قراءة في رواية ( زارة الحبّ المقدّس ) لــ محمّد بن زخروفة
إفضاء ما قبل القراءة..
عندما تعرّفت على الروائي محمّد بن زخروفة في ملتقى الإتحاف الأدبي؛ شعرت بدافع كبير يؤزّني للكتابة عنه وعن إبداعه الروائي ، ولذلك أصررت أن أحصل على إحدى روايتَيه ( رحلة الشفاء ) أو ( زارة الحبّ المقدّس ) ، وكان قلبي يميل إلى الأولى لما أثارته من ضجّة كبيرة في السّاحة الأدبيّة ، وفي الوسط الثقاي ، ولكنّ محمّد بن زخروفة اختار أن يدسّ بين يديّ ( زارة الحبّ المقدّس ) ..
وضعتُ الرواية في محفظتي وبرمجت قراءتها في ذهني متى ما وجدت فرصة من وقت ، ووجدت رغبة عارمة تحدوني للكتابة عنها ، لا أجد لها تفسيرا إلا أنّني ارتحت للمؤلّف وشعرت برابطة نسب فكري ما بيني وبينه ، وكنت أقول في نفسي: أرجو أن لا يَخيبَ أملي في الرواية والرّوائي..
العنوان الخاطف:
براعة المؤلّف تظهر في حسن صياغة العنوان الذي ينجح من خلاله في كسب انجذاب القارئ، وإغرائه بكتابه ويجعله يشعر بفضول كبير لمعرفة ما وراءه ، وذلك ما حدث لي بالضّبط وأن أقلّب مدلول العنوان على وجوهه في ذهني ، حتى قبل أن أتصفّح الرواية ، عندما كان الروائي يستحضر الأجواء التي دفعته لكتابة هذه الرواية ويعرض لتجربته الروائيّة في ملتقى الإتحاف الأدبي السّادس، وكان الدّكتور الأمين بحري يمسك بالرّواية ، و( يعابث ) المؤلّف بكلماته المستفزّة حول لحيته التي ظهرت فجأة في ( زارة .. ) ، ولم تكن موجودة قبل ذلك في ( رحلة الشفاء ) ، كنت أتساءل من بعيد :
- ما معنى ( زارا ) وكنت أظنّها تنتهي بالألف ..ما يوحي بأنّها اسم أجنبيّ ، لكنّ الروائي أماط اللثام عن المدلول الحقيقي لكلمة ( زارة ) ، وأنّه نوع من الترخيم الذي فيه تدليل لاسم ( زهرة ) بكلّ بساطة ، ورغم ذلك لم يتضح مدلول العنوان بشكل كامل إلا بعد أن قلّبت الرواية بين يديّ وتأملته جيّدا ..( زارة الحبّ المقدّس )..
وصدق ظنّي في الروائي والرواية لمّا أوغلت في قراءة عتبة العنوان وما وتلاه من عتبات أخرى، فالعنوان الإضافي أو التفسيري ، يضع القارئ أمام الحقيقة الباهرة لمحتوى الرواية بشكل فاتن رغم تجلّيه من أوّل قراءة ( براءة لحبّ لم يذنب ولم يدنّس ) ، هذه العتبة الجميلة التي تحمل نفثات الشعر ، تقودك مباشرة إلى طهارة الحبّ الذي هو محور هذه الرّواية وأيقونتها التي تطوف حولها ..
02..
في العتبات والمضمون
استهل الكاتب روايته بثلاث عتبات تلقي زخّات من النور على نصّه الروائي وتضيء للقارئ دربه في دهاليز الرواية المعقّدة ، كانت العتبة الأولى لجبران خليل جبران قال فيه:
" ما أنبل القلب الحزين الذي لا يمنعه حزنه على أن ينشد أغنية مع القلوب الفرحة ! "
وقد آثرت نقل هذه العتبة لعمقها وقوّة دلالتها التي لا تدرك بحقّ إلا بعد قراءة الرّواية ، إنّها تجعل الفرح منهج حياة وقوّة إرادة تذلل الصّعاب..
أمّا العتبة الثانية فهي التي انتفض لها جسدي راعشا ، وأسكرتني بعبقها المذهل ، هي كلمة مدويّة لرجل مزج روحه بتربة الجزائر ، وقرن قوله بعمله حتّى ضمّخت دماؤه أرض الوطن ، إنّه الشهيد مصطفى بن بولعيد الذي قال:
" حاولوا دائما حتّى ولو كانت نسبة النّجاح تبدو ضئيلة جدّا، فإذا فشلتم قيل أنّهم حاولوا ، وفي ذلك رجولة وفخر "
هذه كلمات من ذهب لاسيما لمن يعرف من هو مصطفى بن بولعيد ، فلم تكن كلماته مجرّد عبارات جوفاء ، بل هي كلمات كتبت بنار ونور ، وتذكّرنا بكلمات سيّد قطب الشهيرة:
" إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح و كتبت لها الحياة "
ثمّ تأتي العتبة الثالثة وهي لصاحب جائزة نوبل نجيب محفوظ ، حول تأمّله في صورة ضمّت أفراد عائلته ، ثمّ بعد مضّي فترة من الزمن ، مات أغلبهم وصاروا كأنّهم لم يكونوا ، واختيار هذه العتبات الثلاث ، له دلالته القويّة التي تشير إلى مغزى يرمي إليه المؤلّف ، ويريد أن يوجّه بوصلة المتلقي نحوه ، وربما بشيء من التأمّل يمكن استنباط بعض من معاني ذلك المغزى.
جبران يدعو إلى الفرح مهما طوّق الحزن قلب الإنسان ، ومصطفى بن بولعيد يعلمنا أن نسعى إلى التغيير ولا نيأس حتى ولو فشلنا ، وصورة نجيب محفوظ تذكرنا أنّ الحياة فانية ولا يبقى فيها إلا الذكريات الحيّة ..
الاغتراف من المعين:
لقد أحسن المؤلّف اتخاذ تلك العتبات مدخلا إلى روايته ، التي اختار لأحداثها أن تكون في مرحلة الثورة التحريريّة المباركة ، وجعل محورها هو الحبّ السّامي الذي ربط قلبين اثنين هما زارة ( زهرة ) ومادي ( مهدي ) اللذين تحابا في مروج المراعي التي كانا يلتقيان فيها يوميّا ، وكان مادي يحبّ زارة رغم صغر سنّه ( سبع سنوات ) ورغم أنّها تكبره قليلا ( تسع سنوات ) ، وفجأة تختفي زارة من حياته ولا يدري ما الذي أصابها ، ليكتشف بعد سنتين من ذلك ، من خلال رسالة أوصلتها إليه بطريقة ذكيّة أنّ أباها قد حجبها ومنعها من الخروج لأنّها صارت امرأة ، وصار يخاف عليها من عيون ( المعمرين !! ) الفرنسيين.
وقد أوصته في تلك الرسالة أن يترك قريته (شعابة) التي قنعت بحياة الذّل والخنوع للمحتل الفرنسي ، وأن يذهب إلى القرية المجاورة قرية (كحالة ) التي كان أهلها يدعمون الثورة ، وبعد مغامرة طويلة يلتحق بالمجاهدين ، وفي يوم من الأيّام يُلقى عليه القبض ويساق إلى المستشفى في حالة يرثى لها ، لكنّه يفاجأ بالعناية الفائقة التي يحاط بها ، ثم بعد تماثله للشفاء يؤخذ خادما إلى قصر أحد المعمرين ، الذي يضلّ يعمل عنده لمدّة ست سنوات شبه أسير ، ثم عند الاستقلال يطلق سراحه ليكتشف أنّ زارة ضحّت بشرفها ومصيرها لتتزوّج بضابط فرنسي كبير ، من أجل أن تنقذ حياته ثمّ تظلّ تنفق عليه بعد ذلك وهو في قصر الضابط الفرنسي الثاني إلى غاية الاستقلال..
وبعد أن يعود لقريته يكتشف موت زارة وزوجها الضابط الفرنسي وابنها الصّغير. بعد أن اعتدت علي بيتهم في فرنسا أيادٍ مجهولة..
البناء الفنيّ في الرواية..
من خلال الإبحار في أعماق رواية ( زارة الحبّ المقدّس ) نلمس الإمكانيّات الواعدة التي يتميّز بها محمّد بن زخروفة ، فرغم بعض الثغرات التي يمكن أن نكتشفها في تمفصلات الرواية والتي لا يكاد يسلم منها كاتب في انطلاقته الأولى ، وهو مع ذلك يُطعِّم أسلوبه السّردي بقائمة من التقنيات الفنيّة الجميلة ، التي تجعل من الرواية تُسَجِّل تفردا وبصمة خاصة في العالم الروائي.. وسنرجئ الحديث عن الثغرات وبعض الأخطاء التي ربّما كان من بين أسبابها الركون إلى ما صار يعرف اليوم في السّاحة الأدبيّة بالمصحح اللّغوي ، ونذكر أهمّ التقنيات الفنيّة التي تجمّلت بها الرواية والتمس الكاتب أن يوصل رسالته إلى المتلقي بواسطتها..
شخوص الرواية:
بُنيت الرواية على تعدد الشخوص وتنوّعها مع الاحتفاظ بنمطيّة البطل التقليدي الذي يتولى هو نفسه عمليّة السّرد نيابة عن المؤلّف ، إنّه البطل ( مهدي ):
مهدي: هو طفل كان في السابعة من عمره في بداية الرواية ، وصار عمره حوالي ستة عشرة سنة في نهايتها ، أي أنّه لم يتعدّ مرحلة الفتوة الأولى .. ولعلّ هذه هي الصّفة الوحيدة التي تميزه عن الشخصيّة النمطيّة ، ومن صفاته الأخرى ذلك الكبرياء والإباء المصطنع الذي أبدى هو عنه حين قال:
" لنرجسيتي الزائدة أنتظر دوما مقدّماتها للحديث ، بصوتها الهادئ الذي ترتجف له القلوب طائعة تلقي عليّ التحيّة ، ثمّ تصحبها بابتسامة تختصر جمال الكون ... وتملأ قلبي حسرة لتعصّبي وقسوتي "[2]
ورغم سنّها فإنّ عقلها غلب عمرها، فهي تفكّر في الثورة وحريّة الوطن وعمرها لم يتجاوز الحادية عشرة ، وتكتب رسالة توجهها إلى مهدي تطلب منه أن يلتحق بالثوار في الجبل ، ويستجيب لتوجيهها ..
بقيّة أبطال الرواية يعتبرون ثانويين لأنّ حضورهم بشكل أقل في الرواية ، ومنهم المجنون ( الدرويش ) ، و( عمّي المخطار ) والشيخ يعقوب شيخ المسجد. ومنهم الأبطال الهامشيون المكملون للمشهد ، والذين لا يكاد القارئ يلتقط أسماءهم حتى ينساها ، كأمّ زهرة وأبوها ، وأخو زهرة وأم مهدي وجدته وغيرهم..
ما لفت انتباهي في هذه الشخصيّات التي تنوّعت بها الرواية وأعطتها ضجيج الحياة ، هو تلك الصورة الإيجابيّة غير النمطيّة ( هذه المرّة ) للإمام أو شيخ الجامع ، فهو شيخ القرية ، ومرجعها في كلّ شيء ، حتى في الجهاد والثورة ، فشيخ المسجد هو الموجه والمرشد بل المنظم لكلّ ذلك ، فلا يقطع أمر بدونه.
وهذه الصورة للإمام هي الصورة الحقيقية التي تعبر عن الواقع الذي عاشه الشعب الجزائري ، ويجد القارئ أثره الحيّ في تاريخ ثوراته الطويل ، فمعظم قادة المقاومات الشعبيّة كانوا إما علماء أو شيوخ زوايا ومعلمين للقرآن الكريم ، بخلاف الصورة السيئّة ( الشاذة ) والمفتعلة، والتي حاول من خلالها التيار اليساري الأحمر أن يجعل منها هي الصورة السّائدة للإمام أو الرّجل المتدين[4]
هنا نرى ضيق الزمان والمكان معا ( الأسوار العاتمة ) ، رغم رغد العيش ، وقد أحسن الكاتب صياغة شعوره على لسان البطل حين قال:
" أن تعيش سعيدا يتوجّب عليك أن تعيش حرّا ، النّعيم المقيّد ينفّر عنك السّعادة مهما بالغت في ضخّه الطّيبات "
لكن ربّما ما يؤخذ على الكاتب ويعتبر غير مقنع نوعا ما ؛ هو كيف استكان البطل مهدي إلى تلك الحياة وبقي حبيس الزمان والمكان طول تلك المدّة ( ست سنوات ) ولم يقم بأيّة محاولة للتمرّد أو الفرار أو محاولة التواصل – بأيّة طريقة – مع عالمه الأوّل ، لاسيما وأنّه عاش مدّة من الزمن ثائرا في الجبال يسمع أزيز الرّصاص ودويّ القنابل ، ولا يرجف له جفن أو تهتزّ شعرة ، هنا أظنّ أن المؤلّف غلبه قلمه فمرّ سريعا ولم يعقّب .. !!
وهناك زمن آخر متخيّل خارج إطار الواقع اقتضى أيضا مكانا مُتخيّلا ، اختلط فيه الحقيقي بالمتخيّل بل بالعجائبي ربّما .. ! لجأ الكاتب إلى ذلك عند حديثه عن فترة بقائه في المستشفى للعلاج ، وكان غائبا عن الوعي ، إذ رأى في أحلامه ( كوابيسه ) ما اختلط بالذكريات وعوالم الغيب ، يقول في صفحة 86:
" أغمضت عينيّ في هدوء لأرى جسدي عليه ثياب فاخرة خضراء اللون يتخللها طرز خيوط فضيّة وذهبيّة محلّقة تمتد من الأسفل إلى الأعلى ، وعلى الثوب حلي مختلف ألوانه وأحجامه وأشكاله ، فيم رأيت على رأسي تاجا عظيما أسفله جوهرة حمراء .."
هذا التنويع في الفضاءين الزماني والمكاني يعطي بلا شك ثراء للرواية ، ويزيد من جذب القارئ وإقباله عليها بلهفة ، كما أنّه يجعله يندمج فيها بكامل كيانه ، ويعيش أحداثها بكلّ حواسّه ، فيرى ويسمع ويشمّ ويتذوّق ويلمس الأشياء كأنه كان مع أبطال الرواية وشاركهم أحداثها..
التصوير الفنّي والتناص
في الرّواية صور فنيّة كثيرة متعدّدة ومتنوّعة زيّنتها وأثْرَتْ محتواها ، وجعلت من المتن الإبداعي لوحة فنيّة شائقة ، نسوق من تلك الصور بعض الأمثلة الحيّة مع تعليق يسير ينبّه إلى مكامن الجمال فيها:
1 – قال المؤلّف في صفحة 7 :
" وستبقى شباك النّدم تمتدّ في أرجاء قلبك طول حياتك حتّى تلتهمه كليّة "
صورة تمثيليّة تجسد النّدم عندما يتجلى في هيئة مأساوية رهيبة ، فجعل الكاتب للنّدم شباكا وهي شباك نامية إذ أنّها تمتدّ وتمتدّ ، ولكنّها تمتدّ في حياة قلب البطل إلى أن تلتهمه كلية .. !! صورة ( تراجيديّة ) رهيبة..
2 – الصورة الثانية التي شدّت انتباهي أيضا هي قوله في صفحة 14:
" .. فأورقت في ذهني عدّة تساؤلات ألهبت فضولي " وهي صورة مركبة تركيبا مزجيا لطيفا من عدّة عناصر فنيّة بديعة ، جمعت بين الكناية والتشبيه ، والصورة التمثيليّة الفاتنة ، والمفارقة المذهلة ، أسئلة تتوالد في الذهن مثل النبات الذي يُورق ويتفرّع ، وهو رغم اخضراره وطراوته يشعل الفضول فكأنّه نار مضطرمة، وكذلك تفعل الأسئلة المحيّرة بالعقول .. !
3 – وهذه صورة أخرى مدهشة يقول فيها:
" وما المطر إلا أداة تغسل السّحب لتعيد لها بياضها النّاصع " ، هي من أطرف ما مرّ بي من صور فنيّة ، وكأنّها صورة مبتدعة لم يُسْبَق لها الكاتب ، فقد جرت العادة أن يغسل المطر الأرض أو النّبات ، أو حتى يطهّر البشر من أوضارهم ، أمّا أن يغسل السّحب ففيه طرافة وغرابة معا ، وربّما لن يفهم القارئ هذه الصورة ، إلا إذا علم أنّ السّحب تحمل معها – بسبب الرياح – أطنانا من الأتربة والأقذار يلزم نزول أمطار غزيرة لتخليص السحب منها ..
4 – يقول المؤلّف في الفقرة الأخيرة من صفحة 26:
" وظلّت وساوسها معلّقة إلى أن أصبحت رفيقتي ثمّ بيتي الذي أسكنه "
تخيّلوا معي أن تصبح الوساوس رفيقا أو بيتا يسكنه الإنسان ، وهذا البيت معلّق ، هو يشبه الشرنقة ، ويا ليته يخرج من الشرنقة فراشا بهيّا .. !
تناص جميل:
وفي الرواية ملمح جمالي آخر هو تبع للتصوير الفني بلا شك ، نذكر من أمثلته أيضا :
1 – المثال الأوّل قوله:
" حينها حملت عصاي التي أهشّ بها على غنمي .." التناص هنا واضح مع قول الله عزّ وجلّ في سورة ( طه ):
" قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ " الآية 18.
2 - وفي صفحة 46 قال:
" ما كنت تراه ليس بأضغاث أحلام .." تناص طبعا مع قول ملإ فرعون له:
" أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ "
3 – ويكثر التناص مع القرآن الكريم بشكل كبير ، إذ يقول في صفحة 97:
" نعم ما شأنهم بصحّتي وهم العدوّ.." هذا التعبير ( هم العدوّ ) قرآني بامتياز، فالمعروف أن يقول الكاتب ( هم الأعداء ) بصيغة الجمع ، أمّا ( هم العدوّ ) بصيغة المفرد الذي يراد بها جنس العدوّ ، فهو أسلوب قرآني خاص ، جاء في قوله تعالى من سورة ( المنافقون ) :
" يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4) ...
4 – وفي ص 112 قال المؤلّف:
" ولو كان بمقدوري أن اتخذ نفقا في الأرض لأصل إليهم لاتخذت ".
وهو تعبير يتقاطع إلى حدّ ما مع قوله تعالى في سورة ( الأنعام ):
" وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ۚ " الآية 35.
وهناك تناص من نوع آخر تناص غير مباشر حيث وُظّف مع الرؤيا التي رآها ، شخصيّة الشيخ يعقوب ، الذي يحيل إلى نبيّ الله يعقوب عليه السّلام ، كما تحدّث عن النّمل وقراه ووادي النمل ، وفي ذلك متح غير مباشر من القرآن الكريم الذي تحدّث عن النّمل ووادي النّمل حين ذكر قصّة نبيّ الله سليمان فقال:
" ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ الآية 18 .
والجميل في التناص مع القرآن الكريم أنّه رغم التوظيف الكبير له من قبل الشعراء والكتّاب إلى درجة الهوس أحيانا ، إلا أنّه لم يفقد يوما ألقه ، ولا خبا جماله ، أو فقد جدّته، فكأنّ التناص مع القرآن يجعل النّص يكتسب حياة دائمة ونورا يشع من بين جنباته ببركة القرآن وإشراق القرآن وعظمة القرآن.. !
واستعان المؤلّف في تأثيث نصّه وإثرائه بالاستمداد من التراث الشعبي أيضا، فذكر قصص جدّته عن ( بوعتريس ، المعزة الصينية ، لونجا بنت التاجر ، الغولة ).
ويقول بعد ذلك في صفحة 46:
" اضرب مطرقك على مطرقي يطيح اللّوح من السما بنيلي دار وروح وخليني .."
وهي نوع من القصص التي ترويها الجدّات فيها الحكمة وفيها العبرة ، والمثل العجيب الذي يغذّي ثقافة القارئ ويوضّح له الفكرة بشكل جليّ..
لمسات إيمانيّة:
الرواية الحديثة التي لها رنين وطنين ووهج إعلامي مفتعل في أغلبه ؛ تتنكّر لعنصر الإيمان في الحياة ، وترى الدّين زاوية ضيّقة ، ومن يُشتَمُّ منه رائحة استقامة أو التزام يُوصم فورا بالوعظيّة والخطاب السّطحي المباشر ، لكنّ فئة ممن يحملون أقلاما حَمِيَّة وقلوبا ذكيّة ونورا ملأ جوانب صدورهم ؛ لا يبالون بشيء من ذلك فيكتبون ما يكتبون ، وكلمة ( الله ) تشعّ بين جوانحهم ولا يخافون في تسطير الكلمات المؤمنة الحيّة لومة لائم..
وما أعجبني في أسلوب محمّد بن زخروفة بشكل عاصف ، أنّه يجعل من أبطاله يستعلنون بإيمانهم ولا يخافون حملة ناقد حاقد ، يصمهم بالرّجعيّة أو التقليديّة ، ويثبتون قدراتهم الإبداعيّة عن استحقاق..
وهذه قطوف مما جاء في الرواية يمكن أن نطلق عليها المشاهد ذات اللمسات الإيمانيّة :
1 – عندما يندهش مهدي – إذ يرى وادي النّمل – ويستغرب من نظام حياته الدّقيق وهو الطفل الصّغير الذي لم يتجاوز السبع سنوات، تأخذ (زارة ) بيده وتقول له:
" أنصت يا مهدي ، لقد خلق الله الإنسان والحيوان وفق نظام يحدّد طبيعة كلّ مخلوق ، فنحن البشر نعيش أيضا وفق حدود بيننا، وكلٌّ له بيئته الخاصّة به ولغته ولون بشرته.."
يبدو الكلام كأنّه وعظ مباشر ، وفي ذلك حكم صحيح بلا شك ، لكن إذا كان موجها لطفل صغير يرى الطبيعة فيندهش لعجائبها ، فإنّ الوعظ هنا مقبول ويبدو تلقائيا وطبيعيّا ، وهو على كلّ حال خير من أسلوب كثير من الكتّاب في تصوير الإنسان وكأنّه في صراع مع الطبيعة ، وخير من قول بعضهم ، الطبيعة خَلَقت والطبيعة أَبدعت ، وتحدّي الطبيعة ، وما إلى ذلك مما نالنا غباره من إلحاد الرّواية الوجوديّة !!
2 – ويقول المؤلّف في صفحة 37 :
" بعض البشر يولدون كالملائكة ، ويعيشون حولنا مثل الأنبياء ، يتأملون أفراحنا وأحزاننا في صمت، وكلّما تعثرنا نجدهم هم السّند الذي نرتكز عليه لنقوم مجددا .."
تشبيه الصّالحين من البشر بالملائكة أو الأنبياء ليس تشبيها عبثيّا ، بل هو تشبيه مقصود ، يتكئ على قاعدة إيمانيّة صحيحة ، يحياها النّاس ويعيشونها كلّ يوم ، وهي خلاف تلك التهويمات النكدة التي ينفث سمومها ( كَتَبة ) الرِّوايات المنبّتة ، التي لا أمة أيقظت ولا شعبا أحيت ، ولا جيلا نفعت ، بل ضلّت وأضلّت ..وعاثت في أرض الثقافة والفكر فسادا وإفسادا ..ثمّ يقولون : لا نريد من الأدب أن يكون وعظا مباشرا ، وصدقوا وهم الكذّابون ، ونحن أيضا لا نريده أن يكون بيئة موبوءة لإفساد الخلق والفكر ..
3 – ومثال آخر عن الأسلوب الإيماني الواضح قوله في ص 90:
" كنت أردّد في داخلي : ليتني هلكت وكنت الآن برفقة عمّي الطّاهر في تلك المنزلة الرّفيعة من الجنّة التي كتبت للشهداء.."
التعبير في سياقه الطبيعي ، عندما يتمنى شاب صغير عايش الثورة والجهاد ، ويرى الشهداء يتساقطون أمامه كلّ يوم ، ليس عجبا أن يتمنى الشهادة ويلحق بهم ، لاسيما إذا كان يعيش وضعا مزريا لا يكاد يرى منه خلاصا..
4 – ونختم بهذا المثال الجميل عن النماذج الإيمانية في الرواية ، يقول المؤلّف محمّد بن زخروفة في صفحة 128 وهي الصّفحة ما قبل الأخيرة ولذلك دلالته العميقة :
"لتعلم يا مهدي أنّ الحياة تهبنا المحبّة ليكبر أشخاص في قلوبنا ، حتّى أننا لا يمكن أن نتخيّل أنّه سيحين موعد فراقهم يوما، نفرح لنحزن ونحزن حتّى يهيئ الله لنا فرحا كنا ننكر إقباله على قلوبنا بعد أن اسودّت أفئدتنا ألما وغيظا ، هذه هي سنن الحياة التي عمادها الحزن والفرح ".
فكر يعبّر عن واقع أمّة مؤمنة ، تعيش الأتراح والأفراح ، النكد والسرور ، لكنّها لا تتنكّر لإيمانها أبدا وإلا كانت أمّة الهباء.. وما هي بذلك !
هِنَات:
الروائي الجيّد هو الذي يقدّم في كلّ رواية جديدة أفضل ما عنده ، ويستفيد من المتن الأوّل ليجوّد في الثاني ويتقن ، وقد كتب الروائي محمّد بن زخروفة روايته الأولى ( رحلة الشفاء ) ، ولم يُكتب لي أن أقرأها بعدُ ويبدو أنّها رواية ناجحة لما لاقته من رواج واستقبال كبير من جمهور القرّاء – بحسب ما قرأنا – ولكن لا يمكننا المقارنة لأننا لم نقرأ الرواية الأولى ، ولنا حول هذه كلمات مؤاخذة نقدّمها بين يدي هذه القراءة عسى أن ينتفع بها المؤلّف ، والقرّاء على السّواء بعضها على مستوى البناء الفكري ، وبعضها على مستوى البناء اللّغوي..
في البناء الفكري:
رغم أنّ أفكار الرواية عموما جاءت مقنعة ومنطقيّة ومترابطة إلا أننا لاحظنا وجود بعض الفجوات ، على مستوى بعض تمفصولات الرواية ، منها:
1 – فتاة في التّاسعة من عمرها تحبّ فتى في السابعة ( حبّ الرّجل للمرأة ) حبّا عفيفا ، إلا أنّ مستوى السّن بدا غير مقنع للمتلقّي.
2 – قبول ( زارة ) بالزواج من الضابط الفرنسي والسّفر معه إلى فرنسا ، وإنجابها طفلا منه من أجل حماية ( مادي ) والإنفاق عليه طول إقامته في قصر الضابط الفرنسي الثاني أيضا كلّ ذلك بدا أمرا غير مقنع ، فكيف تُضحّي امرأة مسلمة بشرفها ، وعرضها وتقبل بالزواج ( الباطل ) من ضابط فرنسي مسيحي ، من أجل فتى صغير كان يرعى معها الغنم في البادية..
3 – بقاء مهدي ( البطل الثائر الشجاع ) في قصر الضابط الفرنسي مدّة ستّ سنوات دون أيّ ردّة فعل أو محاولة للهروب أو المقاومة ، أمر غير مقنع أيضا.
في البناء اللّغوي:
على مستوى اللغة جاءت في الرواية كثير من الأخطاء اللّغويّة التي كان بالإمكان تفاديها ، نذكر أمثلة منها غير ملتفتين إلى الأخطاء المطبعيّة ، حتى لا تتكرر في روايات المؤلّف القادمة بإذن الله تعالى:
1 – يقول المؤلّف حين حديثه عن خصامه مع زهرة ورجوعها له وقد نسيت كلّ شيء دون غلّ أو حقد:
" أقابلها وأنا أنتظر عتابها أو مقاطعتها للحديث معي .."
" مقاطعتها للحديث " صوابها أن يتعدّى الفعل قاطع بنفسه ولا يحتاج إلى حرف جرّ ، فيقول : "مقاطعتها الحديث ".
2 – في صفحة 28 قال:
" تحمل الأخرى جرّة وماء وكيسا أسودا "
(أسودا) هنا خطأ يقع فيه كثير من الكتّاب ، ظنا منهم أنّ نصب ( أسود ) يكون بالتنوين، وهي كلمة ممنوعة من الصّرف لا تقبل التنوين ولا الكسر إلا إذا كانت مضافة ، أو لحقتها (ال ) التعريف ، أو جاءت في ضرورة شعريّة لإقامة الوزن.
3 – وجاء في ص 49 قوله:
" يحدّقون إليّ " والصّواب أن نقول : ( يحدّقون فيَّ ) فالتحديق في الشيء وليس إليه لغة. وهو بخلاف النظر إذ يمكن القول: ( ينظرون إليّ ) ، أمّا التحديق ففيه تأمّل وتفكر فيكون في الشيء وليس إليه.
4 – وهناك عبارة عامية جعلها المؤلّف من الفصيح وهي ليست كذلك ، وهي قوله في ص 53:
" يحملون عصيّهم ويهدّدون عليّ " وصوابها " يتهدّدونني ).
5 – وفي ص 59 قال :
" مرتاح البال صفيّ الخاطر " ولا يصحّ ذلك أبدا ، إنّما نقول : ( صافي الخاطر ) ، أي نقيّه، أمّا صفيّ فتعني ( المختار ) وهو بعيد عن المعنى المقصود.
ونكتفي بهذه الأمثلة في الجانب اللغوي والتعبيري ، مما لا يصعب على المؤلّف تداركه في طبعة أخرى بإذن الله تعالى.
قطوف مختارة
بمقابل الهنات والثغرات اليسيرة التي عكّرت التدفق السّلس للرواية هناك عبارات جميلة استوقفتني وملكت عليّ أقطار نفسي للحظات من الزمن ، وأحبّ أن يشركني القارئ في تملّي جمالها وتشرّب رضاب معانيها الحيّة ..
من أمثلة تلك العبارات والجمل قوله عن ( زارة ):
" رغم براءتها إلا أنّها تحمل عرش الحياة في معانيها، أبدا لا تحمل ضغينة أو حقدا "
فما أروع تلك الجملة الشعريّة المكثّفة (أنّها تحمل عرش الحياة ) .. !
وفي عبارة أخرى يقول ص 9:
" من أكبر الأكاذيب التي قدّمها العلم ، هي فصل الأفكار عن الأعمار وتحديد سنّ البلوغ ، هناك من البشر من لن يبلغ أبدا وسيموت وهو قاصر "
وهذا نوع من التأمّل في الحياة عميق جدا لا يتأتّى لكاتب أو إنسان إلا بعد تجربة كبيرة..
ومن هذا القبيل تلك الفكرة الرّائعة التي ساقها في صفحة 38 حين قال:
" عندما تنتصب بين عينيك إشارة تشعّ بنور يلامس شعورك فترتاح له، حينها يجب أن تتّبع آثار هذه الإشارة وتقتدي بنورها إلى غاية أن تدرك وهجها اللطيف .."
كلام يشبه الفتح الرّبّاني والإلهام الصوفي الذي لا يأتي إلا بعد دربة ومجاهدة، وانظر إلى ألفاظه ( إشارة / تشعّ / تقتدي بنورها / تدرك / وهجها اللطيف ).
وهذه الفكرة الجميلة تكملها فكرة أخرى هي من جنسها في صفحة 41:
" أيّها الباحث عن رضا قلب تحبّه ، حين تريد الوصول إلى هدفك غامر إلى آخر خطوة، لا تدع الشّك يلاحقك وأنت تسير نحو اليقين .."
حقّا ما أصدقها من حكمة لا تدع الشّك يلاحقك وأنت تسير نحو اليقين.. !
[2] - الرواية ص 8 .
[4] - ص112 .
وسوم: العدد 715