قارب الموت والظمأ العظيم 16
تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (16) (فصل جديد)
(16)
"حين يكون الموتُ أهون من الولادة"
تحليل قصّة "النهاية"
(أنشأهُ اللهُ على عجلٍ من سبخ "الدغارة"
ورماهُ إلى وطنٍ من شمسٍ وكحول ومصائب
شادتهُ الأمّ القرويّةُ / سنةً ، سنة
ما إن صار بطول عصا الموسيقار
حتى صاحتْ : "رحْ .. واحلب ضرع الثور "
أبلى أخفاف "عفكٍ" سعياّ بين مناكبها
كان قليل البختِ كسقّاءٍ راح يبيعُ الماءَ
بحيّ السقّائين
صاح : كفى !
كيفّ أدلّ الناس على مُلْكٍ
لا يفنى
والبعضُ اتّخذوا كلماتي هُزُواً
وبعيري ما زال على التلِّ
ربِّ : كسروا عودّ غمامكَ
أمّي : خبطوا ماءكِ
- (كاف .. زاي .. ألف .. راء
لو أعطيناكَ الكوثر
أكفيناكَ المُستهزىء
هل تُصفحُ صفحاً حلواً
إليكَ الردُّ قصيراً :
كحياة المدعو "جبر" )
الشاعر العراقي الراحل
"كزار حنتوش"
قصيدة "القصةُ إيّاها" – الأعمال الشعريّة الكاملة
جاء اختيار القاص علي القاسمي لمفردة "النهاية" كعنوان للقصّة الأخيرة من قصص مجموعته هذه – هذا إذا اتفقنا معه على أن النصّ الختامي التالي "هل تداوي الكتابة الطفولة الجريحة ؟" هو "ما يُشبه القصّة" – مناسبا تماماً ليس لهذه القصّة حسب ، بل كختام للمجموعة كلّها ، أيضاً ، من ناحية تعاقب ثيماتها المتسق . فقد كانت النصوص السابقة كلّها إمّا أن تتحدّث عن موت "آخر" ، إنساناً مثل "البحث عن قبر الشاعر البياتي" و"الكومة" و"القارب" وغيرها ، أو حيواناً مثل "الكلب ليبر يموت" و"الحمامة" ، أو تتناول مواجهة "الأنا" للموت بصورة غير مباشرة طبعاً ، فالموت كما يؤكّد الوجوديون بنظرة ثاقبة، هو الشيء الوحيد الذي "لا يُجرّب" ، فأنتَ لا تستطيع شرح موتك للآخرين ، والجملة العصيّة الوحيدة في الكون هي "أنا متّ" أو "أنا ميّت" ، فحين تكون ميّتاً لن تكون "موجوداً" لتشرح التجربة ، وحين تكون موجوداً لا يمكن أن تشرح تجربة لم تجرّبها . لكن الإبداع – وهذا أعظم ما فيه – هو النشاط الإنساني الوحيد الذي نستطيع من خلاله "تجريب" الموت ، بل نستطيع العودة من الموت ، والتحرّك بين الناس ونحن "ميّتون" ! وفي الحياة الواقعيّة لا يمكن لإنسان أن يحدّد ساعة موته إلّا إذا خطّط للانتحار ، والانتحار ليس ضمن دائرة بحثنا هنا أوّلاً ، وحتى هنا لا تستطيع استخدام الزمن "الماضي" في وصف فعلك ، أي لا يمكن أن تقول : "قتلتُ نفسي" أو "انتحرتُ" بل "سوف أقتل نفسي" أو "سوف أنتحر" . ومع ذلك يستطيع الإبداع أن يمنحك فرصة لا تعوّض في أن تستخدم الزمن الماضي المستحيل في التعامل مع عمليّة موتك المستقبليّة عادة . وفي قصّة "النهاية" يحصل هذا الأمر الغريب ، وهو أن يقوم شخص بالتخطيط لموته بصورة إراديّة مدروسة مسيطراً على عاملي الزمان والمكان فيهما . ويمكننا القول إنّ دور الآلهة في الحياة يضمحل شيئاً فشيئاً بسبب جسارة العلم وفتوحاته ، وبعد ثورة "الاستنساخ الوراثي" - وكما قلتُ سابقاً - اضمحلَّ دورها المباشر في عمليّة الخلق ، وصار بإمكان النساء الاستغناء عن الرجال في عمليّة تخصيب البويضة وما يتبعها من عمليّتي حملٍ وولادة . لكن ظلّت الآلهة شديدة الحضور ، وبصورة مهولة ومُرعبة ، في عمليّة الموت وأخذ الأرواح . يجوز أنّ راوي هذه القصّة – وهي تُحكى بضمير المتكلّم – يريد التحرّش بثوابت هذا الاختصاص الأخير ، يسانده القاص طبعاً في مشروعه هذا الذي يبدأ بإعلان الراوي عن قراره النهائي في أن يموت !! :
(قررتُ مساء أمس أن أحدّد تاريخ وفاتي بنفسي ، وأشيّع نعشي بنفسي ، وأسوّي مراسم دفني بنفسي ، وأدبّج كلمات رثائي الزائفة بنفسي . فقد استجدّ عصر البارحة ما جعلني أعقد العزمَ على ذلك) (ص 303)
وستلاحظ الطبيعة المُتضادة بين زمنيّة فعل "القرار" وزمنيّة أفعال "التنفيذ" ، هذا التضاد الذي يكشف الإشكالية "الداخليّة " الصارخة للموت . فالقرار قد اتُخذ في الزمن "الماضي" ، أمّا التنفيذ فسيتم إرجاؤه – وهذا بحكم "طبيعته" – إلى الزمن "المستقبل . طبعاً هذا التضاد قائم حتى عندما "تقرّر" القيام بأيّ تصرّف بذاتك كأن تذهب إلى السوق فتقول : قررتُ أن أذهب إلى السوق بنفسي مثلاً ، ولكن حين يتعلّق الأمر بالموت ، فإنّ هناك شقّة "نفسيّة" شاسعة جدّاً بين الزمنين حتى لو قلتَ : قررتُ أن أموتَ بنفسي . وهذا المأزق التناقضي جعل الراوي يعلن عن قراره في تحديد تاريخ وفاته وتشييع نعشه ، وتسوية مراسم دفنه ، دون الإشارة الصريحة إلى "موته بنفسه" ، حيث يبدو أن يقينه غير راسخ في هذا المسار . وحين يقرّر أن يكون موته صاخباً صخباً لا يقلّ عن الصخب الذي رافق مجيئه إلى هذا العالم عند الولادة ، يصوغ خلاصة فكرته بصورة شبه فلسفيّة في الوقت الذي تتضمّن فيه بديهيات سائرة :
(فالموت ، في تقديري ، ليس بأهون من الولادة ، والنهاية ليست أدنى من البداية) (ص 303) .
فمن يستطيع القول إنّ الموت أهون من الميلاد ؟! ومن يستطيع أن يقرّر أن النهاية - إذا كانت رحيلاً أبديّاً - أدنى شأناً من البداية حين تكون ولادة وإقبالاً على الحياة ؟!
وفي استدعائه لذكرياته عن حادثة ولادته ، يتذكر أنّ صراخه قد فاق صيحات أمّه في أثناء طلقها ، واستمرّ بكاؤه ونحيبه بصوتٍ عالٍ مدّة أربعين يوماً ، بلياليها ونهاراتها ، وكأنّه في حداد على فراقه لفردوس الرحم الأمومي ونبذه إلى هذا العالم الجائر المُضطرب . وهذه هي صرختنا جميعاً عند الولادة ، صرخة الكائن العاري الذي تهجم عليه بلا مقدّمات كلّ المؤثرات المؤلمة لتنهش لحم وجوده الطريّ . ولا أعلم لماذا لا "يضحك" الوليد الجديد مادام بلا "وعي" شقي يبلّغه بالعذابات التي سوف يواجهها ؟! لقد كانت صرخة الولادة الاحتجاجية لدى الراوي تفوق صرختنا نوعاً وكمّاً ، وكأنّه قد "عرف" و "عاش" موتاً أوّل في أحشاء عمليّة ولادته . ومن جديد فإنّ هذا الوعي الشقيّ قد اكتسبه الراوي لاحقاً عبر تجاربه الحياتية الطويلة التي جاءت مناقضة – كما يقول – في طبيعة إيقاعها وحيويّتها وصخب متغيّراتها السلوكيّة لما قام به من زعيق احتجاجي . فقد جاءت حياته – خصوصاً بعد تقاعده قبل عشر سنوات – ساكنة خاملة ، أمضاها في شقّة صغيرة حقيرة واقعة عند مدخل عمارة قديمة ، رطبة ، قذرة . وقد عاش في عُزلة تامّة عن الناس ، لم يتعرّف على أحد ، ولم يتعرّف عليه أيّ شخص ، ولم يسمع له الجيران صوتاً ولو لمرّة واحدة (ص 303) .
ويحاول الراوي أن يرسم في أذهاننا صورة أنّ هذه العُزلة الشديدة والانسحاب الصارخ من الحياة الاجتماعيّة هو نتاج "قرار" إرادي يخطّط فيه أن يكون وقت خروجه – مثلاً – لا يتزامن مع غدوّهم إلى أعمالهم في الصباح ، أو في عودتهم إلى منازلهم في المساء ، فلا يلتقون به ولا يلتقي بهم . وهو لا يخرج للتمشّي في الشوارع ، ولا يرتاد المقاهي (ص 304) . إنّه لا يبوح لأيّ شخص بما يعتمل في داخله ، ولا يتحدّث مع الجيران في أمرٍ من أموره (ص 303) .
وقد يشعر السيّد القارىء أنّ صاحبنا الراوي في حساسيته العالية والمُفرطة من الآخرين يبدو كأنّه يعتبر الآخرين جحيماً على غرار ما أعلنه سارتر الأعور في "الوجود والعدم" ، والذي كانت طفولته العصابيّة قد تحكّمت بنظرياته الراشدة إلى الحياة والكون والبشر ، عن أنّ "الأنا" لا يتعامل مع الآخر إلّا كموضوع ، كـ "شيء" ، مفرّغ من معانيه الإنسانية ، وأنّ الأنا يفقد تلقائيّته وينشلّ بوجود آخر ينظر إليه أو يراقبه ، فيحوّله إلى موضوع ، وأنّ "الأنا" ، بدوره ، ينظر إلى الآخر كشيء فيشلّه ويحجّره ويحوّله إلى موضوع ، في حين "أن نظرة الغير – كما يردّ "ميرلو بونتي" على سارتر - لا تحوّلني إلى موضوع ، كما لا تحوّله نظرتي إلى موضوع ، إلا إذا انسحب كل منّا وقبع داخل طبيعته المفكّرة ، وجَعَلْنا نظرةَ بعضنا إلى البعض الآخر نظرةً غير إنسانية" ؛ فمعرفة الغير تقتضي مني التعاطف معه ، أعتبره مثل ذاتي ، يحسّ ويفكر ويتصرف تماما كما أفعل أنا في ظروف مماثلة . لكن صاحبنا قد جعل الآخرين جحيماً في مستوى أعلى ومنظور آخر ، فهو ينظر إليهم مثل كائنات "أرضيّة" فقدت روحها الإنسانية المُتعاطفة ، إنّهم يحيون في "جحيم" أرضي لا يلقون فيه الهناءة والراحة أبداً . لقد صاروا "جحيماً" يحرق أواصر العلاقات البشرية الضرورية التي تفرضها الحياة الاجتماعية . وفي هذا الجحيم يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ،. حتى وُجُوههم عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (50) . وهذا – بدقّة – هو الحال الذي يراهم الراوي عليه :
(وجوه الناس قد اغتسلت بنهر العبوس والكدر ، وعيونهم تطلُّ منها التعاسة بلا استحياء ، ولا أثر لبسمةٍ على شفاههم اليابسة المُطبقة . ويسرعون في سيرهم بطريقة تثير أعصابي ، كأنّ ريحاً عاصفةً تدفعهم من خلف ، أو وحشاً مفترساً يطاردهم . وهم لا يتبادلون الكلام فيما بينهم . كلٌّ يهرول بمفرده في وديان الصمت ، وهو ينوء تحت حملٍ ثقيلٍ من الهمّ والقلق .) (ص 304) .
لكنّهم - في الحقيقة – الناس المُذَلّون المهانون – حسب تعبير دستويفسكي الموفّق – في أوطاننا ، الناس الذين لا يعلمون من أين يفرّون وإلى أين يفزعون . إنّه القطيع .. لكنّه – في عينيّ الراوي – القطيع المفزوع .. وجوهٌ كالحة من الرعب ، شفاه مشقّقة من العطش ، أحشاء تمزّقها تقلّصات الجوع ، كرامة مهدورة ، ووجود مُضيّع ، والكل يركضون ، ولا بُدّ من وجود "وحشٍ ما" . ولهذا هم يحمدون الله لأنّه لم يبتلعهم حتى الآن .
ولكن هذه النقمة الجامحة الممزوجة ببرودة الفرجة ، هي مظهر سطحي زائف ، لأنّ الراوي سرعان ما يغالط كل ذلك ويطيح به ، ويعود إلى "نوعه" كـ "حيوان اجتماعي" لا يمكن أن يحيا إلّا وسط هذا "القطيع" ، فيُعلن عن انجراحه من هذه العزلة المُوحشة المُميتة :
(تنوح وحدتي في اعماقي دون أن يسمعها أحد ، وتئنّ جراحي بين ضلوعي من غير أن يدري بها مخلوق) (ص 303) .
إنّ الإنسان ، أيّ إنسان ؛ الراوي أو غيره ، يتحرّق وهو في عزلته الثلجيّة إلى جحيم الآخرين ليكتوي به . فالثابت هو "أنّ ليس في استطاعة الإنسان أن يحبس نفسه في قمقم ، فإن قطب "الأنا" لا يستطيع أن يعيش إلّا في علاقته بقطب "الغير" . حقّاً إنّ المرء يولد بمفرده ؛ ويموت بمفرده ، ولكنّه لا يحيا إلّا مع الآخرين وبالآخرين وللآخرين . وإذا كان قد وقع في ظنّ البعض أن الشعور الفردي إنما هو ذلك الوعي الخاص الذي نستشعر معه أنّنا موجودون وحدنا دون الآخرين ، فإنّ هيدجر يقرّر أنّ "الوجود بدون الآخرين" هو نفسه صورة من صور "الوجود مع الآخرين" ؛ بمعنى أنّ الشعور الفردي لا ينطوي على أيّ انفصال مُطلق عن عالم "الغير" الذي هو من مقوّمات الوجود الإنساني بصفة عامّة . وكما أنّه ليس ثمة "ذات" بدون "العالم" ، فإنّه ليس ثمة "ذات" بدون "الغير" . وسواءً أكان "الغير" هو "الخصم" الذي اصطرع معه وأتمرّد عليه وأسخر منه ، أم كان هو "الصديق" الذي أتعاطف معه وأنجذب نحوه وأبادله حبّاً بحبّ ، فإنّني في كلتا الحالتين لا أستطيع أن أعيش بدونه ، ولا أملك سوى أن أحدّد وجودي بإزائه . وسواءً أقلنا مع سارتر "إن الجحيم هو الآخرون" أم قلنا مع جيته "إنّه ليس ثمّة عقاب أقسى على المرء من أن يعيش في الجنّة بمفرده" ، فإنّ من المؤكّد أنّ "الوجود بدون الآخرين" – إن أمكن تحقّقه – إنّما هو ضربٌ من المرض العقلي أو الانتحار الميتافيزيقي" (51) .
ولهذا لم يستطع الراوي – أمام هذه الحقيقة الصارخة المُعبّرة عن حاجة لا تُردّ – أن يقمع أحاسيسه الفعليّة الدفينة اللائبة في المعاناة من الوحدة والحاجة إلى "الغير" التي تستعر في الداخل ، وتُناقِض النقمة العارمة على "الغير" في الخارج . ولا بُدّ أن ينشغل الإنسان بالغير حتى وهو ينسحب منهم ، سواءً أكان على المستوى النفسي بالانسحاب إلى ظلمة ذاته ، أم على المستوى العملي إلى وحشة مسكنه . فالراوي يقتل وقته في عزلته في مشاهدة التلفزيون ، ومطالعة الصحف ، وهي أنشطة تتعامل مع "الغير" ومحورها "الآخرون" ، على الرغم من أنّه يحاول تسفيه هذه الانشطة بالقول بأنّ الصحف التي يطالعها يلتقطها بعد أن يرمي بها أصحابها ، وأنّه يستخدم سمّاعات الأذنين عندما يُشاهد التلفاز ، فلا يتناهى أيّ صوتٍ إلى أيّ إنسان غيره ، حتى لو كان في الغرفة نفسها (ص 304) . يخترقنا صوت "الآخر" حتى لو كنّا في غرف محصّنة . والراوي ليس استثناءً من ذلك . ومع كلّ خبر يشاهده أو يسمعه أو يقرأه الراوي فهو يؤسّس علاقة مُضافة مع الآخرين الذين يهرب منهم . لكنّه مُحٌّقٌ في جانب كبير من تلك النظرة السلبيّة المشوبة بالمرارة والحَنَق التي يعلنها أمامنا . فموضوع الأخبار واحد برغم اختلاف زمانها ومكانها وهو :
(الأقوياء من البشر يأكلون الضغفاء ، كما تأكل الضباع المتوحّشة صغار الحيوانات في الغاب . والأغنياء يزدادون غنىً ورفاهاً ، أمّأ الفقراء فيُمعنون في فقرهم وتعاستهم) (ص 304) .
كما أنّه محقُ تماماً حين يتحدّث عن هذا الحصار الذي يمحق انتباهته ويشتتّها من خلال الإعلانات التي تقطع كل ما يُعرض على شاشة التلفاز لتُذكّر الإنسان بـ "أرضيّته" ، وبأنّ لديه غرائز عليه أن يُشبعها ، وأن لا ينساها حتى لو كانت الناس تُحرق وتُقتّل بالمئات أمام عينيه على شاشة التلفاز :
(ولا أستطيع متابعة ما يُعرض على شاشة التلفزيون بصورة مفهومة ، أو أستمتع به كما أروم . فإعلانات بيع مساحيق الغسيل ومواد التنظيف ، تقاطع البرامج بين وهلة وأخرى ، كأنّها تذكّرنا دائماً بوساخة هذا العالم الذي نعيش في قذارته) (ص 304).
وباستخدام الراوي ضمير المتكلّم الجمع من خلال الفعلين : تُذكّرنا و نَعيش ، يكون قد اقترب كثيراً – من حيث لا يدري أحياناً – من الحالة الصحيحة المتمثلة بالالتحام بين الأنا والآخر ، بين الذات والجماعة ، في هذا الجحيم الذي يحدونا فيه الوحش بهراوته الغليظة ، يطاردنا ولا يوفّر أحداً .
ولكن الراوي سرعان ما يعود إلى موقع ذاته الحصين نفسيّاً وعمليّاً . نفسيّا على المستويين : الخارجي والداخلي . فالعالم الذي يحيط به عالم خاوٍ راكد ثقيل الحركة وخامد الإيقاع . لا جديد تحت الشمس ، ولا فوق الأرض . كل يوم نسخة مكرّرة باهتة من اليوم الذي سبقه . لا جديد في حياته أبداً . يتناول نفس الوجبات التي لا تتطلب طهياً . الشقّة ضيّقة حقيرة وأثاثها بالي ، وسريرها بالوسادة الوحيدة الخالية المتّسخة هو هو . الصور المعلّقة بالجدران هي صور للعدم الذي لا صورة له ، فقد رحل أصحابها ولفّتهم قبضة العدم . أمّا على المستوى الداخلي ، ذاته ، وعلاقته بها وكيف ينظر إليها ، فهي لا تراوح حسب ، بل تتدهور وتنحطّ أيضاً . وإذا كان الجسد صورة الروح فإن جسده أصبح يتخشّب ويفقد مرونته ، صار مثل جذع شجرة مُعمّرة هوت بها ريحٌ عاصفة وانفصلت عن جذورها . صار يحسّ تدهوراً في قواه الجسديّة (ص 305) . أمّا قواه النفسيّة فقد أصبحت تتآكل بصورة تنذر بالشرور . فقد ضعفت ذاكرته ، ولم يعُد يتذكّر ما فعله قبل يوم أو يومين ، بسبب السأم وفقدان الرغبة في الاشياء والموجودات والأفعال من جانب ، وبسبب ضمور وتعرية مخزون الذكريات مع التقدّم في العمر من جانب آخر ، حيث أخذت ذكرياته تختفي شيئاً فشيئاً . والأخطر من ذلك هو تناقص رصيده اللغوي في حساب الذاكرة بشكل مُخيف لأنّه قلّما يستعملها ، فمع مَن يتحدّث ؟! اللغة أداة اجتماعية تُصقَل بالإستعمال والتدريب ، وهو معزول صامت لا يتحدّث حتى مع نفسه إلّا ليشعر بأنّه (مازال على قيد الألم) كما يقول . لقد استولى عليه التشاؤم الكامل ، ووقع في هاوية الاكتئاب الخانقة ، اكتئابٌ محكومٌ ، بالتأكيد ، بالتوقع السلبي له وللعالم :
(ستتمزّق أشرعتي عند هبوب أوّل ريح ، وستغرق سفينتي لا محالة) (ص 305) .
يستعيد سيرته الماضية فلا يجد سوى الخراب والخسران . لم يتزوّج لأنّه لم يردْ أن يكون مسؤولاً عن شقاء امرأة أو عذاب طفل في هذه الدنيا . عاش يتيماً في كنف أمّه بعد أن مات أبوه في أثناء حمل أمّه به ، ثم ماتت أمّه ، فتكفّل الجيران بدفنها ، وأُرسل إلى مدرسة للأيتام . أمضى في حياته الوظيفية أربعين عاماً في غرفة شبه مظلمة في قبو شركة استخدمته قبل أن يُنهي دراسته الثانويّة ؛ في عمل رتيب مكرّر يعتمد على الاستخدام المُعاد باشمئزاز للأرقام التي يضعها على الخطابات (ص 306) .
ولو راجعنا التعابير التي استخدمها لوصف قسوة معاناته وثقل همّه من خلال ماضٍ كلّ ما فيه يثير الخيبة والإحباط في النفس ، وحاضر أكثر إحباطاً ، ومستقبلٍ معتم بعيد لا رجاء فيه ، لوجدنا أنّه يستعمل المفردات المُعبّرة عن الاكتئاب والاحتقان الشديد من ناحية ، والأوصاف القاسية التي تحطّ من قدر الذات والموجودات من ناحية ثانية ، والعبارات العنيفة التي تعكس عمق نقمته على ذاته وعلى كلّ شيء في عالمه من ناحية ثالثة . فالعويل والنحيب والوحدة والعبوس والكدر والتعاسة والهمّ والقلق والألم والعدم واليّتم والشقاء وغيرها هي الكلمات التي يستعملها لرسم صورة للموقف المُشمئز والساخط الذي يجتاحه وقد نفض يديه من تراب كلّ شيء يحيط به . وهناك الزيف والحقارة والقذارة والوساخة والانحطاط والبلى وغيرها من مفردات تقفز إلى ذهنه حين يبغي توصيل حاله وحال الموجودات في حياته الراكدة المُتعفّنة . أمّا النقمة الساحقة الشاملة التي لا تستثني شيئاً في طريقها ، فتتمظهر في التشبيهات والتعبيرات المُتخمة بالعنف والعدوان التي يُشكّل منها جُمَلاً يتفجّر منها السخط المكتوم ، فهو يريد أن يكون موته ذا دوي كدوّي طلقة بندقيّة صيد .. وحدته تنوح وجراحه تئن .. الناس تُسرع كأنّ وحشاً مفترساً يطاردها .. الشقّة صامتة صمت المقابر .. مساحيق الغسيل تذكّرنا بوساخة هذا العالم الذي نعيش في قذارته .. وعمره مثل جذع شجرة مُعمّرة هوتْ بها ريح عاصفة .. والبشر يأكل بعضهم بعضاً كما تأكل الضباع المتوحّشة صغار الحيوانات في الغاب .. وغيرها ، ناهيك عن أنّك حين تتأمّل طبيعة "اكتئابه" ، لا تجد ملامح الحزن "الحقيقي" العميق ، والجليل ، والذي نحمل له رهبة خاصّة عادة ، بل شيئاً أقرب إلى الاشمئزاز الناقم والغثيان الكاسح اللذين يعمّان كلّ جوانب الحياة والعالم الذي يعيش فيه . إنّه حال الإنسان حين يحيا في بركة من الزمان اللزج الذي يسحبه بقوّة إلى الأسفل ، وعبثاً يحاول الخلاص من اذرعه الأخطبوطية . إنّه كره الآخرين والعالم المترتّب على كُره الإنسان لنفسه . هنا تسمع نوعاً من نبرة المازوخيّة المُتشفّية التي يشي بها كلّ شيء : المفردات والعبارات والمواقف والتقييمات والعلاقات والذكريات ، حتى في الموقف من موته الذي "يهدّدنا" به بين وقفة وأخرى :
(قررتُ أن أتولّى دفن نفسي بنفسي ، ولا أترك الأمر لأحدٍ غيري ، فما حكّ جلدك مثل ظفرك ، كما يقول المثل القديم ، فكيف والمسألة هنا لا تتعلّق بمجرّد جلدٍ وإنّما بجثمان كامل ؟ سأتصل بعد قليل بشركة دفن الموتى ، وأتفق معهم على التفاصيل جميعها . سأختار المُرتّلين بنفسي ، وأحدّد لهم مواضع جلوسهم حول الجثمان في هذه الشقّة الحقيرة بنفسي (...) سأختار حتى الكفن .. سأتحرّر من لون الكفن الأبيض التقليدي .. سأختار اللون الوردي لكفني ، واللون الأخضر الفاتح للتابوت . سأنتقم من اللونين الأبيض والأسود ، ففي كلّ يوم كنتُ ألبس في عملي قميصاً أبيض وبذلة سوداء) (ص 306) .
وكملاحظة اعتراضية مُهمّة جدّاً ألفت انتباهة القارىء الكريم إلى أنّ الراوي قد قدّم لنا مراجعة طويلة جداً ، من ولادته حتى لحظته الراهنة بعد عشر سنوات من تقاعده ، وعرض علينا سيرته الشخصيّة ، وطبيعة عمله ، ونمط علاقاته ، ومواقفه من الحياة والمجتمع والآخرين .. وانفعالاته ومشاعره .. خيباته وإحباطاته .. كلّ هذا "الزمن الواقعي" الطويل المحسوب بعقودٍ من السنوات الطويلة الثقيلة المزحومة بالحوادث الجسام المتشابكة ، ضُغط في ثلاث صفحات من "الزمن السردي" نقرأها في دقائق معدودات . هذا الزمان الطويل الثقيل الذي يقرض أعمارنا بصمت مخيف يتحوّل إلى حروف وكلمات تمر بسرعة وخفّة مُحبّبة . وهذا هو جوهر الفعل الخلودي للخط الدفاعي الإبداعي بوجه الموت والفناء ؛ تخليص الزمان من قبضة العدم .
والآن ، يثور السؤال المؤجّل الذي قام الراوي بتعطيله ، وهو يحكي لنا تفاصيل حياته الخاوية على امتداد الصفحات السابقة : ما الذي استجدّ عصر البارحة – كما يقول – وجعله يعقد العزم على أن يدفن نفسه بنفسه ؟ لقد أمضى عمراً كاملاً في حياة ملؤها الضجر والسأم والغثيان ، مثلما مرّت عليه عشر سنوات منذ أن تقاعد وانتقل إلى حياة أكثر ركوداً وخمولاً ، فلماذا لم يتخذ قراره بدفن نفسه بنفسه إلّا عصر أمس ؟
لقد انقدحت هذه الفكرة في ذهنه مثل وميض البرق في ليلة كالحة الظلمة ، بعدما طرقتْ بابه حارسة العمارة المجاورة لتخبره بأنّ جاره ؛ السيّد محمّد الصرّاح ، قد لفظ أنفاسه الليلة السابقة ، وأنّها اكتشفت الأمر بمحض المصادفة . وقد جاءت إليه لأنه الوحيد الذي يعرفه ، ولا بُدّ من دفنه . كان المتوفّى مجرّد زميلٍ له في العمل ، ولم يأتِ إليه سوى مرّة واحدة حيث جاء ليقترض بعض النقود ، ولمّا لم يستطع تسديد الدّين ، ما عاد إليه أبداً .
وقد تطوّع الراوي بدفنه ، بدافعٍ من بقيّة نخوةٍ ، أو خجلٍ من حارسة العمارة ، كما يقول . لكن من المؤكّد أنّ هناك عوامل مستترة مُضافة إلى موقفه الإنساني الذي يمثّل عودته المُباركة إلى "جحيم" الآخرين .
كان المُتوفّى مقطوعاً من شجرة كما يُقال ، بلا زوجة ولا أبناء ، ولا معارف ولا أصدقاء . وقد أُحيل ، قبل الراوي ، إلى "الموت قاعداً" ، كما يتندّر المتقاعدون عندنا على حالهم .
كم هي الأمور المشتركة بين حال الزميل المتوفّى وحال الراوي ؟
لكن هل هذه المُشتركات هي التي قدحت فكرة دفن نفسه بنفسه في ذهنه ؟
ماتَ الزميل في شقّته وحيداً ، واكتشفت حارسة العمارة موته مصادفةً . وهذا أمرٌ من الممكن جدّاً أن يحصل لصاحبنا الراوي الذي يعيش وحيداً في شقتّه منذ عقود ، بلا زوجة ولا أبناء ، ولا معارف ولا أصدقاء . لم يتعرّف عليه سكّان العمارة ، ولم يتعرّف عليهم .
لكن المُشترك الأكبر هو ما دار في ذهن الراوي عن المُستقبل الذي كان يتصوّره بعيداً . فما دام "الآخر" يموت فهذا معناه أنني من الممكن ، بل من المُحتّم ، أن أموت . صحيح أنّ الآخر يحتلف عنّا في كثير من الأمور ، لكنّنا نشترك معه في الكثير من الأمور أيضاً ، وفي مقدّمتها أنّنا نفنى حتماً . وحين يفنى الآخر ، فإنّه يُرسل رسالة مباشرة إلينا بأن نستعد ونتهيّأ للرحيل ، خصوصاً عندما يُؤخذ الآخر على حين غرّة من قِبَل أخّاذ الأرواح . وإذا كان قد سُفِّر وهو غير "مُستعِد" للرحلة ، فإنّ بإمكاننا أن نستعد ونغتنم الفرصة لذلك .
لكن ليس هذا كلّ شيء .
لقد كان الراوي هو المشيّع الوحيد في جنازة زميل العمل هذا ، فقد رافقته حارسة العمارة حتى باب العمارة فقط . وقد يكون لها عذرها بسبب طبيعة عملها ، لكن ما هو عذر "الآخرين" ؟ :
(بقيّة السكّان في شُغلٍ شاغل . لا وقت لديهم لإضاعته في تشييع جارٍ لا يعرفونه . لقد فقدوا حتى حبّ الإستطلاع ، فلم يُطلّوا من الشبابيك ، على الرغم من أنّني كنتُ أرفعُ صوتي الأجش : "الله أكبر . لا إله إلّا الله..." وأنا أُخرجُ قطعة الخشب التي سمّيتها تابوتاً من العمارة ، يعاونني على حملها سائق عربة النقل ، وكأنّه ينقل قطعة أثاث قديمة) ( ص 307) .
ثم بدأت حلقات مسلسل المفارقات المُخيفة تترى في رحلة دفن الزميل الراحل :
# سائق العربة التي حملت التابوت إلى المقبرة ، كان يدندن طوال الطريق بأغنية عاطفيّة شعبيّة لا علاقة لها بالموت ولا بالحياة ، تعبيراً عن تبلّد مشاعره ولا اكتراثه ، تبلّدٌ أنتجته العادة والتكرار من ناحية ، وعدم عناية "الآخرين" عندنا بدفن موتاهم من ناحية أخرى . ألا توجد جهة رسميّة تتكفّل بدفن الإنسان الوحيد ؟ تمتصّ الدولة رحيق الإنسان عندنا ثمّ ترميه كما ترمي قطع الأثاث العتيق في المزابل . وحين يشعر الإنسان ، مثل هذا السائق المُذلّ المُهان ، بأنّه ميّتٌ في الحياة ، بوجه كالح مُصفرّ ، وجسد ممصوص ، هل يمكن أن يحترم الموتى الفعليين ؟
# لم يقرأ الراوي في الطريق سوراً من القرآن على روح الراحل ، لأنّه لم يحفظ شيئاً يُذكر من القرآن ، وما حفظه في المدرسة نَسِيَه منذ زمنٍ طويل . كما لا يحتفظ بنسخة من القرآن في شقّته . (لم يكن لي مورد كافٍ لأبدّده في شراء كتبٍ لا أقرأها) (ص 307) .
# كانت المقبرة مُجدبة عارية من أيّ نبات ، خارج المدينة ، حالها حال كلّ مقابرنا في هذه البلاد ، وكأننا نبغي فقط نفي الميّت والخلاص منه ، في حين أنّ جعل المقبرة واحة صغيرة خضراء يعكس التعبير الرمزي عن العودة إلى الرحم الأم . والمقابر – نفسيّاً – يُعتنى بها من أجل الأحياء لا الأموات حالها حال المآتم ومجالس العزاء وطقوس التشييع والدفن وغيرها مما يرتبط بميّت انتهى دوره وزال وجوده من الحياة ، فما الغاية من الاهتمام به ؟!
# كان حفّار القبور صامتاً كئيباً ، ويمكن تبرير هذا بسبب طبيعة عمله ، فهو في شغله يتعامل مع صخور وأحجار وأموات ، ولكن ما لا يّبرّر ، هو أن يحفر جدثاً ضيّقاً وغير عميق ، لأنّ الأجر الذي دفعه إليه الراوي وقبضه قبل أن يبدأ العمل لم يعجبه ! :
(انصرفَ دون أن يُلقي بالاً لملاحظاتي عن عمق القبر ، وعلامات السخط بادية على وجهه ، وهو يتمتم بكلمات لم اسمعها . لا شكّ في أنّها لعناتٌ صبّها عليّ وعلى الميّت معاً . انتابتني نوبةٌ من الشهامة ، فقمتُ باستكمال العمل بنفسي ، فأهلتُ التُراب على القبر ، فقد خِفتُ أن تأتي الكلاب ليلاً ، وتنهش الجثّة شبه العارية) (ص 307) .
# ولكنّ الراوي وبعد أن أكمل عمل حفّار القبور الناقص ، تساءل ، والعرق يتفصّد من جبهته وجسده : "وهل يضيرُ الشاةَ سلخُها بعد موتِها ؟" (ص 307) ، معبّراً عن استهانة صارخة بحياة ما بعد الموت . لقد أنطفأت إشراقة ذلك الإحساس القديم بحياة أخرى بعد الفناء ، ذلك الإحساس الذي كان يوفّر امتداداً خلوديّاً مُهمّاً يداري قسطاً كبيراً من انجراحات النفس البشريّة الهشّة .
لقد تأكّد الراوي بعد عودته من رحلة دفن زميله أنّ الموت قد فقد مهابته في حياتنا إلى الأبد . وابتذال الموت في حياة أيّ شعب هو الطريق المستقيم نحو الكارثة ؛ الكارثة التي تُصبح فيها الحياة موتاً مؤجّلاً واستمراراً للموت ، وليست نقيضاً له . إنّ مئات الألوف من العوائل في بلداننا يسكنون الآن بين القبور في المقابر ، وفي البنية النفسيّة لن يختلف هؤلاء أبداً عن حفّار القبور الذي كان يعمل كئيباً وصامتاً ، وحفر جدثاً سطحيّاً وضيّقاً ، وصبّ لعناته على الميّت ، ثمّ رحل . لكن هناك ملايين الملايين من أناسنا يعيشون في أماكن قذرة موحشة يرين عليها صمتٌ كصمت المقابر مثل شقّة صاحبنا الراوي ؛ أناس مستوحدون منعزلون منبوذون . والعزلة توصل إلى الاستيحاش ، ليس بمعنى الإحساس بالوحشة ، ولكن بمعنى التوحّش ، أي أن يُصبح الإنسان كالوحش طبعاً وتصرّفاً . وحين يُصبح الإنسان وحشاً ، يصير يسيراً عليه أن يصفّر ويغنّي الأغاني العاطفية التي لا علاقة لها بالموت ولا بالحياة وهو يقف عند رأس الميّت أو حين يُنزله في القبر ، الذي كان وقوفنا عنده ، يثير في نفوسنا الرهبة والخشوع وتذكّر الآخرة والخشية من الخالق .
وخلاصة القول هي أنّ الراوي حين عاد إلى شقّته من رحلة الدفن المُخيّبة تلك ، عاد خائر القوى مُكتئباً ، وفي تلك اللحظة انقدحت في ذهنه فكرة أن يتولّى دفن نفسه بنفسه ، وقرّ قراره عليها . لماذا ؟ لأنه – في الواقع – قد شاهد بأمّ عينه كيف سوف يتمّ دفنه هو نفسه حين يموت بكامل المهانة والإهمال والاستخفاف ، لأنّ مَن دفنه لم يكن زميل عمله المتوفّى بل هو نفسه .. دفن ذاته ورجع إلى شقّته :
(في تلك اللحظة ، قررتُ أن أتولّى ترتيب دفني بنفسي . فقد ادّخرتُ مالاً يكفي لجنازة تليق بي . فإذا كنتُ لم استطع أن أحيا حياةً لائقة ، فلأمتْ ميتةً لائقة ، على الأقل ) (ص 308) .
ولهذا اتّصل بشركة مُحترمة لدفن الموتى المُحترمين كما يقول ، والتقى ممثلها وتفاهم معه حول جميع التفاصيل : أجرة النقل ، وعدد المُرتًلين ومكافآتهم ، والآيات القرآنية التي سيرتّلها المرتًلون على نعشه ، قبل نقله من الشقّة ، وكذلك بعد إنزاله في الجدث . لقد اختار آياتٍ مليئة بكلمات الجنّة ، والنعيم ، والعيون ، وحور العين ، والفاكهة ، وأنهار الخمر والعسل . وهذه هي صورة الفردوس المكتفي المنعّم الآمن الذي تُشتق صورته من الرحم الأمومي الحامي ، هذا الرحم الذي حُرم منه مبكّراً في طفولته . ويبدو أنّ اختياره لتلك الآيات جاء لبناء حياة أخرويّة تعوّضه عن الحرمانات الجسيمة والبؤس الهائل الذي عانى منه طوال حياته الماضية . وعندما سأله ممثل الشركة عن تاريخ الميلاد والوفاة التي يجب كتابته على شاهد القبر ، تذكّر تلك الحكاية عن المدينة التي لا يسجّل أهلها على قبورهم إلّا عدد الأيام السعيدة التي عاشوها ، وطلب من ممثل الشركة أن يكتبوا على شاهد القبر : "هذا قبر جبر ، من رحم أمّه إلى القبر" (ص 308) . ولا أعلم لماذا "يستحرم" بعض الكتّاب من ذكر المثل العراقي العامّي الأصلي الذي يقول : "هذا قبر جبر .. من (؟؟) أمّه للقبر" ، والقرآن الكريم كتاب الله العظيم يتحدّث عن الفروج ؟! . يجوز أنّ القاسمي ينطلق ممّا وصفه في إحدى مقابلاته بأنّه "يلج غرف النوم وهو يحمل شمعة خافتة الضوء ، وليس ضوءاً كاشفاً فاضحاً" (52) ، أو يجوز أنه نبذ هذا التعبير لأنّه من العامّية ، خصوصاً أنّه أعلن أيضاً أنّه ممّن لا يقرّون استعمال اللغة العامّية في النصوص الأدبيّة أو المواد الإعلامية بشكل عام" (53) ، وهذه اللفظة مولّدة ، وهي تركيّة أصلاً حيث يُقال للبنت أو الفتاة باللغة التركيّة "كز – Kiz" ويبدو أنّها انتشرت هكذا ، واصبحت تُطلق – عند العرب – على عضو المرأة في العامّية . هذه المفردة توضح لك مقدار النقمة الهادرة التي تمور في نفوس البشر المُذلّين المُهانين عندنا ، والتي لم يحسب لها أحد من الجهات المرجعيّة السياسية والاجتماعية والعلميّة النفسيّة حساباً ، فتفجّرت في صورة عاصفة مُرعبة سمّاها البعض "الربيع العربي" ، وما هي إلّا "خريف عربي دموي" بحث فيه الناس عن الموت بطريقة راوي علي القاسمي ، ولكن عبر مداورة أخرى أعنف وأكثر تدميراً تمثّلت في حرق بعض الشباب العربي الجسور لنفسه بالنار التي يهدّدهم بها الطغاة . تُرى ألمْ يكن بإمكان الحكّام العرب أن يتّعظوا لو أنّهم قرأوا نتاجات المُبدعين "الكلاسيكيين" مثل علي القاسمي الصادق في التحامه بواقع أمّته ، والأمين على التعبير عن همومها بعيداً عن ألعاب الحداثة الغربيّة المُضلّلة وما بعدها ، التي صار همّها الوثائق المذهبيّة المطمورة (وخطورته تعني تذابح أبناء الأمّ الواحدة بدعوى الولاء للآباء) ، والجنس المُحرّم (وخطورته تعني تلويث الأمومة المقدّسة) ، وذمّ الأوطان وهجرها (وخطورته يعني فكّ عُرى الإرتباط بالأمومة) ؟! تُرى ما الذي سيتوقّعه محلّل سياسي من مجتمع يتمنى فيه الإنسان الموت اليوم قبل الغد كما هو حال راوي قصّة القاسمي ؟
وهذه "الكلاسيكيّة" التي حاول أحد النقّاد أن يذمّها ، وهي بالنسبة إليّ "واقعيّة مُحدثة" ، لا تتأخّر في توظيف الأساليب الحداثوية في السرد ، كـ "الغرائبية – Exotism or exoticism " مثلاً ، وتحديداً في هذه القصّة ؛ الغرائبيّة التي أشعلتها في الأدب الغربي سيّدة الحكايات : ألف ليلة وليلة ، وليس كما يحاول البعض ربطها بالمرحلة الغربيّة الكولونيالية وظاهرتها الإستشراقيّة . وأعتقد أنّ وصف "الإغرابيّة" قد يكون أكثر دقّة في التعبير عن جهد القاسمي هنا حيث الإنطلاق من الواقع نحو تخييلات مُدهشة لا تتفّق مع المعايير الواقعيّة ، ينسحر القارىء ويُفتن بطبيعتها اللامألوفة المحلّقة الخارجة عن السياقات الطبيعية ، مع بقاء قدمي البناء التخييلي ملتصقة بأرض الواقع . وكثيرا ما ينطوي هذا الفعل الغرائبي على روح المفارقة الساخرة التي قد تدخل في إطار السخرية السوداء . فشيءٌ معروفٌ ، بل و "واقعي" أن يقرّر إنسان ما أن يموت في ساعة معيّنة ومكان محدّد ، لكن "الغريب" وغير المألوف أن يعرف الإنسان ساعة موته بالضبط ، ويثق بهذا التوقيت ، ويوقّع عقداً مع ممثل لشركة الدفن على دفنه في الموعد المُحدّد الذي سوف يموت فيه وفي المكان الذي يرتئيه .. ثم يسلّمه مفتاح الشقّة لينفّذ العقد في الموعد المُحدّد من صباح اليوم التالي :
(وقّعنا – نحن الإثنين [= الراوي وممثل شركة الدفن] على العقد ، فأصبح تامّاً نافذاً ، وسلّمتُهُ المبلغ المتّفق عليه نقداً لقاء إيصال ، وانتهى كلّ شيء .
قال لي ممثل الشركة :
"-في الحقيقة لم ينتهِ كلّ شيء تماماً . إنّ العقد ينقصه شيءٌ واحدٌ فقط ، هو تاريخ النفاذ.."
وتطلّع إليّ مستفسراً . نظرتُ في عينيه ، وابتسامة ساخرة تحاصر شفتي ، وقلتُ له بلا تردّد :
- "هذا أمرٌ في غاية البساطة . غداً صباحاً . يوم غد . فهو يوم آخر كبقيّة الأيّام . لا فرق . ولنقلْ الساعة الثامنة صباحاً . ساعةَ بدء العمل لديكم .
- "والمكان ؟"
- "هنا في هذه الشقّة . وعلى هذا السرير بالضبط "
وسلّمتُهُ مفتاح الشقّة ) (ص 308 و309) .
وهذه هي الغرائبيّة أو الإغرابية المُنضبطة المؤثّرة التي تعيدني إلى تعليق قاله الروائي العربي الكبير "إلياس خوري" في مناقشات مؤتمر الروائيين العرب والفرنسيين عام 1988 ، الذي لم يكن لقاءً بين روائيِّين من عالمين مختلفين ، بل مواجهة بين ثقافتين ، وخاطب به الأدباء الفرنسيين الحاضرين بالقول :
(نحن من العبث أن نفكّر بأنه يجب أن نعدّل في طريقتنا في الكتابة (...) كي نُقرأ في الغرب. فمهما فعلنا – لا أعتقد أن كاتبا عربياً على استعداد أن يجعل النساء تطير كما عند ماركيز. إذا كان هذا الغرائبي هو المطلوب من العالم الثالث ، فلا تؤاخذوني ، من الصعب أن نستجيب لمقاييس لا علاقة لها بتجربتنا) (54).
القصّة التي تم تحليلها :
_______________
النهاية
______
د. علي القاسمي
قررتُ مساءَ أمس أن أُحدِّد تاريخَ وفاتي بنفسي، وأُشيِّع نعشي بنفسي، وأُسوي مراسم دفني بنفسي، وأدبّج كلمات رثائي الزائفة بنفسي. فقد استجدّ عصرَ البارحة ما جعلني أعقد العزم على ذلك.
قررتُ أن يرافق موتي صخبٌ لا يقلُّ عن الصخب الذي صاحب ولادتي، ودويٌّ لا ينقص عن الدويِّ الذي أعقب مجيئي إلى هذا العالم، دويٌّ مثل دويِّ طلقة بندقية صيد، مثلاً. فالموت، في تقديري، ليس بأهون من الولادة، والنهاية ليست أدنى شأناً من البداية.
أخبروني، عندما كنتُ طفلاً، أنّ صراخي عند الولادة فاقَ صيحات أُمّي أثناء طَلْقها، وأَنَّني واصلتُ البكاء والعويل والنحيب، بصوت عالٍ يحسدني عليه كثيرٌ من محترفي الغناء الذين لا يُطرِبون، مدةَ أربعين يوماً بليلها ونهارها، كأنّني كنتُ ألتزم بمدَّة حدادٍ رسميََّةٍ على فراقي عالم الرحِم الساكن الآمن، ونزولي إلى هذا العالم المضطرب الغريب.
أعترف أنّني لم أواظب على إحداث تلك الضوضاء في جميع مراحل عمري. فمنذ أنْ تقاعدتُ قبل ما ينيف على عشر سنوات، وأنا أعيش في هدوءٍ تامٍ وسكونٍ كامل أقرب إلى الخمول، في هذه الشقَّة الصغيرة الحقيرة، الواقعة عند مدخل هذه العمارة القديمة، الرطبة، القذرة، دون أن يتعرَّف عليّ سكّانها، ودون أن أتعرَّف عليهم. أعيش هنا منذ أزيد من عَقْدٍ كاملٍ من السنين، دون أن يَسمع الجيرانُ صوتي ولو مرَّةٍ واحدة.
تنوح وحدتي في أعماقي دون أن يسمعها أحد، وتئن جراحي بين ضلوعي من غير أن يدري بها مخلوق. فأنا لا أبوح لأيِّ شخصٍ بما يعتمل في داخلي، ولا أتحدّث مع الجيران في أمرٍ من أموري ولا أمورهم. بل قلّما رأوني، فنادراً ما أغادر شقّتي. وإذا ما حصل أنْ ذهبتُ إلى السوق لشراءِ بعض الطعام الضروريّ، فإنَّ وقت خروجي لا يتزامن مع غدوهم إلى أعمالهم في الصباح، أو عودتهم إلى منازلهم في المساء، فلا يلتقون بي ولا ألتقي بهم. وأنا، في واقع الأمر، لا أعرف أحداً منهم، وأشكُّ في استطاعةِ أحدٍ منهم أن يتعرَّف على وجهي أو هيئتي.
لا أخرج للتمشِّي في الشوارع، ولا أرتاد المقاهي. ليس ثمَّة ما يشجِّعني على ذلك، فوجوه الناس قد اغتسلت بنهر العبوس والكدر، وعيونهم تطلُّ منها التعاسةُ بلا استحياء، ولا أثر لبسمة على شفاههم اليابسة المطبقة. ويسرعون في سيرهم بطريقة تثير أعصابي، كأنَّ ريحاً عاصفةً تدفعهم من خلف، أو وحشاً مفترساً يطاردهم. وهم لا يتبادلون الكلام فيما بينهم. كلٌّ يهرول بمفرده في وديان الصمت، وهو ينوء تحت حمل ثقيل من الهمّ والقلق.
أقتل وقتي في مشاهدة التلفزيون، ومطالعة الصحف التي ألتقطها، بعد أن يرمي بها أصحابها. أستخدم سمّاعات الأُذنين عند مشاهدة التلفزيون، فلا يتناهى أيُّ صوتٍ إلى إنسان غيري، حتّى لو كان في الغرفة نفسها. ولهذا فالشقّة صامتةٌ ساكنةٌ، صمتَ المقابر وسكونها. غير أنّني لا أجد جديداً في ما أقرأ أو أسمع. الأخبار هي ذات الأخبار المكرَّرة المُحزِنة، الفرق الوحيد بينها يكمن في المكان أو الزمان، أمّا الموضوع فهو واحد: الأقوياء من البشر يأكلون الضعفاء، كما تأكل الضباعُ المتوحِّشة صغارَ الحيوانات في الغاب. والأغنياء يزدادون غنىً ورفاهاً، أمّا الفقراء فيُمعِنون في فقرهم وتعاستهم.
ولا أستطيع متابعةَ ما يُعرَض على شاشة التلفزيون بصورةٍ مفهومةٍ، أو استمتع به كما أروم. فإعلاناتُ بيع مساحيق الغسيل ومواد التنظيف، تقاطع البرامج بين وهلةٍ وأُخرى، كأنّها تذكّرنا دائماً بوساخة هذا العالم الذي نعيش فيه وقذارته. أضفْ إلى ذلك، أنّني غالباً ما تغشاني سكراتٌ من النعاس بين الفينة والأخرى، وأنا جالس على مقعدي قبالة التلفزيون.
لا جديدَ تحت الشمس ولا فوق الأرض. فكلُّ يومٍ نسخةٌ مكرَّرةٌ باهتةٌ من اليوم الذي سبقه. أتناول نفس الوجبات التي لا تتطلَّب طهياً ولا إعداداً. فأنا لم أتعلَّم الطهي أبداً. وليس لجسمي الناحل شهيَّة كبيرة، ولا يعرف الشره في الأكل والشرب. قطعةٌ من رغيفٍ مغموسة في زبدةٍ مع كأسٍ من الحليب تكفيني تماماً. ولهذا فمعاش التقاعد الضئيل يغطي مصاريفي، بل حتّى إنّني أستطيع ادخار قليل منه.
لا جديد في حياتي أبداً، إن كنتَ تسمّى وجودي حياة. لا جديد مطلقاً، سوى أنّني ألاحظ أنَّ الزمن أخذ يسلبني ما قد وهب. أُحسُّ تدهوراً في قواي الجسدية، وضعفاً في ذاكرتي. لم أعُد أذكر ما فعلته قبل يوم أو يوميْن، ربّما لأنّه لم يعُد مهمّاً بالنسبة إليّ. ولكنّني صرتُ أنسى كذلك أين وضعت حوائجي في الشقّة على صغرها، فأبحثُ عنها في كلّ مكان. وبانحطاط ذاكرتي التدريجيّ لم يبقَ لديَّ ما أواجه به الكِبَر. لقد أخذت ذكرياتي تختفي شيئاً فشيئاً، ولم يعُد ثمَّة ما يربطني بنفسي، ولم يعُد ثمَّة ما يصلني بهذا العالم، ماضيه، حاضره، مستقبله.
ويوماً بعد يوم، أشعر بتصلُّبٍ في أطرافي. فَقَدَ جسدي مرونَته وتخشّب. صار مثل جذع شجرةٍمُعمِّرةٍ هوت بها ريحٌ عاصفةٌ وانفصلتْ عن جذورها. ويوماً بعد يوم، أُحسّ تضاؤلاً في رصيد لغتي. ربّما لأنَّني قلّما أستعملها. نعم، أتحدُّث مع نفسي أحياناً كي أشعر أنَّني ما زلتُ على قيد الألم. ولكنَّني لم أًعُد أجد الألفاظ التي تعبِّّر عن غايتي. المعاني تطير من فكري، والكلمات تجفّ على شفتيّ. كانت الكلمات تربطني بهذا العالم مثل حبال شراع السفينة، ولكنّها راحت تتقطَّع واحداً بعد آخر. ستتمزّق أشرعتي عند هبوب أوّل ريح، وستغرق سفينتي لا محالة.
اعْتَدتُ على رؤية جدران شقّتي الضيِّقة الحقيرة وأثاثها البالي، يوماًبعد يوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام. اعتدتُ عليها جداً لدرجة أنّني لم أَعُد أراها. السرير الذي لا رأس له ولا ذيل هو نفسه، والفراش الخالي ذاته، والوسادة الوحيدة المتّسخة هي هي، والصور القليلة التي أطّرْتُها وعلَّقتها على الجدران منذ عقود من السنين وفيها بعض أقاربي الذين ماتوا منذ زمن بعيد، لم تَعُد تعني لي شيئاً. تلك الصور تحتوي على أشخاصٍ آلوا إلى العدم، فهي، في الحقيقة، فارغة، لا تمثل صوراً لموجود، وإنّما للعدم الذي لا صورة له. وهكذا فأنا لا أراها حتّى إذا وقعت عيناي عليها. لا أُبصرُ فيها شيئاً. مجرَّد إطاراتٍ عديمةِ الشكل، خاويةٍ من كلِّ مضمون.
قررتُ أن أتولَّى دفنَ نفسي بنفسي، لأنّني وحيدٌ لا أسرة لي ولا أقارب، من قريبٍ أو بعيد. مقطوعٌ من شجرة، كما يقولون. لم أتزوَّج قطّ . لم أُرِد أنْ أكون مسؤولاً عن شقاءِ امرأةٍ أو عذابِ طفلٍ في هذه الدنيا. يكفيني ما أنا فيه من سأم وتعاسة. ترمَّلتْ أُمِّي أثناء حملها بي، فربَّتْني يتيماً. وقبل أن ألتحق بالمدرسة الابتدائيّة التحقتْ أُمِّي بأبي في عالم الأموات. فتحمَّل جيرانُها مشقَّةَ دفنها، وإرسالي إلى مدرسة للأيتام. ولهذا فأنا لا أريد أن يتحمّل جيراني عبءَ دفني.سأسوي أَمْرَ جنازتي بنفسي.
أمضيتُ زهاء أربعين عاماً في غرفةٍ شبه مظلمة يسمّونها ل"مكتب الضبط والوارد والصادر"في قبو الشركة التي استخدمتني قبل أنْ أنهي دراستي الثانوية. وكنتُ أضع الأعداد المتسلسلة على الخطاباتِ التي ترِد على الشركة والتي تصدر عنها. أستعمل الأرقام ذاتها في جميع الخطابات. لا يختلف عددٌ عن عددٍ إلا في ترتيب الأرقام المكوِّنة له. الأرقامُ نفسها من الصفر المُصفَّر إلى التسعة التعيسة. وعندما أعود إلى شقّتي الحقيرة في آخر النهار، لا أجد فرقاً بين جدرانها وجدران المكتب الذي فارقتُه قبل قليل.
قررتُ أن أتولى دفن نفسي بنفسي، ولا أترك الأمر لأحد غيري، فما حكّ جِلْدَك مثلُ ظفرك، كما يقول المَثَل القديم، فكيف والمسألة هنا لا تتعلَّق بمجرَّد جِلدٍ وإنّما بجثمان كامل؟ سأتّصلُ بعد قليلٍ بشركة دفن الموتى، وأتّفقُ معهم على التفاصيل جميعها. سأختار المُرتِّلين بنفسي، وأحدِّد لهم مواضع جلوسهم حول الجثمان في هذه الشقَّة الحقيرة بنفسي. وأطلب منهم إسماعي مقدَّماً السُّوَرَ التي سيرتِّلونها والأدعيةَ التي سيتلونها على النعش قبل أن يحملوه إلى المقبرة. بل سأختار حتّى الكفن الذي يغطِّي جثماني. سأتحرَّر من لون الكفنالأبيض التقليدي. سأقلب الأشياء قليلاً، وأخرج عن المعتاد، فقد قتلني المعتاد سأماً طوال حياتي. سأختار اللون الورديّ لِكفني، واللون الأخضر الفاتح للتابوت. سأنتقم من اللونين الأبيض والأسود، ففي كلِّ يومٍ كنت ألبس في عملي قميصاً أبيضَ وبذلةً سوداء.
سأتولى دفنَ نفسي بنفسي. هذه الفكرة التي استهوتني انقدحتْ في ذهني مثل وميض البرق في ليلةٍ كالحةِ الظلمة، بعدما طرقتْ بابي أمس حارسةُ العمارة المجاورة لتخبرني، وهي تنظر من فوق كتفي إلى داخل شقتي، كأنَّها تبحث عن شيء فَقَدَتْه، أنّ السيّد محمّد الصرّاح قد لفظ أنفاسه الليلة السابقة. واكتشفتْ هي الأمرَ بالمصادفة المحضة. لا أدري كيف استدلّتْ على مكاني.
ـ "ولماذا جئتِ إليّ أنا بالذات، يا سيدتي؟"
لقد رأتْه ذات يومٍ يقف على باب شقتي. كان مجرّد زميل لي في العمل، وأُحيل على التقاعد قبلي. ولم يأتِ إليَّ سوى مرة واحدة. جاء ليقترض بعض النقود. ولمّا لم يستطع تسديد الدَّين، ما عاد إليّ أبداً.
ـ "وماذا أستطيع أن أفعل من أجله، يا سيدتي؟"
أجابت، وهي تتلفتُ إلى الوراء، كأنّها تنتظر وصول شخصٍ عزيزٍ عليها، أنّني الوحيد الذي أعرفه، ولا بُدَّ من دفنه.
كان عليّ أمس ـ وبدافع من بقيَّة نخوةٍ، أو خجلٍ من حارسة العمارة ـ أن أكتري عربةً رخيصةً ليست مخصصةً لنقل الموتى، لحمل جثمان زميلي السابق إلى المقبرة. وكنتُ المُشيِّع الوحيد. فحارسةُ العمارة رافقتني حتّى باب العمارة فقط. وبقيّة السكان في شغلٍ شاغل. لا وقتَ لديهم لإضاعته في تشيع جارٍ لايعرفونه. لقد فقدوا حتّى حبَّ الاستطلاع، فلم يُطلّوا من الشبابيك، على الرغم من أنني كنتُ أرفع صوتي الأجش بـ "الله أكبر. لا إله إلا الله…"وأنا أُخرِج قطعةَ الخشب التي سمَّيتُها تابوتاً من العمارة، يعاونني على حملها سائق عربة النقل، وكأنّه ينقل قطعةَ أثاث قديمة. ثم انطلقتُ معه ـ أقصد السائق ـ إلى المقبرة، وهو يدندن في الطريق بأُغنيةٍ عاطفيّةٍ شعبيّةٍ لا علاقة لها بالموت ولا بالحياة. لم أقرأ في الطريقِ سوراً من القرآن على روح الراحل. فأنا لم أحفظ شيئاً يُذكَر من القرآن. وما حفظته في المدرسة نسيتُه منذ زمنٍ طويل. ولا تضمُّ شقّتي نسخةً من القرآن، ولا من أيّ كتاب آخر. لم يكُن لي موردٌ كافٍ لأبدِّده في شراء كتبٍ لا أقرأها.
استأجرتُ حفّارَ قبورٍ وجدتُه في المقبرة المُجدِبة العارية من أيِّ نباتٍ، خارج المدينة. قام بعمله صامتاً كئيباً. لم يكُن صمته وكآبته حزناً على زميلي. لا شكَّ في ذلك. ربَّما أَورَثه عملُه تلك الكآبة، وأَملتْ عليه مهنتُه ذلك الصمت. فهو في شغله يتعامل مع صخورٍ وأحجارٍ وأموات. حفرَ جدثاً ضيّقاً وغير عميق. أَهالَ على الميت قليلاً من التراب لم يغطِّه تماماً. لم يعجبْه الأجرُ الذي دفعتُه إليه وقبضه قبل أن يبدأ العمل. لم يكُن لي خيار وليس له خيار، هو الآخر. انصرفَ دون أن يُلقي بالاً لملاحظتي عن عمق القبر، وعلامات السخط بادية على وجهه، وهو يتمتم بكلمات لم أسمعها. لا شكَّ في أنّها لعناتٌ صبّها عليّ وعلى الميِّت معاً. انتابتني نوبةٌ من الشهامة، فقمتُ باستكمال العمل بنفسي، فأهلتُ التراب على القبر، فقد خِفْتُ أن تأتي الكلابُ ليلاً، وتنهش الجثةَ شبه العارية. ولكن بعد أن انتهيتُ والعرق يتفصَّد من جبهتي وجسدي تساءلت: "وهل يَضيرُ الشاةَ سلخُها بعد ذبحها؟"
عدتُ إلى شقّتي مساءً، خائر القوى مكتئباً. وتهالكتُ علىالأريكة الوحيدة. وفي تلك اللحظة قرَّرتُ أن أتولَّى ترتيب دفني بنفسي. فقد ادخرتُ مالاً يكفي لجنازة تليق بي. فإذا كنتُ لم أستطع أن أحيا حياةً لائقة، فَلْأمت ميتةً لائقةً، على الأقل. وعلى كلِّ حال، لمَن أخلِّف مدَّخراتي بعد موتي؟
اتصلتُ صباح اليوم ـ بالهاتف العمومي الكائن في الميدان ـ بشركةٍ محترمةٍ لدفن الموتى المحترمين. كانت إحدى سياراتها الجديدة قد استرعت انتباهي ذات يوم، وهي مطليّة باللون الأسود، وعليها آيات قرآنيّة بالخطِّ الكوفيّ، واسم الشركة ورقم هاتفها بخطٍّ أكبر.
أرسلتِ الشركةُ مُمثِّلاً عنها إلىشقّتي. ناقش معي جميع التفاصيل مدَّة ساعتيْن. اتفقنا على أجرة النقل، وعدد المرتِّلين ومكافأتهم. طلبتُ أن يكون عددهم سبعة. لا أدري لماذا يستهويني العدد سبعة. كنتُ أتفاءل به منذ صغري. وأطلعني ممثِّل الشركة على الآيات القرآنية التي سيرتِّلها المرتلون على نَعشي، قبل نقله من الشقّة، وكذلك بعد إنزالي في الجَدَث. لا أستحضر تلك الآياتِ حرفيّاً ولكنَّها أعجبتني. كانت مليئة بكلمات الجنة، والنعيم، والعيون، وحور العِين، والفاكهة، وأنهار الخمر والعسل. واتَّفقنا كذلك على مقاسات الجدث طولاً وعرضاً وعمقاً، وارتفاع شاهد القبر. سألني عن تاريخ الميلاد والوفاة التي يجب كتابته على شاهد القبر. تذكرت تلك الحكاية عن المدينة التي لا يسجِّل أهلها على قبورهم إلا عدد الأيام السعيدة التي عاشوها، فطلبتُ منه أن يكتبوا على شاهد القبر: : "هذا قبر جَبر، من رَحِم أُمّه إلى القبر."ودوَّن كلَّ ذلك في عَقْدٍ كان مُعدّاً سلفاً، ويشبه تلك العقود التي كنتُ أُضيف إليها رقماَ وتاريخاَ في شركتي القديمة. ووقّعنا ـ نحن الاثنين ـ على العقد، فأصبح تاماً نافذاً، وسلّمتُه المبلغَ المُتَّفَق عليه نقداً لقاء إيصال، وانتهى كلَّ شيء.
قال لي مُمثلُ الشركة:"فيالحقيقة لم ينتهِ كلُّ شيء تماماً. إنّ العقد ينقصه شيء واحد فقط، هو تاريخ النفاذ."وتطلّع إليّ مُستفسِراً.
نظرتُ في عينيْه، وابتسامة ساخرة تحاصر شفتَيّ، وقلتُ له بلا تردُّد:
ـ "هذا أمرٌ في غاية البساطة. غداً صباحاً. يوم غد. فهو يومٌ آخر كبقيّة الأيام. لافرق. ولنقُل الساعة الثامنة صباحاً، ساعة بدء العمل لديكم."
ـ "والمكان؟"
ـ "هنا في هذه الشقّة. وعلى هذا السرير بالضبط."
وسلّمته مفتاح الشقّة.
وسوم: العدد 728