العربيّةُ الفُصْحَى
العربيَّةُ الفُصْحَى تَعْني لِلْمسلم قرآنَهُ ودينَه، ولِلْعرَبيِّ -مسلِماً أو غيرَ مسلِم- هويّتَه وتُراثَهُ وحريّتَهُ وكرامتَهُ وحاضِرَهُ ومستقبلَهُ الأصيلَ الوَطيد
ما مِنْ جهَةٍ عادَتِ الإسلامَ وحاربتْهُ في الماضي إلاّ عادَتِ العربيّةَ الفُصْحَى، وحاربتْها في مجالاتِ التّعليمِ والثّقافةِ والحَياةِ الاجتماعيّة، وناصَرَتِ العاميّةَ ودَعَتْ إليها، وإلى إحْلالِها مَحَلَّ العربيّةِ الفُصْحَى، أو إلى الكتابةِ بالحُروفِ اللاتينيّة، لِتنقطِعَ الصِّلَةُ بذلك بينَ العرب والمسلمين وبينَ أصولِهم الروحيّة والحَضاريّة، ويفقِدوا الهويّة والشخصيّة، ويُصْبحوا فريسَةً سَهْلة للغزوِ التبشيريِّ والحضاريِّ والاسْتِعْمارِيّ
وما مِنْ جهَة اسْتِعْماريّة جائِرَة طامِعَة أرادَت الهيمنَة على العرب والمسلمين إلاّ حاربَتِ العربيّة الفصحى، وسَعَتْ لِتُحِلّ مَحَلّها لغتَها، أو اللهَجات العاميّة المحليّة، لتنحلَّ بذلك الرابطة اللغويّة بينَ أجزاءِ العالم العربي والإسلامي، فَيُقْضَى على وَحْدَتِه، ويَتَفَكَّكُ بعضُه عَنْ بَعْض، وتَسْهُلُ الهَيْمَنَة عليه، وتضعُف قُدْرَتُه على المقاومَة والتحَرُّر
ولقد رأينا ذلكَ واضِحاً كُلَّ الوضوح في القرنِ التاسعِ عشر الميلادي والقرنِ العشرين، ونراهُ الآن أوضَحَ ما يكون وأقوَى ما يكون في مطلَع هذا القرن الجديد: القرن الواحِد والعشرين
فاللغة العربية الفصحى في زَعْمِ أعدائِها الداخليّين والخارجيّين قد انقطعَتْ عن رَكْبِ الحياة، ولم تَعُدْ قادِرَة على أنْ تَصِلَ العربَ والمسلمين بالعِلْم والتكنولوجيا في أيِّ مَيْدانٍ مِنَ الميادين؛ بل لم تَعُد قادِرة على أن تصلَهم بالفكر والأدب والثقافة العالمية؛ بل لم تَعُد صالِحَة للتعبير بها عن أنفسِهم، في أفكارِهم ومشاعرِهم، وفي مختلف شؤون حَياتِهم..
وارتفعت أصوات بالدعوة إلى تعليم كافة العلوم في الجامعات بلغات أجْنبية، وبعضُها يُعَلَّم بالفعل بالإنجليزية أو الفرنسية
وأُنْشِئَتْ في عدد مِنَ البلاد العربية مدارس وجامعات الأساسُ فيها التعليم بغير العربية
وهكذا تزدادُ العربية إقصاءً عَنِ المَجال العلمِيّ والتعليمِيّ والثقافِيّ، وبذلك تموتُ أيُّ لغة من اللغات على الزمن، مهما ملكت من قابليّات الحَياة
ويقترنُ ذلك أيضاً بإقصاء العربية في المَجالات السياسية والإعلامية والفنية
فالعاميّة المحليّة تنتشر وتنتشر وتنتشر: تنشرُها الإذاعات، وتنشرُها الفضائيات، وتنشرُها الأغاني، وتنشرُها المسلسلات..
وتتولّى كِبْرَ ذلك أو تشارك فيه أنظمة وحكومات وجهات تدّعي القوميّة، والإيمان بالوَحْدَة العربيّة؛ وكيفَ للوحدةِ العربيّةِ أن تقوم إذا قتلوا اللغةَ الجامِعَة أو أبْعَدوها بإبعادِ العربيَّةِ الفُصْحَى وقتلِها؟!!
إنّنا في الواقِع أمامَ جريمة تاريخيّة، إنسانيّة، حضاريّة، سياسيّة كبرى، لا يَرَى أَبْعادَها الآن أكثرُ العرب والمسلمين
إنَّ إبعادَ العربية الفصحى، وإضعافَها؛ بل قتلَها يوماً بعدَ يوم، إنما هو قتلٌ للأمّة العربية والإسلامية: قتلٌ لأصالتِها، قتلٌ لهويّتِها وشخصيّتِها، قتلٌ لآمالِها في الوَحْدَة والتحرُّر، والمستقبل الكريم
ولَوْ كانتِ اللغةُ العربيّةُ الفُصْحَى قاصِرَةً عاجزَةً عَنِ التجَدُّدِ والتطوُّرِ والوفاءِ بحاجاتِ أبنائِها على كُلّ صَعيد، لوَجَدْنا لِمَنْ يَهْجُرونَها بعضَ العُذر؛ ولكنّها -كما يشهد بذلك العلماء المختصون المُنْصِفون- مِنْ أفضلِ لغاتِ العالم، وأغناها، وأكثرِها قابليّةً للحَياةِ والنمُوّ المستمرّ، وتلبيةِ حاجاتِ العلم والفكر والأدب والحضارَة، والإنسانيّة والإنسان؛ ولكنْ أينَ مَنْ يُخْلِصُ لها، ويَنْهَضُ بها، في هذا الواقعِ العربيِّ البائِسِ السيّء على كل صَعيد
كانتِ „العِبْريِّةُ“ لغةً مَيّتَةً مَيّتَة، فأحْياها ونَهَضَ بها الإسْرائيليّون
والعربيّةُ لغةٌ حَيّةٌ حَيّة، أفتموتُ على أيدينا نَحْنُ العربَ والمسلمين؟!!
يا للخِزْيِ والعار!!!
أليسَ هذا مِنْ أدَلّ الدلائل على الحَضيض الذي انحدرنا إليه، ومِنْ أدلّ الدلائل على انحلالِنا الماديّ والمعنويّ
يَجب أنْ نستيقظَ لأنفسِنا -أيها العرب والمسلمون- فقد أوشكَ يفوتُ الأوان، في عالم وعصر تَمُرُّ فيه الفُرَص مَرَّ السَّحاب، ويعادِلُ اليومُ الواحِدُ فيهِ قَرْناً مِنَ الزَّمَنِ القديم
ولَسْتُ أنْكِرُ الانفتاحَ على اللغات وعلى الثقافات العالميّة والإنسانيّة الأخرَى؛ بل أرَى ذلك ضرورةً وواجباً، وأدعو إليه بإصْرار، وإلى أن تُتَّخَذَ إليهِ الوَسائِل والأسباب
يجبُ أن نستكملَ معرفتَنا وثقافتَنا باللغات والثقافات الأخرَى، وأن نتفاعَلَ مَعَها، ونستفيدَ منها؛ ولكنَّني أنْكِرُ كُلَّ الإنكار، وأرفضُ كُلَّ الرّفض، أن تَحُلَّ في بلاد العرب مَحَلَّ العربيّةِ لُغَةٌ أخرى
وأنا أدعو علماءَ العربية المختصّين، ومجامِعَها المختصّة، إلى أن يواجهوا هذه القضية بشجاعة ومسؤولية وحزم، ويَرْسُموا سياسةً شامِلَةً واضِحَة، ويَضَعوا منهجاً علميّاً واقعيّاً جَريئاً، لإعادَةِ العربية إلى مَكانتِها العتيدَة القديمَة، وتطويرِها وتسهيلِها وتيسيرِ تَعَلُّمِها، ووصْلِها بمختلفِ جوانبِ الحَياةِ والنّشاطِ الإنساني
وأدعو العرب والمسلمين -حُكّاماً ومَحْكومين- إلى مساندةِ هذا المنهج، وتوفيرِ كلِّ ما يلزم لتحقيقِه وتنفيذِه مَهْما تَطَلَّبَ ذلك من جُهْدٍ وتضحِيات، فالقضيّةُ قضيّةُ حياةٍ أو موت، والموتُ العقيديُّ والحضاريُّ شرٌّ مِنَ الموتِ الجَسَدِيّ والماديّ
ومِنْ أهَمِّ ذلِك أنْ نُعيدَ العربيّةَ الفُصْحَى السَّهلة المُيَسَّرَة إلى الاستعمالِ والحَياةِ في المَدارِسِ والجامِعات وسائِرِ مُؤسّساتِ التربيَةِ والتعليم، وفي وَسائِلِ الإعلامِ المَسْموعَةِ والمقروءة، وفي الندواتِ والمُحاضَرات، وفي الأقاصيصِ والقِصَصِ والمَسْرَحِيّات والرِّوايات، وفي حَياتِنا اليومِيَّة قدْرَ الإمكان
وأدعو العربَ والمسلِمين الذينَ يَعيشونَ خارجَ العالم العربيّ والإسلاميّ إلى أن يُعَلِّموا أبناءَهُم العربيّة، لتبقَى لغةُ قرآنِنا ووَحْدَتِنا حَيَّةً في وجدانِنا وعلى لِسانِنا، مَعَ لُغاتِنا المختلِفَة، ومَواطِنِنا الجَديدَة
يجبُ أن نربَحَ معركة العربيّةِ الفصحَى، فذلِكَ كَسْبٌ لنا، وكَسْبٌ للإنسانِيَّةِ كُلِّها، وخيرٌ لنا في الدنيا والآخِرَة.
وسوم: العدد 699