المنهج التكاملي في النقد
حين نرغب في تناول مادة أدبية أو نص إبداعي بالقراءة والنقد، فأي المناهج نستخدم: المنهج النفسي، أم الاجتماعي، أم البنيوي؟ أم نستخدمها كلها في تكاملية نقدية؟
هل أنت مع التكاملية في المناهج النقدية في تناول النص المنقود سواء كان شعرا أو نثرا ؟
ولعلي أميل إلى تكاملية المناهج النقدية، مع ترجيح منهج على آخر وفقاً للنص المدروس، ولعلي هنا أقف على جذور المنهج التكاملي وآراء النقاد فيه:
جذور المنهج التكاملي :
إنّ التتبع التاريخي لأصول مصطلح التكاملية في النقد العربي الحديث لمعرفة السبّاقين إلى استخدام هذا المصطلح أمر ليس باليسير فـ( طه حسين ) يورد آراءً تشير إلى المنهج التكاملي لكن من غير أن يسمّيه في كتابه ( في الأدب الجاهلي ) حيث انتقد الدراسات العربية التي تعتمد على أحادية الرؤية والبعد عن الرؤية التعددية المنفتحة ورأى أنّ ذلك سبب تطور الغرب وتخلفنا، حيث يقول :
" من زعم أنّ الأدب العربي يمكن أن يُدرس دون الاعتماد على إتقان اللغات اليونانيّة واللاتينية وآدابهما، وإتقان اللغات الإسلامية وآدابها، ثم على إتقان اللغات الأوربية الحديثة وآدابها، ومن يزعم ذلك فهو إما مخدوع وإما مشعوذ، وكيف السبيل إلى دراسة الأدب العربي إن لم ندرس اللغة اليونانية واللاتينية وآدابهما ولم نتبّين مقدار ما كان لحضارة الرومان واليونان من تأثير في أدبنا وفلسفتنا وعلمنا، وهل تظن أنّ من شيوخ الأدب في مصر من قرأ الإلياذة لهوميروس والإينيادة لفرجيل "
وإشارة ( طه حسين ) إلى المذهب المتكامل تبدو أوضح عندما يفضّل الاعتماد على اللفظ والمعنى، وأن يستفيد من المناهج الفنيّة والتاريخية وغيرها ليصل إلى الرؤية النقديّة، يقول : " نحن لانعتمد على اللفظ وحده، ولا نعتمد على المعنى وحده ولا نعتمد على اللفظ والمعنى ليس غير، وإنما نعتمد على اللفظ والمعنى وعلى أشياء أخرى فنّية وتاريخية، ومن مجموع هذه الأشياء نستخلص لأنفسنا مقياساً يقرّب إلينا صواب الرأي في هذا الشعر الجاهلي "
ولهذا السبب هاجم طه حسين الرؤية الفردية للناقد والدارس العربي، فقارن بين الأستاذ العربي والأستاذ الفرنسي، ورأى الأستاذ الفرنسي موسوعي المعرفة متقناً لجوانبها المتكاملة على عكس الأستاذ العربي ذي الرؤية الأحاديّة الضيقة، فنراه يقول : " إنك لن تعرف أستاذاً للأدب الفرنسي أو الإنجليزي يستحق هذا اللقب إلا وقد أتقن اللاتينية لغة وفقهاً وأدباً وفلسفةً، ثم أتقن إلى جانب ذلك كلّه لغتين من اللغات الحيّة على أقل تقدير "
ويؤكد طه حسين أهمية الثقافة الواسعة للناقد وبعدها أساساً لممارسته النقد، ويضرب لذلك مثلاً بالمثقفين العرب من أمثال الجاحظ في العصر العباسي وهو يذكر ذلك، فيقول : " ولوعاش الجاحظ في هذا العصر لحاول إتقان الفلسفة الألمانية والفرنسية، كما حاول في عصره إتقان الفلسفة اليونانية "
ومما لا شك أنّ طه حسين لم يقل بالمنهج التكاملي ولم يسمّه لكنّه أشار إلى أمرين الأول : تنوّع ثقافة الناقد واتساعها، والثاني : ممارسته إجراءات نقدية تتناول اللفظ والمعنى وأشياء أخرى فنية وتاريخية، وفق تعبيره وهنا يكون قد اقترب كثيراً من مفهوم التكاملية، أو وضع أساسها الأول، وتجدر الإشارة إلى أنّ كتابه ( في الأدب الجاهلي ) يرجع إلى عام 1923م، إذ وضعه بعد أن نشر كتابه (في الشعر الجاهلي) عام 1921م .
لكن المرجح أن يكون ( سيد قطب) في كتابه(النقد الأدبي أصوله ومناهجه) أول من استخدم هذا المصطلح ونادى به ودعا إليه وتبناه، وكان ذلك في أربعينيات القرن الماضي عام 1946م، فقد خصّص الفصل الأخير من كتابه للحديث عن المنهج المتكامل وعدّه أفضل المناهج وأقربها إلى طبيعة العمل الأدبي الفنية، إذ يقول :
" أمّا المناهج فقد تحدثت عنها في القسم الثاني من كتاب (النقد الأدبي) وهي :
المنهج الفني والمنهج التاريخي والمنهج النفسي، والمنهج المتكامل، ولعل هذا أشمل تقسيم لمناهج النقد، وقد يرى القارئ بادئ ذي بدء أنني آثرت (المنهج الفني) على المنهج التاريخي والنفسي ولكنه حين ينتهي من قراءة الكتب سيرى أنّ المنهج المختار هو ( المنهج المتكامل )، الذي ينتفع بهذه المناهج الثلاثة جميعاً، ولا يحصرنفسه داخل قالب جامد أو منهاج واحد، فالمناهج إنما تصلح وتفيد حينما ُتتخذ منارات ومعالم، ولكنّها تفسد وتضر حين ُتجعل قيودا وحدودا، فيجب أن تكون مزاجاً من النظام والحرية والدقة والابتداع "
ثم يوضّح في موضع آخر بعض خصائص النقد المتكامل فيقول :
" المنهج المتكامل لا يعد النتاج الفني إفرازاً للبيئة العامة ولا يتحتم عليه كذلك أن يحصر نفسه في مطالب جيل من الناس محدود "
فهو يرى النتاج الفني عملاً مستقلاً ليس مقيّداً بزمان أو مكان وهو ليس مقيّداً بمنهج محدًد، ويبرز القيمة الأساسيّة للمنهج التكاملي وهي أنّ هذا المنهج يجمع أدوات عدّة فيتناول العمل الأدبي من مختلف جوانبه وزواياه لا من زاوية واحده كما يفعل كثير من النقاد .
إلاّ أنّ سيّد قطب لم يتجاوز الصفحتين في حديثه عن هذا المنهج التكاملي، ولم يوضّح طريقة إجراء هذا التكامل .
ثم يطالعنا ( شكري فيصل ) بعد سنتين من دعوة سيّد قطب، وذلك عام (1948م)، حين قدّم أطروحته لدرجة الماجستير ودعا فيها إلى ضرورة التكامل بين المناهج لأنّ هذه المناهج تشكّل في مجموعها منهجاّ جديداّ يجمع كل ما هو جيّد و إيجابي من تلك المناهج جمعاء ويبتعد عن كل ما هو سلبي فيها، إذ يقول :
" وهذا المنهج الصحيح الذي يهدف إلى تحقيق المدارس الأدبية في الأدب العربي، يمكن تلخيصه بأنه وحدة في الهدف وكثرة في الوسائل بمعنى أنه لا بد فيه من الإفادة مما في المناهج السابقة من نتائجها التي بلغتها، وهو يدعو إلى تعاونها وتضامنها تعاوناً مثمرا، وتضامناً منتجاً، والمنهج الجديد حين يفعل ذلك لا يعني أنه يخلط بين هذه المناهج المختلفة خلطاً أعمى، ولا يمزج بينها مزجاً كيفياً، وإنما هو يعني أنّ هذه المناهج كانت تنظر إلى الأدب العربي من وجهة معينة لا تتعداها وكان خطؤها في هذا الاقتصار، ولا بدّ للمنهج الجديد أن يكون أرحب أفقاً وأوسع"
فهو يرى ضرورة الرؤية الشاملة الواسعة والتي تعالج القضايا النقدية معالجة شمولية مفتوحة، لا تعتمد على الانتخاب الساذج والمزج الضال الذي يؤدي إلى الاختلاط واللبس .
وفي عام 1969م كانت دعوة ( د.جميل صليبا) إلى إيجاد منهج نقدي متكامل، مصدّراً كتابه ( اتجاهات النقد الحديث في سورية )، حيث رأى ضرورة إيجاد منهج تكاملي يجمع بين المناهج المتفرقة لأنّ المناهج المفردة، التاريخي والاجتماعي والنفسي والجمالي والتأثري وغيرها تشكو من عيوب كثيرة وأنّ المنهج الملائم والمطلوب هو الذي يتمكن من الجمع بين هذه المناهج جميعها
ومع السبعينيات والثمانينيات، ظهرت دراسات كثيرة تناولت المنهج التكاملي أو اقتربت منه، منها دراسة صدرت عام 1972م لشوقي ضيف في كتابه ( البحث الأدبي)، إذ عبّر عن قناعته بضرورة ألاّ يكتفي الباحث أو الناقد بمنهج واحد أو بدراسة واحدة في عمله الأدبي أو النقدي، وأنّ عليه أن يستفيد من المناهج كلها كي تتضح له كل سمات العمل الأدبي وإيجابياته وسلبياته، يقول :
" إنّ الباحث الأدبي الحديث ينبغي أن يستضيء في عمله بكل المناهج والدراسات السابقة، إذ لا يكفي منهج واحد ولا دراسة واحدة لكي ينهض بعمله على الوجه الأكمل، بل لا بد أن يستعين بها جميعاً، فلا بدّ أن يتحوّل عقل الباحث إلى ما يشبه مرآة تعكس أضواء كل تلك المناهج "
وقد رأى شوقي ضيف أنّ ميدان النقد واسع ومفتوح للرؤى المتعدّدة ولا حواجز بين ميدان وآخر، وللناقد أن يستفيد من هذه الميادين كلها وذلك بمهارته وقدرته العقلية العالية، يقول : " اتساع ميادين النقد في عصرنا، وهي ميادين لا تتفاصل ولا تتقاطع ولا توجد بينها حواجز، إذ كثيراً ما تتداخل وكثيراً ما يحاول بعض النقاد أن يفيد منها جملة أو تفاريق حسب مهارته وقدرته العقلية وطبيعته الانفعالية التي تحسن فهم الآثار الأدبية والاستجابة لها فنية وعاطفية "
وسوم: العدد 715