خبيب بن عدي (النموذج الفذ والصابر المحتسب)
" رائعة الثبات "
1 - المقدمة (قصة هذه القصيدة):
يقول علماء السيرة إن رهطاً من قبيلتي عضل والقارة، قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعد غزوة أحد، فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث الرسول ستة نفر من الصحابة، وأَمّرَ عليهم مرثد الغنوي، حتى إذا كانوا على ماء الرجيع، بناحية الحجاز وهو ماء لقبيلة هذيل، استصرخوا عليهم هذيلاً فأحاطت بهم، فدافعوا عن أنفسهم، حتى استشهد منهم أربعة، وأسر اثنان، هما: خبيب بن عدي صاحب هذه الأبيات، وزيد بن الدثنة - رضي الله عنهما - فأخذتهما هذيل وباعتهم لقريش، بأسيرين من هذيل كانا بمكة.
وكان حجير التميمي قد اشترى خبيب رضي الله عنه، ليقتله بالحارث بن عامر، الذي قتله خبيب في غزوة بدر.
وهكذا أُخرج خبيب إلى التنعيم، واجتمع جمع غفير من الرجال والنساء والأطفال، ليشهدوا مصرع وصلب خبيب رضي الله عنه، وفي هذه اللحظات طلب منهم خبيب أن يصلي ركعتين، فسمحوا له، فصلى ركعتين فأحسنهما وأتمهما، وقال لهم: أما والله، لولا أن تظنوا أني أطلت جزعاً من الموت، لأستكثرت من الصلاة، فكان خبيب أول من سن هذه الركعتين عند القتل للمسلمين، وقد أصبحت هذه الصلاة سنة، بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لها وعندها دفعوه إلى خشبة الصلب على جذع نخلة وأوثقوه، فقال : اللهم إنا قد بلغنا رسالة إلى رسولك فبلغ الغداة ما يفعل بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحدا، حتى أن دعوة خبيب أدخلت الرعب إلى قلوبهم، قال معاوية رضي الله عنه: (حضرت مقتل خبيب مع أبي سفيان، ولقد رأيته يلقيني على الأرض فرقاً من دعوة خبيب، وكان الاعتقاد عندهم: أن الرجل إذا دُعي عليه فاضجع لجنبه زالت عنه)(33).
2- تحليل القصيدة:
وبعدها أنشد خبيب هذه القصيدة اليتيمة، قصيدة الثبات، في لحظة من لحظات الشدة، التي تتقلب فيها القلوب والأبصار، ولكن الله يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت، لأنه رحيم بهم، وقد اطلع على قلوبهم فرآها وقد عمرها التوحيد، وسكنتها الثقة بوعده، وملأها الشوق إلى جنته، إنها لحظات الرحمة التي يفيض بها الله سبحانه وتعالى على عباده بالتوفيق، ويحميهم من الخذلان، لم يختلف أهل الكفر في يوم من الأيام على عداوتهم للإسلام وللمسلمين، ولم يكن غريباً أنْ تلتقي مصلحة قريش وهذيل وعضل على مقتل خبيب الشهيد. " لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا " وكل واحد منهم يبدي العداوة والشماتة والحقد على الإسلام، الممثل في شخصية خبيب، وفي لحظة من لحظات الشعور بالكثرة والمنعة، إنّه انتفاخ أهل الباطل، على فرد أعزل من أهل الحق، لاستعراض عضلات قوتهم الجوفاء، ولم يكن خبيب ممن يعز بقلة أو كثرة، بل كان صاحب عقيدة واضحة المعالم راسخة الفهم، لأنه كان يرى أهل الباطل من خلال منظاره العقيدي الصلب، كانوا صغاراً في عينه كالدنيا، ولا أدل على ذلك من تجمعهم في حشد هائل على رجل مشدود الوثاق، إنها مهزلة أهل الباطل الذين جحدوا بآيات الله المثبوتة أمام أعينهم في الكون المنظور، وأنكروا آيات الله في الكتاب المسطور، وأنكروا حق الله في العبادة والطاعة، وتطاولوا على عباد الله يمنعونهم الولاء لله والرسول، وحتى إذا اشتد الأمر واقترب التنفيذ، يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، أن يثبته على الحق، وأن يكرمه بالشهادة ويُلهمه الصبر، على ألَم تلك اللحظات (إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي) وبنداء المحتسب الذي تفوح منه رائحة الصدق يوم تختبر العقائد في قلوب أصحابها (فذا العرش صبرني..) إنه وقت الشدة، الذي تؤدى فيه الامتحانات الصعبة وتطلب الجنة ثمنها الباهظ من شرايين الشهداء (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) العنكبوت: 2. ويحاول أهل الكفر المساومة وطلب التنازل، ولكن العروضات الرخيصة لا تغريه (وقد خيروني الكفر والموت دونه)، إنها بطولة مدهشة، تظهر فيها رباطة الجأش، وتتفاعل فيها المشاعر والمقاصد مع العقيدة أيما تفاعل، لقد استقر هذا الدين في قلب خبيب وفي قلوب ذلك الجيل من الصحابة؛ فقوموا الدنيا من خلال منهاجه، فبدت هزيلة صغيرة، ولهذا أثمر هذا الدين في حياة الصحابة، لأنهم أخذوه بقوة المعتقد الذي لا يخامره الشك، وصدق الواثق المطمئن إلى صحته، وهذا هو الفارق بين جيل احب الدنيا وأصابه الوهن في أيامنا، وبين الجيل الذي رأى الدنيا من خلال القرآن فتطابقت مشاعره وأفعاله مع تصور القرآن للحياة، فجاء شعره وتعبيره امتدادا للأفعال، وليس ترفا يهيم في كل واد من وديان الخيال والأقوال (وما بي حذار الموت إني لميت) لم تدمع عيناه الدموع خوفاً من الموت، ولا فراراً من الشهادة، لقد هملت عيناه الدموع خوفاً من نار جهنم، وليس طمعاً في نجاة يخون بها الله ورسوله، بالكفر الذي عرضوه عليه مقابل ذلك (ولكن حذار حجم نار ملفع).
والصبر هنا مرتبط بالغاية السامية التي يتجه بها المؤمن في جميع أفعاله، وهي التقرب والطاعة والعبادة إلى الله سبحانه وتعالى (وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع)، نعم المؤمن ينسى متاعبه وتهون جميع الآلام والمصاعب، عندما يتذكر وعد الله، ولا يضيره، أن يتمزق هذا الجسد ما دام أنه يبارك ويكرم من الله، و همه الأول والأخير أن يخرج من الدنيا وقد عفاه الله من الكفر وحماه من الوقوع في الشر، أما كيف يموت؟! وعلى أي حال، وبأي وسيلة، فهذا الأمر لا يعنيه ولا يهتم به، ولا يكترث له ما دام أنه عائد إلى الله سبحانه وتعالى، هذا هو الصحابي الجليل والشاعر الإسلامي، والصابر المحتسب، والنموذج الفذ، الذي يعلم الأجيال كيف يموت المسلم كالأشجار الواقفة دون أن ينحني إلا في السجود للواحد الأحد، الذي له الأمر من قبل ومن بعد. (ولست أبالي حين اقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي).
3- قيمة هذه القصيدة:
1- تعتبر هذه القصيدة من النماذج المتميزة للشعر الإسلامي، من حيث أنها انفردت بنقل تجربة غير متكررة، وطرحت موقفاً بطولياً يعكس صدق الترابط بين الفعل والتعبير عنه، مما جعلها تعلق بقلوب المسلمين على مر العصور.
2- ومما يعطي هذه القصيدة قيمة خاصة، إنها نموذج على شعر التضحية والثبات، الذي تحتاجه امتنا في تربية أجيالها، عندما يضعف عنصر التضحية وينتشر الوهن والضعف في صفوفها.
3- وتعتبر هذه القصيدة شاهد صدق على شعراء هذه الدعوة، الذين نقلوا الشعر من التكسب والارتزاق والبيع الرخيص، إلى شعر الصدق والمعاناة والتعبير عن الموقف في فترة مبكرة، وقبل أن تطرح الأمم الحديثة في قرننا الشعر والأدب الملتزم الذي يحمل هموم الإنسان.
4- البناء الفني والمذهبية الأدبية:
يستطيع الناقد المنصف أن يلمح في هذه القصيدة ملامح البناء الفني للقصيدة الإسلامية الشمولية والشخصية الأدبية المستقلة من خلال ما يلي:
1- مضامين القصيدة تطرح الإسلام فكراً وسلوكاً وتعبيراً، ولهذا نجد ان القصيدة خرجت من ثوب الصدق والمعاناة، ولم تخرج من ثوب الترف الفني والحشد العابث له، والعقيدة الإسلامية هي الملهمة للشاعر في كل حركة من حركات مشاعره.
2- يمتاز الأداء هنا بسهولة الطرح وبساطة التعبير، والابتعاد عن الغموض، والاهتمام بفنية نقل الفكر والمشاعر وليس فنية التهويم و الترف؛ لأن المقبل على الشهادة يهمه نقل الموقف، ولا تُهِمُّهُ حذلقة الفنيات، وقد نجح الشاعر في نقل ما يريد، والدليل على ذلك الخلود الأدبي الذي فرضته هذه القصيدة لنفسها عبر العصور.
وسوم: العدد 729