شيءٌ من النقد وللنّقد أمراضُه المعدية كذلك
النّقد هو الغوص في أنساغ العمل الأدبي وأعصابه من أول جملة فيه حتى آخر كلمة؛ لاستخراج مزايا ذلك العمل، وليس استهلاك الحديث بالمقدمات النظرية الطويلة التي يلجأ إليها "كتّاب النقد" هذه الأيام في مقالات لا تعبّر عن العمل الأدبي بقدر ما تعيد ما هو مسطور في الكتب النقدية التنظيرية، فيبدو الأمر مستكرها ثقيلا مملا وممجوجا.
لعل ما يلجأ إليه البعض من حِيَل في كتابة النقد وممارسته الباطلة عرفا وعلما يرغبون أن تندرج تحت باب "النقد"، وهي من النقد بريئة، كامتداح الكاتب والإشادة بمقدرته وتفوقه النوعيّ، ورفع مستوى العمل الأدبي إلى مصافّ الأعمال المقدسة يجعل من ذلك الهراء نكتة لغويّة ساذجة يصدّقها أصحاب الأذواق السّقيمة والمحصول المعرفي الضحل، مع افتقاد تلك النكت البلهاء لمنهجية نقدية واضحة، كأنها خبط عشواء أو حفرٌ بلا طائل في أرض لا تنبت، وكأن ذلك المجهود ما هو إلا كما يفعل الأطفال الصغار الذين يلهون في الرمل في ساعات تقمُّص أدوار لا تناسبهم!
وهنا لا أتحدث عن المجاملات، وإن كانت غير مستبعدة، ولكنني أتحدث عن ذلك الجهل الفاضح في تناول الأعمال الإبداعية، والتبجح والتنطح لكتابة "قراءات" لا تنطبق عليها حتى أنها "انطباعية"، لأنها ليس لها أي سند من ذوق أدبيّ وجماليّ، ولا بأي مستوى، عدا أن هناك من يستخدم لغة "اللف والدوران" في الحديث عن النصوص التي "يتكركب" في قراءتها، وإذا ما فتشت بين السطور لا تجد كلاما مفهوما ولا معاني واضحة، وما هي إلا سلاسل حجرية ملتوية ناتئة، لا تؤدي إلّا إلى أرض بور في نهاية المطاف.
ولا يقل خطرا عن ذلك ما يلجأ إليه بعض سليطي اللسان من توظيف لغة الردح والشتم والسب، والرِّدة الجماليّة في تناول الأعمال الإبداعيّة تحت ذرائع غير نقدية تجعل من يكتبها يتردى في الالتصاق بطين الكلام، فيلتّ العجين، ولا يستطيع تشكيله، لأنه لم يجد شيئا في العمل الأدبي سوى أنه لغة خرجت عن لغة العهد القديم وأساليبه، فيبدو كأنه المصحح اللغوي الذي لا يُشقّ له غبار، ولا يُردّ له قرار، فيقترح التصحيحات، مزينا مقترحاته اللغوية، مسبلا عليها ثوب الجمال والجلال، وكأنها وحدها من يعطي العمل الأدبي جمالياته وأسباب معيشته وحياته، مصرّا على أن يلغي كل عناصر العمل الأدبي ولا يلتفت لمناقشتها، لأنه ببساطة جاهل في المعايير النقدية والعناصر الفنية للأنواع الأدبية، فيحشر نفسه في اللغة مفتشا عما يعتقد أنّها سقطات الكاتب.
إن هذا أيضا، وهنا أستخدم لغة التوكيد، ليكشف عن جانب من الجهل مريع وفظيع في أنه تدخل الجاهل الغبي في صنعة ليس هو ربها، وفي عمل ليس هو خالقه، وينصّب من نفسه إلها يُصدر التشريعات الجبرية والقدرية، لأنه وحده، فيما يظن، من يملك الحقيقة المطلقة، أو لأنه صاحب لسان حاد يسلق به كل من انتقده، فيأخذ الجهلةَ المبهورين به بجعجعة الصوت فيخرسون ولا يحورون جوابا، يُفحمهم خشية الوقوع في رذائل ما اعتاد عليه من "قلة الأدب" في الرد على من ناقشه أو حاوره.
بمثل هؤلاء المدّعين تغصّ الساحة الآن من هواة الردح واللطم ليعظم بلاء الثقافة بمتنبئين كذبة، يَضلّون ويُضلّون، فتضيع الطاسة، ولا تجد الفرس فارسها، وتعاني الحرة من ألم استبداد الجواري والرقيق، ويتمدد الغثاء وتتكاثر بكتيريا الأمراض النقدية المعدية في هوامش الرداءة ليتسع الفتق على الراتق!
وسوم: العدد 713