثاني يوم أفعل مثل الأول، وكان العشاء عادة يؤكل بعد المغرب … وكان في هذا الرغيف بركة كثيرة، فكنت أنا والشيخ حسين الراوي والشيخ محمد العاني، والشيخ أحمد الألوسي نأكل منه وتبقى منه لقيمات وكنت إذا لبست الثوب لا أخلعه حتى يتمزق لعدم الصابون، وكان يطول شعري كثيراً فلا أجد ما أحلقه به، وكنت إذا نمت أيام الشتاء أنام بلا غطاء خشية أن أستغرق في النوم فتفوتني المطالعة … وكنت مع هذه المشاق أجد للطلب لذة عظيمة([33]).
وهنا نرى الفرق بين من يترجَم عنه ومن يترجِم لنفسه فيذكر دقائق من حياته ونفسيته، قد لا يطلع عليها الآخرون، والفرق بينهما كالفرق بين الجسد والروح ، ودقائق الحياة وتصوير النفسيات والمعاناة تترك أثرها في النفس فتكون عبرة لأولي الألباب.
وهذا نموذج لترجمة المرادي للسيد عبد الرحمن الكيلاني في كتابه (سلك الدرر):
" السيد عبد الرحمن بن عبد القادر بن إبراهيم بن شرف الدين بن أحمد بن علي الكيلاني الحنفي الحموي القادري نزيل دمشق وأحد صدورها الأعلام، السيد الشريف العالم الفاضل المدقق المحقق الأديب الماهر النبيه المتفوق الناظم النثر البارع.
" ولد بحماة في سنة ثلاثين ومئة وألف، وقدم دمشق مع والده كما أسلفنا ذلك في ترجمته، وقرأ على بعض الشيوخ كالشيخ أحمد المنيني والشيخ محمد الكردي… وحصل الفضل والأدب، وسافر إلى قسطنطينية، وعاد بنقابة دمشق وتولاها غير مرة مع رتبة السليمانية المتعارفة بين الموالي، ولما كان نقيباً قامت عليه رعاع الأشراف وهجموا على دارهم الكائنة بالقرب من باب القلعة وأرادوا إيقاع الضرر وتحريك الفتنة، وكان ذلك بإغراء بعض الأعيان، ثم عزل في أثناء ذلك واستقام بداره منزوياً، وتراكمت عليه الأمراض والعلل إلى أن مات ولم تطل مدته.
"وكان جسوراً مقدماً مهاباً متكلماً ندباً محتشماً مع فضل تام وأدب وافر. وأقرأ في داره بعض العلوم ودرس، وبالجملة فهو أفضل من والده وإخوته وكان بينه وبين والدي محبة وتودد ،وبينهما المطارحات الأدبية والنوادر العلمية، وامتدح الوالد ببعض القصائد.
وترجمه الأديب الشيخ سعيد السمان في كتابه وقال في وصفه (أديب مستوثق عرى النبوة، ومستنشق عرف الأبوة، انتقي من جوهر الأدب انتقاء ... ، وعرف وجه اعتنائه، فصقلت مرآة أفكاره كما صقل النسيم صفحة النهر في أبكاره. انتهى مقاله.
ومن شعره قوله من قصيدة امتدح بها جده الأستاذ سيدنا الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه [وذكر القصيدة].
وقال مشطراً أبيات الطغرائي [وذكر القصيدة].
وقال مشطراً [وذكر قصيدة ثالثة].
وله [وذكر قصيدة رابعة]
وله راداً على بيتي القسطلاني …
وبيتا القسطلاني هما قوله…
وللمترجم …. [وذكر شعراً له]
وقال في خِيْلان بوجه شنيع [وخيلان جمع خال: الشامة كما شرحها الناسخ] …
ومن نثره ما قاله وهو في الروم …
وهذا نص المعارضة …
وللأديب عبد الله الطرابلسي من هذا القبيل ..
وللمترجم مادحاً أسعد باشا بن العظم والي دمشق الشام وأمير الحاج مؤرخاً قدوم مولود له وذاكراً واقعته مع الجند بقوله…
وله مشطراً أبيات ابن يزيد الزبيدي ….
وكتب إلى والدي حين كان هو بالروم قوله [رسالة نثرية مزج فيها الشعر بالنثر] ….
وله من قصيدة مطلعها …
وله غير ذلك من النظم والنثر
وكانت وفاته في دمشق سنة اثنتين وسبعين ومئة وألف ودفن بتربة الباب الصغير رحمه الله تعالى([34]) " .
فالمرادي ترجم له في حوالي تسع صفحات فذكر اسمه ونسبه، وأثنى عليه، ثم ذكر ولادته في بلدته ومقدمه إلى دمشق وأساتذته ورحلاته ومهنته وعزله وطريقة وفاته.
ثم أثنى عليه وذكر صلته به فهو صديق والده وبينهما مطارحات أدبية، كما نقل ممن ترجم له وهو سعيد السمان مقطعاً يشيد به ثم نقل له من شعره ونثره، وقارن شعره بما شابهه.
وكان يذكر ما له علاقة بالعروض كالتشطير.
ثم ذكر سنة وفاته ودفنه.
وهذا ما كان يفعله معظم كتاب عصر الدول المتتابعة في تراجمهم.
ثالثاً – أسلوب التراجم :
الترجمة تأليف، وهي في مجملها تقريظ وثناء، أو ثلب وهجاء، ومن هنا كان لها من الأدب نصيب، ومن العلم نصيب، فكتابها يتأنقون في الثناء على من يعجبون به، وفي هجاء من سخطوا عليه، إلا أنهم يعمدون إلى الأسلوب المرسل ولاسيما في سرد حادثة ما جرت لهم أو كانت تتعلق بهم:
1- فمن النوع المتأنق حديث أبي الوفاء العرضي عن أحمد باشا الأكمكجي، إذ يقول فيه:
"تحلت بمجده أجياد الصدارة، واتشحت بمحامده أجناد الوزارة، تعشّق الدولة طفلاً فهطلت عليه من مُزْنِها طلاً فوَبْلاً، ومدت له الدولة ظلاً فاستيسر لُجَّتها واستظهر حجتها، وعلق بأردانها، واعتصم بعَنانها، واستخلص دَرها، وجرّ على مجرتها ذيلاً، واستباح ساحتها حين جرد عليها رجلاً وخيلاً، ثم اختلعها منه قهراً مَن لبس فيه جلد النَّمِر وفاجأته بنقمته مفاجأة السيل المنهمر، ولفظَه في مهاوي شماتة الحسود، وقرّ به عين العدو وأهبطه إلى الحضيض بعدما كان في مراقي السعود"([35]).
فالكاتب هنا يجوّد أسلوبه ويكثر من السجع والتصوير حتى إن كل عبارة حوت صورة فنية جزئية على نحو تحلت بمجده أجياد الصدارة (استعارة)، هطلت عليه من مزنها طلاً فوبلاً (كناية عن خيراتها)، اختلعها منه قهراً من لبس فيه جلد النمر (كناية عن العداوة)، فاجأته مفاجأة السيل المنهمر (تشبيه)….
ويبدو الجمال التصويري والتعبيري أيضاً في هذه المفارقة بين وضعه حين ارتقى في سلم المجد، وحاله حينما هوى إلى الحضيض، فالصور تكاثفت والأسلوب تأنق والعبارات أحكمت وسلسلت.
وقد استنكر محمد الشوكاني اهتمام كتاب التراجم بالصنعة والتزويق أكثر من اهتمامهم برواية الأخبار، حتى إن بعضهم أهمل ولادة المترجم له ووفاته ثم قال: "ومثل ذلك لا يعد من التاريخ، فإن مطمح نظر مؤلفِّه وقصارى مقصوده هو مراعاة الألفاظ، وإبراز النكات البديعة، وهذا علم آخر غير علم التاريخ، إنما يرغب إليه من أراد أن يتدرب في البلاغة، ويتخرج في فن الإنشاء"([36]).
2- لكن الحق يقال أن هذا التصنع والتحبير سرعان ما كان المترجم يدعه ليرسل كلماته عفو الخاطر، وبما يتناسب مع رواية الأخبار، ففي ترجمة الصفدي لسيف الدين تنكر نراه يسرد علينا شؤون حياته بأسلوب طيع لا تكلف فيه، مع أنه كان أحد عمدة ديوان الإنشاء، يقول: (وكان إذا جلس في الخدمة يقعد ويرفع يديه ويدعو سراً بما يحب، ويمسح وجهه، ثم بعد ذلك يفتح الدواة، ويأخذ القلم ويضعه على ظفر إبهامه اليسار، ويفتح شقته، ويقبل على كاتب السر، ويقرأ القصص عليه، وإذا أراد فراغ الخدمة طبّق الدواة، فيقول الحاجب (بسم الله استريحوا) … وكان يعظم أهل العلم، وإذا كانوا عنده، واجتمع بهم لا يسند ظهره إلى الحائط، بل ينفتل ويُقبِل بوجهه، ويوادّهم، ويؤنسهم…. فالله يكرمه في جواره، ويجيره في يوم الموقف من دار بواره، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى"([37]).
فالأسلوب هنا جاء ينساب انسياب الماء النمير، بلا تكلف ولا تصنع ولا سجع متكلف، وكذلك المحبي في ترجمة أحمد بن الملا الحصكفي إذ يقول فيه: "نشأ في كنف أبيه، وقرأ على جماعة من العلماء، وأكثر اشتغاله على الرضي بن الحنبلي صاحب تاريخ حلب،…. رحل في سنة ثمان وخمسين إلى قسطنطينية صحبة والده، فأخذ رسالة الإسطرلاب من نزيلها غرس الدين الحلبي …. ورجع إلى حلب فولي تدريس البلاطية التي أنشأها الحاج بلاط دويدار الحاج إينال كافلها" ([38])
وأستطيع أن أقول بعد هذا العرض أن كثيرا من أساليب التراجم لا تنميق فيها ولا تحبير وإنما كان المقال مما يناسب المقام، والمقام الإخباري لا يدعو إلى التصوير والتزويق وإنما يحتاج إل عبارات تاريخية وعلمية لاعواطف فيها ولا تنغيم ولا تصوير .
([1]) الحسن بن محمد البوريني (963-1024هـ) شاعر وعالم من دمشق له مؤلفات كثيرة : تراجم الأعيان 1/15
([2]) لسان العرب مادة رجم
([3]) لسان العرب مادة سير
([4]) سلك الدرر 1/3 .
([5]) خلاصة الأثر 1/5 .
([6]) معادن الذهب /35 .
([7]) الوافي بالوفيات /4 .
([8]) مقدمة العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين.
([9]) ينظر نفحة الريحانة 2/82
([10]) ينظر لذلك مثلا حديث المؤلف عن مزار أتَتْبا ومعناها في التركية الذروة الوسطى ، وهي خارج باب النصر في مدينة حلب : معادن الذهب /43 .
([11]) سمط النجوم العوالي 1/57 .
([12]) فتح الله بن عبد الله النحاس /34
([13]) مقدمة خلاصة الأثر 1/4 .
([14]) الدرر الكامنة ص9 .
([15]) خلاصة الأثر 1/3 .
([16]) الضوء اللامع /5 .
([17]) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين: المقدمة .
([18]) خلاصة 1/4 .
([19]) معادن الذهب 48 و 49 و 54 .
([20]) مقدمة أعيان العصر .
([21]) البدر الطالع /24 .
([22]) الوافي بالوفيات /9 .
([23]) سلك الدرر 1/3 .
([24]) الضوء اللامع 5 و 6 .
([25]) معادن الذهب /41 .
([26]) الضوء اللامع /5 .
([27]) الوافي بالوفيات /7 .
([28]) خلاصة / المقدمة .
([29]) العقد الثمين /174 .
([30]) منائح الكرم – المقدمة .
([31]) عجائب الآثار ص27-31 .
([32]) الوافي بالوفيات 1/9 .
([33]) النفحة المسكية 69-71 .
([34]) سلك الدرر 2/294-302 .
([35]) معادن الذهب /197 .
([36]) البدر الطالع /24-25 .
([37]) أعيان العصر 2/134-135 .
([38]) خلاصة 1/227 .
وسوم: العدد 679