قراءة في رواية صخرة الجولان، للكاتب: علي عقلة عرسان

تعد هذه الرواية من أدب الحرب وهو (الأدب الذي يقدم رؤية حضارية تاريخية تقوم على استبصار الآليات الاجتماعية والفكرية المحركة للحرب، أو الناجمة عنها في تشكيل جمالي واع عميق) (دورية التوباد/ العدد 1/2/ لعام 1409) ولهذه الرواية مثيلات لدى عدد من الكتّاب كما في "رمضان حبيبي" لنجيب الكيلاني، وأزاهير تشرين المدماة لعبد السلام العجيلي.

 أما بطلها فهو "محمد المسعود" مواطن بسيط من جنوب سورية (حوران) مجند في الخطوط الأمامية المواجهة للعدو الصهيوني في عام 1973، يترك زوجته وأولاده خلفه وليس لهم من يعولهم، ومن هذه النقطة تبدأ عملية التذكر والاسترجاع، إذ تتجاذبه عاطفته نحو أولاده وواجبه نحو وطنه، ثم يحسم الأمر في توجه واحد وهو أنه في دفاعه عن وطنه، إنما يدافع عن زوجه وأولاده، ولكنه وهو في خندقه يتشتت همّه مرة أخرى عندما يتذكر الذين بقوا مع أولادهم من رسميين وعاديين، ولم يقوموا تجاه أسرته بما يترتب عليهم، فزوجته مضطرة لأن تعمل في الحصاد، وهو ملزم بتوفير مبلغ ما من راتبه الضئيل، فتشتد هذه المعاناة لتنقله من خلال الاسترجاع إلى معاناة سبقتها إذ اضطر للسفر إلى الكويت في ظروف قاسية ليوفر بعض المال ويجمع تكاليف الزواج، ومع تكثيف العدو لرماياته لا ينقطع تفكير المسعود في الذين خلفه من أهل وأصحاب وقرية، وآخرين لم يكونوا على مستوى أن يغزوا، أو يخلفوا غازياً في أهله؟! فهو غير واثق من أن (أحمد الحسن) صاحب الدكان سيعطي لزوجته (زينب) ما تريد وهو يعلم أن زوجها قد يعود أو لا يعود، وقد سبق أن تلكأ في إقراضهم عندما كان في الكويت.. أو يدور حوار بينه وبين أحمد الحسن من طرف واحد فهو أي الحسن كغيره يرتبطون بوطنهم من خلال توظيف المال، يقفون على القرش لا على التراب، والقرش لا وطن له، ومع ذلك فهو يدافع عنهم أيضاً متناسياً أنه الأب الغائب والعامل المتغرب الذي لم يجد في ربوع وطنه عملاً، والفقير الذي يستغله الآخرون سابقاً ولاحقاً مع تغيير في الشعارات المرفوعة لتتناسب مع طبيعة العصر.

كان كل همه في تلك اللحظات إسكات الرمايات المعادية، وقد ركزت الرواية على الحضور الذاتي والتاريخي في صور مكثفة تجعل البطل يستحضر كل معاني التضحية والصمود، فأظهر ورفاقه استبسالاً منقطع النظير، على الرغم من تدخل الطائرات وقصفها للخنادق، ويصل الخبر إلى القرية أن المسعود أصبح من المفقودين فتتضاعف المعاناة على زينب وأولادها، ويدخل هو في صراع مع العدو إذ وجد نفسه وقد بترت رجله ولفّت يده المكسورة تحيط به الضمادات، لا يستطيع أن يحدد أين هو بالضبط، ثم اتضح له أنه أسير وتنتقل الرواية إلى جو الأسر وما يعانيه الأسرى من تعامل غير إنساني على الرغم من المواثيق الدولية؟ وينتقل المسعود من الدفاع عن الوطن إلى الدفاع عن أسراره، ويحس بحنين إلى الصخر الذي كان يحتمي به كأنه أم حنون، فلا يجد سوى الإصرار والوفاء له ولم تعد الطبيعة مجرد إطار لحدث فحسب، ولكنها تتشابك في حسه إلى درجة التفاعل العضوي التام..

ومع تغيير المحقق الفظ بمحقق لطيف يزعم أنه متعاطف معه، وأنه سيؤاخذ من أجل هذا التعاطف تزداد أساليب الضغط لكي ينهار نفسياً ويجدد المسعود عزيمته ويستحضر قواه ويستعد للمواجهة؟!!

وتعود الرواية إلى القرية لتصور تحرك الطمع القديم في نفس أحمد الحسن الذي يريد امتلاك زينب واستغلال حاجتها، فيبدي تعاطفاً معها ويوحي لها عن طريق النساء أن المفقودين عادة لا يعودون مذكراً بما حصل في حرب 1967 لبعض أبناء القرية، ولكن زينب كشأن زوجات المفقودين تظهر قدراً كبيراً من الوفاء والصبر ويجد المسعود في السجن الجماعي تعاطفاً من الأسرى فيزداد تصميماً على الصبر، ويتعرض لأنواع جديدة من التعذيب الجسدي والنفسي، ويجهد المحقق (اللطيف) إلى حد الاستجداء وإشعار المسعود أنه بإصراره سيسبب له متاعب وعقوبات فعليه أن ينقذ نفسه وينقذه معه؟!

ومع تغيّر معاملة أحمد الحسن لزينب التي كان يزعم أنه يريد تجنيبها الحاجة بالزواج منها، بعدما وصل خبر مؤكد أن المسعود ما يزال حياً، وجدت زينب نفسها أكثر قوة وصبراً وأكثر تسليماً لأمر الله!

كما وجد المسعود نفسه كصلابة الصخور التي أحبها، فحمتْه وحماها، ليواجه المحقق (اللطيف) وقد كشّر عن أنيابه بعدما يئس من انهياره، إذ انفجر بكلمات بذيئة، وانهال عليه ضرباً متعمداً أن يكون في موضع الجراح، وتنتهي الرواية بانتصار المسعود الذي تسرب دمه في شقوق الأرض وقد أغمض عينيه وسعت روحه مع أرواح الشهداء راضية مرضية!

تعتمد هذه الرواية على أسلوب المنولوج الداخلي وحديث النفس الذي يشفّ عن أنواع المعاناة من خلال عواطف ومشاعر إنسانية متداخلة وقد غلب فيها السرد على لسان البطل بضمير المتكلم، مما تناسب مع عملية الاسترجاع والتذكر، وهناك تشابه بين بطلها وبطل قصة "رمضان حبيبي" لنجيب الكيلاني التي تحدثت عن الموضوع ذاته فكلاهما حقق نصراً لبلده، سواء في دحر العدو في ساحة القتال أم في الصمود في وجهه في أقبية التحقيق، وكلاهما لم يعطه وطنه ما يستحق فأحمد في (رمضان حبيبي) زُجَّ بوالده في السجن مع الدعاة ووقف يصارع متطلبات الحياة، ومحمد في (صخرة الجولان) لم يجد عملاً لأمثاله فهاجر وتغرّب، وعاد ليدافع عن وطنه الذي لم يهتم بزوجته وأولاده، ولكنهما استطاعا أن يميزا بين حب الوطن وواجب الدفاع عنه، وبين معاملة أبناء الوطن السيئة لهما، متمثلين قول الشاعر:

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة      وأهلي وإن ضَنُّوا عليَّ كرام

والكاتب هنا يحتفي بلغته أيما احتفاء حتى ليتصور القارئ أنه وصل إلى حد التنقيح، ويلمس فيها جمالاً وقوة سبك، كما تظهر له مقدرة الكاتب على الربط بين الأحداث ومتابعته لشخصياته وتحليل نفسياتهم.

وسوم: العدد 749