التربية على القيم من خلال النصوص القرائية في سلسلة الكتاب المدرسي "اقرأ" للمرحوم أحمد بوكماخ
عندما يتحدث جيل الستينات بحنين عن الكتاب المدرسي للمرحوم أحمد بوكماخ المعلم الطنجي يتعجب منهم من تلاهم خصوصا الجيل الحالي جيل الألفية الثانية ، وقد يسخر من أحاديثهم وحنينهم حتى أن الأمر بلغ ببعض جيل الألفية الثانية حد نشر صورة لتلميذ الأمس مستلق على بطنه يطالع في كتاب أو يحفظ درسه ،وقد ابتلع تمساح نصفه وهو لا يبالي به، وكتب ساخرا تحت الصورة عبارة ساخرة : " سيقول لك والدك لقد كنا ندرس في مثل هذه الظروف " وجيل الألفية الثانية الساخرمن جيل الستينات معذور في ذلك، لأنه لو قدر له أن يتداول هذه السلسلة من التأليف المدرسي لكان لها رأي آخر ، ولعرف سر إعجاب جيل الستينات بها وحنينه إليها. ولا زال ذلك الجيل يحفظ عناوين ، ونصوص قرائية نثرية وشعرية لهذه السلسلة عن ظهر قلب ،وقد تركت بصماتها على شخصيته.
وقبل الحديث عن دور النصوص القرائية لهذه السلسلة في تربية جيل الستينات الذي اضطلع بمسؤولية خدمة هذا الوطن بعد الاستقلال، تجدر الإشارة إلى التعريف بالمؤلف الذي ولد في العشرينيات من القرن الماضي بمدينة طنجة ، ووافته المنية رحمه الله تعالى في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية سنة 1993 . والمعروف عنه أنه رجل وطني منذ شبابه الأول حيث كان يتخذ من متجر أبيه الذي كان يبيع فيه السلع والكتب مقرا للنشاط السياسي المناهض للاحتلال ، وقد كلف ذلك والده ثلاث سنوات سجنا في سجون المحتل الذي وجد لافتة وطنية في متجره . واشتغل بوكماخ بالتدريس معلما ، وبتوجيه من العلامة الشيخ عبد الله كنون رحمه الله توجه إلى التأليف المدرسي ،و قد كان كاتبا ومؤلفا بارعا .
ومما تجدر الإشارة إليه أن اسمه العائلي "بوكماخ " يعني بالفصحى أنه صاحب كماخ ، وهو في اللسان العربي شموخ الأنف ، وقد كان اسما على مسمى لشموخ أنف صاحبه في الوطنية والتربية والتعليم والتأليف المدرسي .
ولقد اختار كاسم لسلسلة كتابه المدرسي الذي غطى فراغا في التأليف المدرسي المغربي بعد الاستقلال أول كلمة من الوحي وهي " اقرأ " في سورة العلق كفأل ،وتبرك ،وشعار في نفس الوقت. وإن كان لم يدرج في مؤلفه نصوص القرآن ضمن النصوص القرائية ، فلأن المصحف الشريف كان متداولا بين الناشئة المتعلمة ، وكان كتابا موازيا للكتاب القرائي المدرسي، وحاضرا في سنوات المرحلة الابتدائية .
وارتأيت في هذا المقال أن أقف على المؤلف القرائي " اقرأ" لبيان دوره في تربية وتكوين جيل الستينات على القيم والتربية الناجحة الموفقة التي لا ينكرها إلا منكر أو جاحد معاند، وعلى التكوين الجيد الذي أطلق ألسنة ذلك الجيل بالبيان العربي الفصيح ، وجعل الأقلام سيّالة والأساليب سلسة في غاية الحسن والجودة ، وكان ذلك سببا في كثرة المبدعين كتابا وشعراء، ومفكرين، وصحفيين .
وسأبدأ بوصف نسخ هذا الكتاب من حيث الشكل ، وأعلق عليها على الشكل الآتي :
1 ـ نسخة السنة الأولى ابتدائي أو القسم التحضيري ، وهي تسمية لم تعد تستعمل اليوم في السلك الابتدائي ، وصارت تطلق على أقسام بعد السنة الثانية من السلك التأهيلي لتحضير الطلبة لولوج المعاهد العليا . وكم كان جميلا لو ظلت هذه التسمية متداولة في السلك الابتدائي لأنها كانت توحي بإعداد المتعلمين الصغار لولوج عالم القراءة والكتابة . فعلى وجه الغلاف الأمامي اللكتاب دونت في الأعلى عبارة : " قرر وزير التربية الوطنية والشبيبة والرياضة هذا الكتاب في القسم التحضيري " مع عبارة : " مع هذا الجزء معجمي الصغير" وتضمن هذا الوجه أيضا صورة لطفلتين صغيرتين يتوسطهما طفل في سنهما يمسك كتابا بيده وهم يمشون . وعلى وجه الغلاف الخلفي للكتاب طفلة تمسك بيد طفل ،وفي يد كل منهما كتاب إلى جانب صور لأغلفة الأجزاء الخمسة للكتاب . وعلى الصفحة الأولى صورة طفل صغير يلعب بحروف الكاف والتاء والباء " كتب " .
2 ـ نسخة السنة الثانية ابتدائي دونت على وجه الغلاف الأمامي عبارة : " قررت وزارة التربية" عوض عبارة : " قرر وزير التربية " مع صورة لطفل وطفلة ينظران في كتابين . وعلى الوجه الخلفي للغلاف صورة طفلتين واقفتين بينهما كتاب تنظران فيه، فضلا عن صور أغلفة الكتب الخمسة لسلسلة " اقرأ " . وعلى الصفحة الأولى صورة طفل وطفلة يحملان محفظتين وهما يخطوان . وبعد ذلك صفحة تتضمن توجيهات للمتعلمين تتعلق بكيفية استعمال الكتاب .
3 ـ نسخة السنة الثالثة ابتدائي على وجه الغلاف الأمامي صورة تلميذ وتلميذة يحملان محفظتين ، ويأخذ الواحد بيد الآخر وهما يخطوان . وعلى الوجه الخلفي للغلاف تلميذة تجلس على كرسي وبيدها كتاب وهي تعلم تلميذة أصغر منها سنا ، فضلا عن صور أغلفة كتب المستويات الخمسة . وعلى الصفحة الأولى تلميذ وتلميذة يحملان جرسا يدويا وهما يقرعانه .
4 ـ نسخة السنة الرابعة ابتدائي على وجه الغلاف الأمامي صورة تلميذين يجلسان خلف منضذة، وهما يرفعان أصبعيهما أثناء حصة دراسية ،وأمامهما كتابان مفتوحان. وعلى الوجه الخلفي للغلاف صورة جماعية لتلميذات وبأيديهن كتب، فضلا عن صور أغلفة كتب المستويات الخمسة . وعلى الصفحة الأولى صورة تلاميذ وتلميذات في مكتبة أو قاعة للمطالعة ، إلى جانب صورة تلميذ يحمل كتابا . وبعد ذلك مقدمة فيها توجيهات بكيفية استعمال الكتاب .
5 ـ نسخة السنة الخامسة ابتدائي على وجه الغلاف الأمامي صورة تلميذ وتلميذة يجلسان خلف منضدة ، التلميذة تكتب ، والتلميذ يمسك قلما بيده يضع عقبه بين شفتيه ،وهو مستغرق في التفكير كأنه يمتحن .وعلى الوجه الخلفي للغلاف صورة جماعية لتلاميذ وتلميذات يحملون كتبا في أيديهم وهم واقفون فضلا عن صورأغلفة المستويات الخمسة . وعلى الصفحة الأولى صورة قلم، ودواة ،وسجل، وزهرة ، وشمس ساطعة خلف السجل ، وبعد ذلك توجيهات بكيفية استعمال الكتاب .
وتعليقا على صور أغلفة هذه السلسلة من الكتاب المدرسي " اقرأ " أقول لقد كانت صورا حقيقية لتلاميذ وتلميذات في المستويات الخمسة، وهم على أجمل صورة وبأجمل هندام ، وكان جيل الستينات يحلم بمثل حال هؤلاء، ويرى فيهم نماذج يقتدى بها . ولقد كان المؤلف مربيا حتى من خلال هذه الصور الهادفة لتلاميذ وتلميذات في منتهى الأناقة، وهم إما في الطريق إلى المدرسة أو في الفصول الدراسية أو في قاعات المطالعة ، والكتب دائما تصاحبهم . ولقد كانت تلك الصور تنافس صور كتب اللغة الفرنسية التي كانت على أغلفتها صور أطفال فرنسيين ذكورا وإناثا بعيون زرقاء، وشعور شقراء ، وهندام فرنسي . وكأن المرحوم بوكماخ وبشموخ أنف أبى إلا أن تنافس صورة التلميذ المغربي والعربي التلميذ الفرنسي أناقة، وجمالا ،ومظهرا يوحي بكرامة المحتد، وبحسن الخلق . ولا يفوتني أن أذكر أن بعض كتب الفرنسية كانت صور أغلفتها وصورها الداخلية عبارة عن زراية بالطفل المغاربي، وهي صور تظهره بثياب رثة، وعليه علامات الفقروالبؤس . ولا أدري كيف ستكون صور أغلفة الكتب اليوم لو فكر مؤلف أن يجذو حذو بوكماخ في تزيين أغلفة الكتب المدرسية ، لا شك أنها ستكون عبارة عن صور تلاميذ بقزع في الرؤوس ،وسراويل مرخاة على المؤخرات ، ومفتوقة على الركب والسيقان ، وفي أيديهم عوض الكتب هواتف محمولة ، وسجائر ، والزريعة ، و مختلف المأكولات ، و لا وقار عليهم بل عليهم علامات الوقاحة .
أما مضامين الكتب فهي كالآتي :
1 ـ مضمون كتاب مستوى السنة الأولى موزع بين تعليم الحروف الأبجدية المصحوبة بصور ورسوم لأشخاص، وحيوانات ، وطيور، وحشرات، وزواحف ، ونباتات ،وفواكه، وخضر، وأدوات ، وبين نصوص قرائية نثرية وشعرية تتعلق بالمدرسة ، والتعلم ، والكتاب، والمكتبة ، والكتابة ، والرسم ، والأعمال اليدوية ،واللعب، والتمثيل، والرياضة ، والمظاهر الطبيعة ، وفصول السنة ، والريف ، والمدينة ، والمهن، والوظائف ، ووسائل النقل ، والعطل ، والاستجمام .وتضمن هذا الكتاب أسماء أعلام لها دلالات دينية وإنسانية مثل : يوسف ، وموسى ، وشعيب، وهي أسماء أنبياء ، و خديجة ،وعثمان، وعلي، وفاطمة ، وزينب ، وسعيد ،وخالد ،وهي أسماء صحابة ، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ،فضلا عن أعلام أخرى، وأسماء ظريفة وسهلة على النطق أطلقت على بعض الحيوانات لتحبيبها للصغار من قبيل بسبس، وفرفر، ودبدوب ،وتوتو، ونسناس . وفي آخر الكتاب معجم صغير مرتب حسب الحروف الهجائية ،وهو عبارة عن صور وتحتها أسماء من فيها .
2 ـ مضمون كتاب المستوى السنة الثانية عبارة عن نصوص قرائية نثرية وشعرية، تدور حول موضوع الدخول المدرسي والمدرسة والمعلم ، والانضباط في المدرسة ، والاجتهاد والكسل ، ومظاهر الطبيعة ، وفصول السنة ، والحرث والقنص والصيد ، والحيوانات الأليفة والمفترسة، والطيور والعصافير، والفراش، والنحل، والنمل ، والمخلوقات العجيبة ، والصحة والمرض، والتطبيب والتمريض ، والرفق بالحيوان ، والإحسان إلى الضعفاء ، وأوقات اليوم ، والتساقطات من مطر، وثلج، وعواصف ، ورياح ، و الفلاحة، والبستنة ،والشجار، والأزهار ، والأعياد الدينية والوطنية ، والحرية والاستقلال ، والعلاقات الأسرية ،والآباء والأمهات ، والتضامن والمحبة والألبسة والأثاث ، ووسائل النقل ، والعطل، والتخييم . وتجدر الإشارة إلى بداية إدراج ما يسمى بالنصوص الطويلة أو المسترسلة كانت في هذا المستوى كحكاية قميص عابد ، و حكاية الفلاح وأعوانه .
3 ـ مضمون مستوى السنة الثالثة عبارة عن نصوص قرائية نثرية وشعرية، وهي تدور حول موضوع المدرسة، والدخول المدرسي ، والخزانة المدرسية والكتب ، والعلاقة بين المتعلمين ، واللعب واللعب ـ بفتح وضم اللام ـ والموسيقى ، ومظاهر الطبيعة ، والغابة ، وفصول السنة ، والصيد والقنص ، والفلاحة، والزراعة، والحصاد ، والحيوانات الأليفة وعلاقة الإنسان بها، والمفترسة والصراع فيما بينها، والحشرات ،والطيور والعصافير ، والحكايات العجائبية ، والأعياد الدينية والوطنية، والحرف، والمهن ،والوظائف وأهميتها في الحياة ، وأعمال الأطفال ، والإحسان إلى الفقراء، والمساكين، والأيتام ،والأرامل ، ووسائل النقل جوا، وبرا، وبحرا ، والعطل والتخييم . وينتهي الكتاب بنصين مسترسلين هما : حفيد السندباد البحري، والغزال الصغير .
4 ـ مضمون مستوى السنة الرابعة عبارة عن نصوص قرائية نثرية وشعرية تدور حول موضوع المدرسة والالتحاق بها ، والفصول الدراسية وما يجري فيها من تعلم، واحترام وتقدير المعلم ، والكتب والمكتبة ، ومظاهر الطبيعة ، وفصول السنة ، والفلاحة والحرث والبستنة ، والقنص والصيد ، والحيوانات الأليفة وعلاقة الإنسان بها، والمتوحشة ، والطيور، والأسماك ، وقصص وحكايات بعض الحيوانات ، والعلاقة الأسرية ، والمنازل وما فيها والألبسة ، والإحسان إلى الضعفاء يتامى، ومساكين، وجياع ، والصداقة، والشهامة ، وحوادث السير ، والأعياد الدينية والوطنية ، والموسيقى ، والمسرح والسينما ، والسرك ، والوظائف ، ووسائل النقل ، و قضايا الوطن ، وقيمة الوقت في الحياة . ولأول مرة أدرج في الكتاب نص مسرحي ، فضلا عن نصوص مسترسلة هي الحمار الكسلان ، والأميرة النائمة ، وعنزة السيد سوغان .
5 ـ مضمون مستوى السنة الخامسة عبارة عن نصوص نثرية وشعرية تدور حول موضوع المدرسة، والفصول الدراسية ،والمعلم والتلميذ ، والكتب ، واللغة العربية ،ومظاهر الطبيعة ، وفصول السنة والقنص ، والعلاقات الأسرية ، والوطن ، والأمة العربية ، والتعاون الإفريقي ، والتضامن الدولي ، والإنسان ، والحيوان ،والطيور، والحشرات ، والأعياد، والحفلات ،والأعراس ، والأمجاد والبطولات ، والقرية والمدينة ، و العطل، والسياحة، والسفر ،ووسائل النقل ، والضيافة والكرم، والشجاعة والإقدام ، فضلا عن نص مسترسل هو الأمير السعيد .
وتجدر الإشارة إلى أن النصوص القرائية في كل المستويات تذيل بمعلومات، وإضاءات، وشروح لغوية، وأنشطة قرائية، وتعبيرية، وإملائية، وصرفية، ونحوية ،ونصوص إضافية ، وأنشطة أخرى.
ويتميز كتاب السنة الخامسة بنشر صور المؤلفين كتاب وشعراء مع تراجم مختصرة لهم ، ونظرا لقيمة هؤلاء لابأس أن نسرد أسماءهم عربا وأجانب ،وهم من العرب : محمد الخامس ، عبد المجيد بن جلون و كان له نصيب الأسد، وعلي الطنطاوي ، وابن بطوطة ، وأحمد أمين ، وإدوار حنا سعد ، وحليم دسوس ، وأحمد شوقي ، وخليل هنداوي ، وأحمد زكي ، وعائشة بنت الشاطىء ، ولطفي محمود زكي ، وأحمد الصافي النجفي ، وأحمد مختار عضاضة ، وأحمد حسن الزيات ، وعبد الله كنون ، ويوسف غصّوب ، ومعروف الرصافي ، وتوفيق عواد ، والمنفلوطي، ومحمد الأسمر ، وسيد قطب ، ومصطفى صادق الرافعي ، وأحمد الصفريوي ، ومحمد سعيد العريان ، وابن هانىء ، وبديع الزمان الهمذاني ، وأبو الفرج الصفهاني ، والجاحظ ، وإبراهيم المازني ، وتوفيق الحكيم ، وأبو القاسم الشابي ، وأحمد حسن الزيات ، وحبيب مسعود ، ومن الأجانب أناتول فرانس ، و أفونص ضوضي ، وجان كريستوف ، وجواهر لال نهرو ، وجورج سيمون ، وماكسيم غوركي ، وتيوفيل غوتي ، وأندري تيريي ، وجول ميثلي ، ولا فونتين ، وجوزيف بارد ، وأوسكار ويلد . وهؤلاء جميعا فيهم كتّاب وشعراء . وعلينا أن نتخيل تأثير نصوص وأساليب هؤلاء الأعلام في تلميذ هذا المستوى وهو يومئذ مستوى إشهادي، منه ينتقل التلميذ إلى المرحلة الثانوية وقد احتك بكل هذه النصوص الإبداعية النثرية والشعرية الراقية ، وحصّل مئات المفردات اللغوية ، ومئات التعابير والأساليب الفنية الرصينة التي تصقل الأذواق، وتقدح زناد القرائح ، وتكشف عن مواهب الناشئة المتعلمة .
ولا زال جيل الستينات يحفظ عن ظهر قلب وبفخر واعتزاز مقاطع من نصوص هؤلاء المبدعين الذين قدموا له من كل فن طرف ، ووصلوه بتاريخه ، وماضيه الحضاري الإسلامي والعربي العريق ،وبأمجاده وبطولاته ، وزودوه برصيد ثمين من القيم المختلفة، والحكم البالغة ، والدروس والعبر الثمينة .
ولقد حرص المرحوم أحمد بوكماخ على جعل سلسلة كتابه " اقرأ " تغطي اهتمامات وانشغالات جيل الستينات ، وتربطه بمحيطه الدراسي، والأسروي والبيئي ،والطبيعي ،وبثقافته ،وعاداته ، ووطنه الصغير والكبير، وعالمه الواسع ، وواقعه المعيش إلى غير ذلك من القضايا والأمور كما أشرنا إليها أثناء استعراض مضامين سلسلة " اقرأ " . ولقد كان المعلمون بحنكتهم وخبرتهم يختارون من مضامين كتب " اقرأ ما يناسب الظروف الطبيعية والمناسبات ويجيدون توزيعها ، فيعيش التلميذ الخريف والشتاء والربيع والصيف ، وهو يحتك بنصوص تتناولها ، فلا يجد فرقا بين ما يقدمه الكتاب المدرسي ، وما يجري في الواقع المعيش . ولقد تعلم جيل الستينات العديد من القيم السامية ، ولا زالت عناوين نصوص عالقة بذهنه حين يستحضرها يستحضر ما تحيل عليه من قيم ومثل عليا . ولا زال جيل الستينات يتفكه بالنصوص الفكاهية والعجائبية التي ضمنها المرحوم بوكماخ سلسلة كتبه " اقرأ " والتي قربّت منه مفاهيم الجن والشياطين ، وحوار الحيوانات، وحكاياتها الشيقة والهادفة .
فأين الأجيال اللاحقة من جيل تربى على قيم سلسلة "اقرأ " . ولقد صدقت فراسة الشيخ عبد الله كنون رحمه الله ،وفراسة المؤمن لا تخطىء حين أوعز إلى المرحوم بوكماخ بتأليف كتب مدرسية تربي جيل الستينات على قيم راقية ومثالية فكان جيل العبور بالوطن من واقع إلى آخر .
وأخيرا بقي أن أوجه كلاما إلى جيل الستينات، وأنا منهم ، وقد جاوز معظمهم سن الستين ، فأقول لهم لقد ورثكم بوكماخ شموخ الأنف، فلتشمخ أنوفكم لأنكم تلقيتم تعليمكم الابتدائي عن أعظم معلم وأعظم مؤلف ، وفي أفضل الكتب.
وكلمة أخرى أوجهها إلى الذي نشر عبر وسائل التواصل صورة التلميذ المتمدد على الأرض يقرأ كتابه أو يحفظ درسه، وقد ابتلع التمساح نصف جسده وهو لا يبالي به ، فأقول لئن نشرت هذه الصورة لتسخر من جيل الستينات، وتشكك فيما يرويه عن جديته واجتهاده، فليكن في علمك أن تمساح البرد كان بالفعل يبتلع نصف جسده ، وتنين الجوع كان يعتصر أمعاءه الخاوية ، ونار الشمع كانت تلتهم شعر ناصيته، وهو مشغول بالتحصيل ، ولم يرفع يوما صوته على معلمه ، ولم يسمع شاكيا أو متبرما بل كان صابرا محتسبا ، ولم يجرؤ أبدا على إساءة الأدب مع معلميه ، وكان يتجنبهم ، ويتنكب طريقهم فارا منهم إذا صادفوه خارج المدرسة ، ويخشى أن يسألوه عن وقت ضيعه في اللعب . لو قدر لرسام أن يرسم صورة عن جيلك أيها المتفكه بجيل الستينات الساخر منه لجاءت صورتك كاريكاتورية مثيرة للسخرية والضحك وأنت بقزعك وسروالك المفتوق على ركبتيك وسيقانك أو المرخى على مؤخرتك، لا تقلب كتابا، ولا تنجز واجبا ، ولا تقرأ ولاتكتب ،ولا تحرر، ولا تنشيء ، وإنما تحرك سبابتك فوق بلورة هاتفك المحمول لا لتقرأما خلفته الكتاب، والأدباء، والشعراء ،والمفكرون، والعلماء، والفلاسفة ، بل شغلك الشاغل الموضوعات العابثة تقضي سحابة يومك وطول ليلك في إرسال الرسائل العابثة إلى أقرانك وهمك العبث والسخرية من كل الناس على اختلاف طبقاتهم غافلا عما أنت فيه من خمول وكسل ، وقلة أدب ، وغرور, ولو اكتفيت بقراءة الجزء الخامس من سلسلة " اقرأ " لأدركت أميتك أمام جيل الستينات، وأنت لا زلت عاجزا عن قراءة وكتابة جمل وفقرات سليمة من الأخطاء اللغوية ، ولا تملك ذاكرة تحفظ ، ولا تعرف معنى للحفظ والاستظهار ، ولا ذوق لك تميّز به الغث من السمين ، ولا حس نقدي لك ، ولا وعي لك بأنك جيل زمن إفلاس التربية على القيم ، وزمن الإفلاس المعرفي الفظيع . ولا يغرنك قولهم إنك جيل الحاسوب والمعلوميات، فلن تتعلق أبدا بغبار جيل الكتب، والكراسات، والسهر من أجل التحصيل لا من أجل اللهو واللعب ،والتسكع في عالم المعلوميات بلا طائل منصرفا عما فيه من منافع وفوائد، ومعلومات ومعارف ، ومشغولا ومفتونا بالتراهات واللغو وسفاسف الكلام ، تسخر ممن هو أعلم وأشرف منك ،وله عليك ألف فضل ، وأنت مع الأسف موضوع سخرية وتندر من حيث لا تشعر .
وسوم: العدد 746