نزار قباني شاغل الساسة والنساء
نزار قبّاني ..
شاغل الساسة والنساء ..
منذ أكثر من عشرين سنة قرأت قصيدةً للشاعر العربيّ الكبير نزار قبّاني ، قصيدةً أحسبُها من أجمل ما قيل شعرًا وقرأت ، منذ أن عرفت الشعر ، إلى يومنا هذا ، قصيدة اختلطت فيها السياسة بالعروبة والعشق والنساء ، بكل شيء ..
بدأها نزار بالتحيّة للمكان الذي ألقاها فيه ، كنوع من التشويق المنبري ، يقول :
يا تونسُ الخضراءُ ، جئتكِ عاشقًا
وعلى جبينيَ وردةٌ وكتابُ ..
إنّي الدمشقيُّ الذي احترفَ الهوى
فاخضوضرتْ لغنائه الأعشابُ
أحرقتُ من خلفي جميعَ مراكبي
إنّ الهوى ألّا يكونَ إيّابُ ..
وهذا المطلع على ما فيه من منبريةٍ وخطابيّة واضحتين أيّما وضوح ، إلّا أنّها تدخل في باب : ما لا بدّ منه ، والذي ينظر للأبيات مراعيا الزمان والمكان والحدث ، يشعر بأنّ الشاعر ألقى تحيّة على أجمل ما تكون التحيّات ، فكأنّما هو قائل : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أنا نزار قباني ، جئت بغرض كذا ... إلى آخر ما هنالك .
ومن ثمّ ، وبعد السلام الذي عادةً ما يكون مقتضبًا ، خاصةً للشخص الجائي برسالة مستعجلة ، ينتقل إلى التشبب والنسيب ، كشاعر عربيّ أصيل ، يحافظ على إرثٍ عربيّ أصيل ، يقول :
أنا فوقَ أجفانِ النساءِ مكسّرٌ
قطَعًا ، فعمري الموجُ والأخشابُ
لم أنسَ أسماءَ النساءِ ، وإنّما
للحسنِ أسبابٌ ، ولي أسبابُ
يا ساكناتِ البحر في قرطاجةٍ
جفّ الشذا ، وتفرّقَ الأحبابُ
أينَ اللواتي حبّهنّ عبادةٌ
وغيابُهنّ وقربهنّ عذابُ ..
اللابساتُ مدامعي وقصائدي
عاتبتُهنّ ، فما أفادَ عتابُ
أحببتُهنّ ، وهنّ ما أحبَبْني
وصدقتُهنّ ، ووعدُهنّ كِذابُ
إني لأشعرُ بالدوارِ ، فناهدٌ
لي يطمئنّ ، وناهدٌ يرتابُ
هل دولةُ الحبّ التي أسّستها
سقطتْ عليّ ، وسُدّتِ الأبوابُ
تبكي الكؤوسُ ، فبعدَ ثغرِ حبيبتي
حلفتْ بألّا تُسكرَ الأعنابُ
أيصدّني نَهْدٌ تعبتُ برسمِه
وتخونني الأقراطُ والأثوابُ
ماذا جرى لممالكي وبيارقي
أدعو ربابَ ، فلا تجيبُ ربابُ
أأحاسبُ امرأةً على نسيانها
ومتى استقامَ مع النساءِ حسابُ
ما تبتُ عن عشقي ، ولا استغفرتُه
ما أسخفَ العشّاقَ إن هُمُ تابوا ..
وهنا يستوقفنا أمر غاية في الأهميّة ، وهو في ذات الوقت رسالة للقارئ أو للمتلقّي ، ذلك أنّ أبيات النسيب أعلاه ، مع الأبيات الثلاثة الأوائل ، هي بحدّ ذاتها كافية لتكون قصيدة ، بل قصيدة من الطراز الرفيع ، فإن كانت مجرّد مقدّمة للدخول إلى القصيدة الأم ، فكيف سيكون الأمر إذن ، إنّ أيّ قارئ أو متلقّ لا يعرف مَن نزار قبّاني ، ثمّ يعرف أنّ الذي سمعه مدخلا إلى نص آخر ، سيقول في نفسه : أيّة ورطة هذه التي وضع الشاعر نفسه فيها ، فيكون ـ أي القارئ ـ بين شامت أو مشفق محبّ ، فالمقام بالفعل عظيم ..
لكنّه نزار ، ولم تكن مقدمته الغزليّة بهذا الطول أو بهذا الكمّ إلا لأنّه كذلك ، فهذا رجل متلبّس عشقا ، أعجبَه المقام بينَ النساء ، فكيفَ له ، بل كيف لأيّ رجل رقيق متدفّق المشاعر أن يغادر جمال الأنثى ورائحتها الزكيّة ، وإلى أين ؟ إلى مقام أمنيّ مخابراتيّ سياسيّ منافق عقيم ، بالفعل إنّ الخيار صعب جدّا ، ولكنّها رحلة لا بدّ منها ، وهنا يقع الشاعر في محنة أخرى ، وهي حسنُ التخلّص ، أي الانتقال بسلاسة لا تلبك المتلقّي ولا تربكه ، وأيّة سلاسة في الانتقال من النعيم إلى الجحيم ، وهنا يُدخِل القبّاني محبوبته دمشقَ وسيطا استراتيجيا ، لعلّه يفلح فيما يريد أن يمضي إليه ، والحقيقة أنني على مدى قراءاتي طيلة الفترة المنصرمة من عمري ، لم أرَ مدينة تسكنُ شاعرًا ، كسكنى دمشق في قلب نزار ، يقول :
قمَرٌ دمشقيّ يسافرُ في دمي
وسنابلٌ وجداولٌ وحبابُ
الفلّ يبدأ من دمشق بياضه
وبعطرها تتطيّبُ الأطيابُ
والماءُ يبدأ من دمشقَ ، فحيثما
أسندتَ رأسكَ جدولٌ ينسابُ
والحبّ يبدأ من دمشقَ ، فأهلنا
عبدوا الجمالَ ، وذوّبوه وذابوا
والشعرُ عصفورٌ يمدّ جناحَهُ
فوقَ الشآمِ ، وشاعرٌ جوّابُ
والدهر يبدأ من دمشقَ ، فعندها
تبقى اللغاتُ ، وتُحفظُ الأنسابُ
ودمشقُ تعطي للعروبةِ شكلها
وبأرضها تتشكّلُ الأحقابُ ..
والحقيقة أنّ دمشقَ زادت الطينةَ بلّةً أو بللًا ، فقد سكرَ الشاعر ، وغرق في العشق أكثر فأكثر ، وهو القائل ذاتَ قصيدة : الموج الأزرقُ في عينيك ، يجرجرني نحو الأعمق ..
نعم ( يجرجرني) هي اللفظة التي استبدلت ب(يناديني) لأن الأخيرة للغناء أرقّ ، مع أنّ الأولى أعمق في المعنى وأدقّ ، فشتّان بين الجرجرة والنداء ، فالمنادى مخيّر في الإجابة من عدمها ، بيْد أنّ المجرجرَ مسلوبُ الإرادة ، وشاعرنا هنا لا ينطبق عليه إلا المثل القائل : كالمستجير من الرمضاء بالنار ، إذ جرجرته دمشق بعشقها ، فأبعدته أكثر عمّا استحضرها لأجله ، فعادَ خطوةً إلى الخلف ليغيّر مسار حديثه ، خطوةً أشبه بخطى لاعب كرة القدم ، حين يرجع للخلف ، لينقضّ على الكرة في موضع الجزاء ، محددا الجهة التي ينتوي أن يسدد صوبها ، وما رجوعه إلا لذلك ، ولكي تكون التسديدة أقوى وأمكن ، ومن ثمّ يخلص لما يريد ، فيقول :
بدأَ الزفافُ ، فمن تكونُ مضيفتي
هذا المساءُ ، ومَنْ هو العرّابُ ..
أأنا مغنّي القصرِ ، يا قرطاجةٌ
كيفَ الحضورُ ، وما عليّ ثيابُ
ماذا أقول ؟ فَمِي يفتّشُ عن فَمِي
والمفرداتُ حجارةٌ وترابُ
لا الكأسُ تنسينا مساحةَ حزننا
يومًا ، ولا كلّ الشرابِ شرابُ
من أين يأتي الشعر يا قرطاجة
و(الحقّ) ماتَ وعادتِ الأنصابُ
من أينَ يأتي الشعر ، حين نهارنا
قمعٌ ، وحين مساؤنا إرهابُ
سرقوا أصابعَنا وعطرَ حروفنا
فبأيّ شيءٍ يكتبُ الكتّابُ
والحكم شرطيّ يسيرُ وراءنا
سرًّا ، فنكهة خبزنا استجوابُ
الشعرُ رغمَ سياطِهم وسجونِهم
ملكٌ ، وهم في بابه حجّابُ
ثمّ حين لا يجد الشاعر انفكاكًا مما هو فيه من عشق ، إن للنساء أو لدمشقَ أو للشعر ، يستسلم إلى الاعتراف بأنه أخفق في التخلّص ، فيبرر ذلك الإخفاق شعريًا ، ليكون أحسن من حسن التخلّص ذاته ، يقول :
من أينَ أدخلُ في القصيدةِ يا ترى
وحدائقُ الشعر الجميلِ خرابُ
لم يبقَ في دارِ البلابلِ بلبلٌ
لا البحتريّ هنا ، ولا زريابُ
شعراء هذا اليوم جنسٌ ثالثٌ
فالقولُ فوضى ، والكلام ضبابُ
يتكلّمونَ مع الفراغِ ، فما هُمُ
عجمٌ إذا نطقوا ، ولا أعرابُ
اللاهثونَ على هوامشِ عمرنا
سيّان إن حضروا ، وإن هُمُ غابوا
يتهكّمونَ على النبيذِ معتّقًا
وهُمُ على سطح النبيذِ ذبابُ
الخمرُ تبقى إن تقادمَ عهدها
خمرًا ، وقد تتغيّرُ الأكوابُ ..
ويعودُ القبّاني مرّة أخرى خطوةً إلى الوراء ، فيتساءل ذات السؤال الذي يرهقه : من أينَ أدخلُ في القصيدة يا ترى ؟ لكنّه هذا المرة مبيّتٌ أن كيف سيلجُ إليها ، ليجرح ويداويَ في آنٍ معًا ..
وهذا ما سأكمل فيه معكم ـ إن أحببتم ـ في الجزء الثاني من الحديث عن قصيدة القرن العشرين ..
كل المحبّة لكم ، أن تحمّلتموني حتى هذه اللحظة ..
وسوم: العدد 728